ميشيل كيلو.. الالتزام العتيق بالإنسان

2021.04.21 | 06:25 دمشق

ray-fysl-730x438.jpg
+A
حجم الخط
-A

يحتار القلب والعقل، فيما يمكن قوله في رحيل ميشيل كيلو، وأيامنا كلها خسارات نازفة لقافلة السوريين المثقلة بحرية سوريا التي اعتادت في عقدها الأخير مآسي، فاض القلب منها حزناً ودمعاً، نصرخ نتألم نقاوم، والعالم يتململ متثائباً ثم يواصل غفوته، ميشيل كيلو تاريخ سوريا المتوهج يترجل.

عندما يتحول الماء المالح إلى بحر من أسمنت ، تحتاج أشرعة السفن شرايين القلب كي تعبر للوطن، لم تعد مملكة المنفى تقوى شد الرحال لخيام جديدة مصنوعة من وبرٍ عربي أصيل وسعف النخيل في ذيل الصحراء مهما هززناها لا تطعمنا رطباً، فالوطن لا يرحل، وأحباؤه وهاماته تتهاوى في طريق حريته، خسرت سوريا بالأمس واحدا من رجالاتها الشجعان وقبطان من سفينة حريتها يرتحل، ميشيل كيلو سيرة ذاتية مسكونة بالشجن لإنسان مفكر متمرد وواضح، نصف قرن قضى جلها في مقارعة الاستبداد والظلم بالدفاع والنضال عن حلم إعادة صياغة المواطنة والكرامة الإنسانية للسوري خصوصاً وللعربي عموماً.

خسرت سوريا برحيل ميشيل كيلو، إنسانا من أصلب الرجال دفاعاً عن الحرية والكرامة وحقوق الكادحين والبسطاء، ومناضلاً صلبا ضد الطغاة والمستبدين، ترجم جزءا من مسيرته بالاشتباك المباشر مع السلطة التي استحوذت على الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية، فكان للمعتقل نصيب من سنوات عمره والمنفى الجزء الأخير لنهاية الرحلة، توحد السوريون على حزن الرحيل كما حزن كل الشرفاء المناضلين في الشوارع العربية لأنهم شعروا بمدى الخسارة وحجم الفراق ولوعة الخسران لمكافح ستبقى مآثره في ذاكرة الحالمين المناضلين من أجل الحرية في سوريا وعالم العرب الذي آمن بوحدة مصيره في المواطنة المنشودة والتحرر المأمول.

كيلو واحداً من رجال سوريا في عصرها الحديث الذين تركوا وسيتركون عميق الأثر في تاريخ الشعب السوري المعاصر وثورته المستمرة

إن الحياة شاطئ من الرمال يسير عليه الناس، منهم من يترك أثراً ومنهم من لا يترك، وكيلو واحد من رجال سوريا في عصرها الحديث الذين تركوا وسيتركون عميق الأثر في تاريخ الشعب السوري المعاصر وثورته المستمرة، التي آمن بها حتى النخاع، وحتى وصيته الأخيرة للسوريين التي حملت بعضا من نخاعه المقاوم: لن يحرّركم أي هدف غير الحرية فتمسّكوا بها، في كل كبيرة وصغيرة، ولا تتخلّوا عنها أبدا، لأن فيها وحدها مصرع الاستبداد، فالحياة هي معنى للحرية، ولا معنى لحياةٍ من دون  حرية. هذا أكثر شيء كان شعبنا وما زال يحتاج إليه، لاستعادة ذاته، وتأكيد هويته، وتحقيق معنى لكلمة المواطنة في وطننا..

ـ لا تنظروا إلى شعبكم ووطنكم من خلال أهوائكم وإيديولوجياتكم وهوياتكم، الآنية والضيقة والسطحية، بل انظروا إلى ذلك كله، من خلال شعبكم ووطنكم، عامل غنى وإثراء وتفاعل وتكامل وتعاضد، فالتقوا بمن يختلف معكم، بعيدا عن انحيازاتكم الهوياتية أو الإيدولوجية التي كانت تصوّره عدوا لكم، فيما عدونا جميعا هو الاستبداد الذي سلب حقوقنا وحرياتنا..

لا تنسوا يوما أن قضية فلسطين هي جزء من قضايانا الأساسية، ففلسطين قضية حرية وكرامة وعدالة، وقضية شعبنا، أيضا، كذلك، وتلك القيم السامية لا تتجزأ. كفاحنا مع شعب فلسطين جزءٌ من كفاحنا ضد الاستبداد، وبالعكس. ولتبق قضية استعادة الجولان في مقدّمة أجندتنا الوطنية.

كيلو كان ثوري الممارسة وأمثولته تدعوا السوريين إلى الحديث القليل والفعل الكثير، وخفض الصوت ورفع العمل

في وصيته التزام عميق وعتيق، فمهما كانت الرؤية شاقة على عيون الذاهبين نحو حرية سوريا، لم يعد من السهل المضي نحو السبيل الحر سوى الانحياز للشعب ولمطالبه، وليس على السوريين إلا التمسك بحريتهم ووحدتهم كمعيار وطني أول ستهزم الاستبداد حتماً، وصية تشكل الحجر الأساس ودليل رغبة عارمة للنفاذ من المأساة المستمرة  لشعب قدم أغلى التضحيات في مسيرته الكفاحية، ضد الأسد الطاغية من الأب للوريث، تكثيف الدروس والعبر في سيرة الراحل الكبير ميشيل كيلو ومحطاته التاريخية في ظل ظروف الواقع السوري، جمعها كيلو في سطور وصيته في زمن ومنعطف تاريخي مهم، ومن أجل توظيف هذه العبر والدروس في خدمة حرية كرامة الشعب السوري، فالمفكر والمثقف والكاتب كيلو، كان ثوري الممارسة وأمثولته تدعوا السوريين إلى الحديث القليل والفعل الكثير، وخفض الصوت ورفع العمل، إنه ميشيل كيلو عنوان الالتزام العتيق بالإنسان وحريته.