مُخبر مبتدئ

2019.01.18 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في المرحلة الثانوية كنت أرتدي الجبَّة والعمامة، وأمخر بهما عباب المدينة يومياً من بيت أهلي في حيّ الأعظميّة إلى المدرسة الخسرويّة تحت القلعة.

كان أهلنا يخافون علينا خوف يعقوب على ابنه يوسف، فما زالت آثار رصاص الوحدات الخاصّة على الحيطان، وما زالت عبارات (سنسحق الإخوان الشياطين) تملأ الدرّابيات، ولكنهم كانوا في الوقت ذاته على قدر من المجازفة يسمح لهم أن يتركوا لنا حرية الخيار والقرار، على رغم حداثة أعمارنا، لإكمال مسيرتنا التعليميّة وفق ما نريد ونرغب.

كانوا يقولون سرّاً وجهراً: فوَّضنا أمركم إلى الله ليحفظكم ويرعاكم، وفي مقابل ذلك كنّا نعطيهم العهود والوعود بألّا نتدخّل في السياسة، وألّا يكون لنا رأيٌ سياسي، فيكفينا ما تعرّضنا له من مصائب وويلات في أقربائنا وجيراننا ومعارفنا، وبحسٍّ فطري كانوا يباركون توجهاتنا الصوفيّة، ويرون أنَّها أحمد مغبَّة، وأسلم عاقبة.

ولكن هيهات أن نلتزم بهذه العهود التزاماً تاماً، فالموسيقى حرام، والغناء حرام، وليس أمامنا سوى أناشيد الغرام والهيام لأديب الدايخ، وصبري مدلل، وحسن حفار، وأناشيد الجهاد والعنفوان لأبي الجود وأبي دجانة، فضلاً عن خطب عبد الحميد الكشك التي كان يسخر فيها من شمس بدران وحافظ الأسد! وكانت هذه الأجواء تدفعنا بشكل طبيعي للاطلاع على تراث البنّا وقطب وحوى والمودوي جنباً إلى جنب مع كتب البوطي والرافعي، وكتب أعلام التصوف، كالإمام الشعراني، ودواوين أئمة الوجد، كالرواس والصيادي ويوسف النبهاني.

في الثلث الأخير من القرن العشرين، وفي إحدى أيام صفّ الحادي عشر سنة 1986 انتبه إليَّ في باص النقل الداخلي شاب جامعي. كان يقف في الثلث الأخير منه أيضاً. لاحظتُ ملاحظته إياي عندما بدأ يشقّ طريقه إليَّ من بين الأمواج البشريّة المتلاطمة المتراصّة. كان في كلِّ خطوة يخطوها يسحب نفساً عميقاً، ثم ينبثق من بين الركَّاب، ولأنَّه يسير بعكس التيار باتجاه السائق كان يهلُّ من بين كلِّ راكبين متلاصقين، فتبدو خاصرته أولاً، ثم كتفه، وأخيراً رأسه، كمولود يولد ولادةً مقعدية.

أخيراً صار الشاب بمحاذاتي. التقط أنفاسه أولاً، ثم سلَّم عليّ، وبدأ يسألني السؤال تلو السؤال بنعومة، وتحبّب، وإرادة تعلم. كان سؤاله الأول عن المدرسة التي أدرس فيها؟

ـــ في الثانوية الشرعية (الخسروية).

ـــ عظيم. عظيم جداً. كم كنت أتمنى أن أدرس فيها!

هززت رأسي، ولم أعلّق. فشرع ينهال عليَّ بأسئلة فقهية بديهيَّة لا حاجة إلى السؤال عنها! يرتجلها ارتجالاً، ويفتعلها افتعالاً، من أجل تمهيد للحديث، وشقِّ طريق له.

في تلك الأيام كنت أتمتّع بميزة الكشف المبكر، بل الفوري عن مشرب الشخص، وتحديداً عن الشيخ الذي ينتمي إليه، فملامح

تفرّست في وجه هذا الشاب، وأدركت فوراً من خلال رأسه المفلطح أن شيخه هو حافظ الأسد، ولا غرو فقد كان الحلبيون في تلك الأيام لا يشيرون إليه، فيما بينهم، بأبي سليمان، بل (بأبي دماغ)

كلّ امرئ، مع مرور الأيام، تغدو أكثر شبهاً بملامح شيخه، فواحد يرتخي حنكه، وآخر تضيق جبهته، وثالث تغدو عيناه مكحّلة دعجاء، ورابع تصبح شفاهه رقيقة مطبقة، ورابع يقول كلمة (فإذن) بعد كلّ جملة، وخامس تصفرُّ أسنانه وشارباه من شرب الشاي والسجائر في (الزاوية) بصحبة الشيخ ومعيته.

تفرّست في وجه هذا الشاب، وأدركت فوراً من خلال رأسه المفلطح أن شيخه هو حافظ الأسد، ولا غرو فقد كان الحلبيون في تلك الأيام لا يشيرون إليه، فيما بينهم، بأبي سليمان، بل (بأبي دماغ). كان رأس هذا الشاب السائل يشبه أيضاً رأس ذلك الشاب الذي كان يدير الاجتماع الحزبي في معسكر الصف العاشر الصيفي. وهي الفترة الوحيدة التي أُجبرنا فيها على حضور هذه الاجتماعات، لأننا كنّا، نحن طلاب الخسروية، من الجامحين. لا ننتسب إلى الحزب، ولا نحضر اجتماعاته.

ومباشرةً قفز إلى ذهني أنَّ هذا الشاب مخبر هاوٍ ظنَّ أنَّه وقع على صيد وفير، وأنّه يريد أن يستدرجني ليستفتح بي كتابة تقرير، يتقرّب به إلى الحزب، أو يبتغي من خلاله الوسيلة إلى الأمن! ومن باب المعابثة الخفيَّة، ومجاراته في إتقان دور الشيخ المجيب بدأت أتكلم بلغة فصحى، فيها ذروٌ من التشدّق، فما كان منه سوى أن تصنّع الحديث بالفصحى التي لم يكن يتقنها زيادةً في التقرّب منّي، والتودُّد إليَّ. كان يسألني، وكنت أصحِّح له:

ــ الكلمة الأخيرة ليست منصوبة، بل مرفوعة!! جواب إنَّ.

ــ آه عفواً.

ــ وهذه الكلمة منصوبة. حال.

ــ أيوا! أمرك!

ربع ساعة وأنا أصحِّح له، وهو يغصّ بريقه، ويصبر على تعنّتي وتعالمي.

نزلت من باص (سيف الدولة) في موقف الدوحة، فنزل ورائي مستكملاً أسئلته. توقفت، وقلت له: سنقف هنا، وننهي حديثنا، حتى لا أطيل عليك الطريق! فأصرَّ بشدة أن يوصلني إلى البيت! فوافقت.

بعد تلك الأشراك من الأسئلة التمهيدية التي نصبها وأراغها ظنَّ أنَّه آنسني واستمالني، وحان الوقت ليباشر اختباره:

ـــ هل من كتب فكرية تنصحني بقراءتها؟

ـــ بكل تأكيد. أنصحك بشروح المنظومة البيقونية.

شخصت عينا الشاب وقال: ما المنظومة البيقونية؟

ـــ قصيدة شعرية تحفظها، فتعرف أنواع الحديث الشريف وتعريفاتها، وبدأت سرد بضعة أبيات منها:

         وَذي منْ أقسامِ الحَديثِ عِدَّهْ .... وكلُّ واحدٍ أتى وحدَّهْ

         أَولُها الصحيحُ وهو ما اتصلْ .... إسنادُهُ ولَمْ يَشذّ أو يُعَلّْ

         يَرويه عدلٌ ضابطٌ عن مثلهِ .... مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ

أراد الشاب أن يقاطعني، لكنني أشرت إليه بيدي ليتركني أكمل:

        والحَسنُ المعروفُ طُرْقاً وغدَتْ .... رِجَالُهُ لا كَالصَّحِيحِ اشْتَهَرَتْ

        وكلُّ ما عن رتبة الحسن قَصُرْ .... فهوَ الضعيفُ وهو أقسامٌ كثرْ

ـــ لا. لا. هذا لا يهمني! أنا أريد أن ترشدني إلى الكتب الفكرية.

ـــ أنصحك بشرح الشيخ عبد الله سراج الدين، الله يمسّيه بالخير، للبيقونية.

ـــ يا شيخي دعنا من البيقونية. فهذه ليست كتباً فكريّة.

ـــ أنصحك إذن بكتاب الثقافة الإسلامية للشيخ راغب الطباخ رحمه الله. فهذا الكتاب يحدثك عن نشأة العلوم الإسلامية،و كتب التفسير والحديث والفقه. إلخ.

ـــ أليست كتب حسن البنَّا مهمة؟

ـــ هل من قرابة تجمعه مع ابن البنَّا الموظف في بلدية حلب؟

تأمَّلني ملياً. وهو يحاول أن يخمّن: هل أنا جاد أم هازئ!! فأكملتُ:

ـــ هنالك عائلتان من بيت البنَّا في حلب. عائلة مسلمة، وعائلة مسيحية. ألا تستخدم مستحضرات هامول.

ــ نعم أستخدمها في بعض الأحيان! ولكن ما علاقتها بحديثنا؟

ــ طبعاً لها علاقة. صاحب معمل هامول من بيت البنّا بحلب. كاستون البنّا.

كانت ملامحي، في تلك اللحظة، لا تشي بالتخابث، ولا الاستهزاء، ولا الترفّع، ولا التواضع، ولا التذاكي ولا التغابي! فهذا الكائن المحوط بجبَّة ذات أكمام واسعة، والمدجَّج بعمامة تزيد من طوله ربع متر، ما هو إلا غرٌّ ذو خدودٍ مشوبة بالحمرة، وقد وَخَطَتْها تباشير لحية، وهو في المحصلة مجرد فرخ! فمن أين له التخابث أو التذاكي؟!

وبلهجة فيها مسحة نزق قال الشاب:

ـــ حسن البنَّا! حسن البنَّا! الشيخ المصري المعروف.

ـــ لا أعرفه، ولكن أعرف شيخاً مصرياً من بيت البنَّا اسمه أحمد، له كتاب (الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني) هل تعرفه؟

ــ لا.

ـــ الكتاب رائع، وأنصحك أيضاً بتحقيق الشيخ شاكر للمسند. انتبه! أحمد شاكر أبو الأشبال، وليس محمود شاكر أبو فهر. والاثنان مصريان مثل حسن البنّا الذي تحدثني عنه!

ــ طيب هنالك من نصحني بكتب الشيخ سعيد حوى. ما رأيك بها؟

ـــ هل هو مصري أيضاً؟

ـــ لا يا شيخ!! هو حموي!!

ـــ إممم! هل كان يلبس الشروال أم المكلابيّة؟

سألتك عن لباس الشيخ سعيد حوى حتى أعرف إذا كان من الحاضر أم من السوق؟ هل تعرف الفرق بين أسواق الحاضر، وأسواق السوق؟

تبخّص الشاب، وحملق في عينيَّ لوهلة يريد أن يفهم مني ما أقول؟

ـــ يعني هل هو من السوق أم من الحاضر؟

هزّ الشاب رأسه يمنة ويسرة، ثم قال:

ـــ والله لا أدري!! ما الفرق بين السوق والحاضر؟ وما معنى السوق والحاضر؟

ـــ سيدي ملاّ إنت! كما تعرف فإنّ نهر العاصي يخترق حماة، ويقسِّمها قسمين: شمالي باتجاه حلب، وهذا القسم يُسمّى الحاضر، وأهله يلبسون المكلابيَّات. وجنوبي باتجاه حمص، يُسمّى السوق، وأهله يلبسون الشراويل، ولذلك سألتك عن لباس الشيخ سعيد حوى حتى أعرف إذا كان من الحاضر أم من السوق؟ هل تعرف الفرق بين أسواق الحاضر، وأسواق السوق؟

ــ لا أعرف.

ــ طيب ألا يشتري لكم الوالد لبن الربيع الحموي؟

ــ لا والله.

ـــ أنا أفضّله على اللبن البابي. يا أخي لبن الباب دسمه غليظ! أما دسم اللبن الحموي فمعقول ولطيف. جرّبوا أن تطبخوا (الأرمان) باللبن الحموي، وسوف تدعو لي أنت وعائلتك.

سكت الشاب هنيهة، وغارت الكلمات في فمه، ثم مدَّ يده مصافحاً، فمددت يدي بكل سرور وحنّيّة قائلاً: ادعلينا.

وعندما استدار راجعاً، ظننت لوهلة أنَّني سمعته يلعن المشايخ، ومن يمشي مع المشايخ.

كلمات مفتاحية