icon
التغطية الحية

موشح على مقام السيغا.. يوم خضع عبد الوهاب لامتحان لصوته في حلب

2023.08.31 | 17:03 دمشق

آخر تحديث: 31.08.2023 | 18:07 دمشق

الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب
الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب
تلفزيون سوريا ـ بثنية الخليل
+A
حجم الخط
-A

يفتخر أهل مدينة حلب بقلعة مدينتهم، ويفتخرون بالفستق المسمى على اسمها (الفستق الحلبي)، ويفتخرون بأن مدينتهم امتحنت الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب ـ واسمه غني عن التعريف ـ قبل أن تسمح له بالغناء فيها. يهتم أهل المدينة بالغناء والنشيد والأصوات الجميلة، ويعتنون بها عناية خاصة، ما يفسر إنجاب هذه المدينة لمجموعة كبيرة من أجمل الأصوات المعروفة على مستوى سوريا والوطن العربي والعالم.

عبد الوهاب في زيارته الأولى إلى حلب

ومن التشدد في العناية بالأصوات، وحماية الجمهور من الأصوات النشاز، حادثة غريبة حصلت لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، كادت تفسد زيارته الأولى إلى مدينة حلب.

في شبابه، وعلى الأرجح في عام 1930، تعاقد عبد الوهاب مع متعهد على إحياء حفلتين في مسرح كبير مكشوف في حلب، يتسع لأربعة آلاف مقعد (مسرح حديقة لونا بارك). حان موعد الحفلة الأولى، ودخل عبد الوهاب إلى المسرح، وفتحت الستارة، ففوجئ بوجود عدد قليل جداً من الجمهور، ما بين 20 و 30 شخصا فقط.

يقول محمد عبد الوهاب في مقابلة تلفزيونية مع الإعلامي السوري خلدون المالح: "اندهشت، وصرت في حيرة من أمري، هل أغني أم أنسحب، لكنني أحسست أن الحاضرين أناس مخضرمون، ليسوا شبابا، أناس كبار في السن، وبعضهم ملتحٍ، فقررت أن أغني تلك الليلة، وأضع كل اهتمامي بالغناء، فغنيت وهم ينظرون لي نظرات غريبة، وقررت أن لا أغني في الحفلة الثانية المقررة بعد يومين، وأخبرت المتعهد بذلك".

ويقول الباحث الموسيقي د.سعد الله آغا القلعة: "لاحظ محمد عبد الوهاب أن هذه المجموعة الصغيرة، ليسوا أناسا عاديين، وإنما مجموعة تفهم بالموسيقا، فهم كانوا يضبطون الإيقاع معه على أيديهم".

غنى محمد عبد الوهاب، وقدم أجمل ما عنده، واستعرض جمال صوته، واستعرض قدراته وتمكنه من أصول الغناء. ومع ذلك تطلب الأمر من المتعهد بذل جهد كبير لإقناع عبد الوهاب بأن يحيي الحفلة الثانية، ويتراجع عن قراره إلغاء الحفلة.

مفاجأة على نفس المسرح

وبعد يومين، جاء موعد الحفلة الثانية، ودخل محمد عبد الوهاب إلى نفس المسرح، وتفاجأ مرة أخرى. يقول في مقابلته مع التلفزيون السوري: "ذهبت وأنا منتظر أن أرى 20 أو 25 شخصا، ورفعت الستارة، وإذا  4 آلاف شخص جالسون، وألف  شخص واقفون. قلت لنفسي ما هذه المدينة الغريبة، حفلة يحضرها 20 وحفلة بعد يومين يحضرها 5 آلاف شيء غير معقول، غير طبيعي؟ وغنيت، وبعد إسدال الستارة ذهبت للمتعهد وقلت له ما هي الحكاية؟ ما هو السر في أن حفلة يحضرها 20 شخصا وحفلة يحرضها 5 آلاف شخص؟ فقال لي ألا تعرف حلب!؟ حلب بلد الذواقة، بلد التواشيح والأغاني والقدود الحلبية، عندما يأتي مغن جديد، لا يحضر أهل المدينة ليسمعوه، إلا بعد إرسال كبار السميعة ليسمعوه، فإذا زكوه، يأتي الناس لسماعه، وعلى قدر التزكية، وإذا لم يزكوه، لا يأتي أحد".

ومما لا شك فيه أن خبراء الغناء والموسيقا الحلبيين أعجبوا بعبد الوهاب إعجاباً كبيراً. يدل على ذلك الحضور الكبير في الحفلة الثانية، ويدل عليه اجتماع كبار الملحنين والموسيقيين والشعراء الحلبيين مع عبد الوهاب بعد حفلته الثانية. فقد اجتمع معه ملحن حلب الكبير عمر البطش، والموسيقي والمغني علي الدرويش، وعازف الكمان الشهير سامي الشوا (الذي أخذه عبد الوهاب لاحقاً إلى مصر، وعمل معه لفترة طويلة).

موشح حلبي على مقام السيغا

في الاجتماع مع عبد الوهاب حصلت حادثة لا تقل فرادة عن الحادثة الأولى. يقول الموسيقي وسيم فريد: "كان محمد عبد الوهاب يحب مقام السيغا، فسأل عمر البطش هل يوجد موشحات حلبية على مقام السيغا؟ فقال البطش نعم يوجد، وفي الحقيقة لم يكن يوجد موشحات حلبية على هذه النغمة النادرة، فقال محمد عبد الوهاب أسمعني ماذا لحنتم من موشحات على هذه النغمة، فقال البطش لقد تأخر الوقت، غدا أسمعك. وأمضى البطش الليل في تلحين موشح على نغمة السيغا، وأسمعه في اليوم التالي لمحمد عبد الوهاب الذي طرب له وأعجبه".

وأكد الباحث الموسيقي الدكتور سعد الله آغا القلعة هذه الحادثة، وأضاف : “عمر البطش لحن في تلك الليلة 3 موشحات كاملة على نغمة السيغا الأصلي، وهي نغمة لم تكن تستعمل في تلحين الموشحات في حلب، وليس موشحاً واحداً، وذلك ليقطع كل شك ممكن لدى محمد عبد الوهاب في وجود موشحات حلبية على نغمة السيغا الأصلي".

وما زال الحلبيون يذكرون هذه القصة بكل فخر، لكن الفخر الآن ممزوج بشيء من الحسرة والأسف، فلا يوجد في حلب اليوم امتحانات للمطربين الجدد. وتستقبل المدينة وتستمع لمطربين، ولأنصاف مطربين، ولأصوات لا يمكن أن تنجح في أي امتحان إذا وجد. ومع ذلك، ما تزال حلب أفضل حالاً من كل حواضر الشرق في هذا المجال، فهي ما تزال مدينة الغناء الأصيل، والأصوات القوية والجميلة.