(موتُ الإنسان) سوريًّا

2023.03.20 | 05:30 دمشق

(موتُ الإنسان) سوريًّا
+A
حجم الخط
-A

قضية (موت الإنسان) هي من مجموعة قضايا نوقشت في حقل الفلسفة الأوروبية المعاصرة، والفرنسية منها تحديدا، وكانت تنشط في سياقات ربما تبدو للوهلة الأولى بعيدا عن السياسة ومشاغلها، لكن متى كانت مشكلة فلسفية بمنأى عن التأويل السياسي؟ ومتى كان الحراك السياسي في ثقافة ما خاليا من محمولاته الثقافية والاجتماعية بل وحتى تلك التي تتعلق بحياة كل فرد في المجتمع؟ وإذا كان (موت الإنسان) سؤالا نابعا من بيئة أوروبية تربعت على قمة الحداثة والتمدّن، فإنه سؤال قابل للتداول في أي بيئة في هذا العالم، لأنه عالم مشترك ولم تعد مقنعة تلك الحواجز الوهمية فيما بين أصقاعه. فما يحمله تعبير موت الإنسان من أفكار تتصل بهيمنة نمط قائم على التفكيك، والهدمِ، وتقويض البنى الفكرية والأنساق الخفيّة، يوحي بأن هذه الموضوعات خاصة باللحظة الأوروبية التي وجدت نفسها وجها لوجه أمام استفحال ظواهر الجدب الروحي والتشظي الوجداني والأخلاقي، وهذا كله صحيح ومنطقي لارتباطه بطبيعة الحياة في مجتمعات أوروبا، لكن ألا يمكن جعل هذه القضية (أي موت الإنسان) صالحة للاستعمال فكريا وثقافيا وسياسيا في حالتنا العربية، والسورية تحديدا؟ كون هذه الحالة هي آخر ما تمخض عنه الواقع المأساوي للصراع بين الحرية والاستبداد؟

سيكون الجواب بالإيجاب نظريا وواقعيا وبلا تردد، بل قد تصبح الأمثلة الواقعية هنا لا حصر لها وتتفوق على كون القضية مجالا للتنظير والتأسيس الفلسفي التجريدي، فنحن في سوريا كحال بلاد (العروبة)، نعاني من شحّ الفكر الفلسفي إلى حد مرعب. وهذا لا يعني خلوّ حياتنا من وقائع تعتبر نموذجية و(كلاسيكية) للتدليل على قضية (موت الإنسان). ونحن هنا لا نتكلم عن (قتل)ِ الإنسان السوري الذي مورس ويمارس منذ عقود من الزمن، تبلورت بصورة لا سابق لها منذ آذار 2011.

ماذا نقول عن الإنسان السوريّ الذي لم يعرف حتى الآن حياة سياسية حقيقية، ولا حداثة ممكنة ولا ثقافة حقوقية ولم يشكّل تراكما نفسيا وثقافيا للإحساس بمعناه وقيمته؟

فإذا كان الإنسان حسب فلسفة موت الإنسان لم يعد له وجود واقعيّ كما كان سابقا، أي أنه تمّ تشويه كينونته ومحوها وتفكيك بنيانها إلى حدّ فقد هذا الإنسان معناه وصار جثة تتحرك، وإذا كان هذا مع وعينا لأن الإنسان الأوروبي كما قلنا يعيش ذروة الحداثة ومنجزاتها وخيراتها وكل إمكانيات مستقبلها، ومع ذلك يتحدث الفكر الفلسفي الأوروبي عن موت الإنسان؛ فماذا نقول عن الإنسان السوريّ الذي لم يعرف حتى الآن حياة سياسية حقيقية، ولا حداثة ممكنة ولا ثقافة حقوقية ولم يشكّل تراكما نفسيا وثقافيا للإحساس بمعناه وقيمته؟ ماذا نقول ونحن ندرك فداحة الخواء والقحط الذي هبط بالذات السورية إلى أدنى حضيض؟ حتى ليمكن القول إن سوريّاً ما حين يقرأ عن موت الإنسان في أوروبا، فقد يشعر بالمفارقة الهائلة وفقدان التوازن وقد يعبر عن ذلك بالتهكم والسخرية، ولسان حاله يقول: تعالوا إلى سوريا لنريكم موت الإنسان على حقيقته ومن غير تنظيرات ولا بحوث فلسفية!

نحن أمام حالة غريبة هنا، فالمسارات التي أدت إلى نشوء فكر موت الإنسان لم تتوفر في بلادنا على المستوى المعرفي، نحن لم نمرّ بمراحل الوعي السياسي والحقوقي والمدنيّ في الغرب، وهو ما نتج عنه مشكلات يقال إنها مشكلات (بنيوية) طالعة من قلب الحياة هناك، ومع ذلك فنحن نمتلك أمثلة (باهرة) على النتيجة التي وصلوا إليها مع فارق أساسيّ، هو أننا لا نملك وقتا للترف والرخاء لنتحدث عن القضية من باب أنها معضلة فلسفية! بل هي معضلة حياتية متعينة على الأرض وعلى مدار الوقت وفي كل ميادين نشاطنا من الأسرة حتى أعلى درجات السلم السياسي والاقتصادي. فأينما وليت وجهك في سوريا منذ استلام العسكر للسلطة، سوف تقع عينك على (موت الإنسان). وستكون المفارقة فجّة حين نتأكد من أننا وكردة فعل على مسببات موت الإنسان لدينا، التجأنا إلى حلولٍ ومخرجاتٍ تعتبر هي بحد ذاتها عائقا أمام نشوء مجتمع سياسيّ حقوقيّ متطور معاصر، لأننا حرمنا من الخضوع العادل للقانون مثلا، صرنا نلجأ إلى العشيرة والطائفة والعلاقات المنتمية إلى ما قبل مفهوم الدولة، ونحن في ظننا أننا (نتدبر) أمورنا ونتشاطر على الأزمات التي راكمها النظام السياسيّ ومنعنا من البحث في إيجاد حلول منطقية لها ودفعنا إلى أن نفعّل هوياتنا الضيقة التي يستفيد هو من نموها لأنها تغذي بنيانه الاستبدادي الكاره لسلطة القانون وسيادة الدستور. في حين أن الأوروبيّ الذي ينظّر لموت الإنسان؛ يجد نفسه في النهاية مواطنا يحافظ على الدولة ويدافع عنها لأنها تمثله خير تمثيل، تمثل حتى حقه في نقدها والسخرية منها حسب القنوات القانونية والسياسية! وشتان ما بين بطرٍ هناك وفقرٍ فاحشٍ في السياسة والقانون هنا.

الإنسان عندنا ميتٌ لأنه وعى على سدّ هائل من الموانع والكبت السياسي والرعب الأمنيّ، فقتلت فيه الإرادة والمشيئة، وتشظى الوعي فيه واقعيا ووجوديا وليس تنظيريا. ميتٌ لأنه مضطر لأن يلجأ لأجهزة الأمن حتى في إقامة عرس أو طهور أولاد أو فتح دكان متواضعة! ميت لأنه أمام لوثان فظيع من إرهاب السلطة وغياب الدولة.

إنساننا ليس ميتا لأنه لم يعانِ من قضية مأزق اللغة واستغلاقها في العلاقة مع الفكرِ مثلا! لم يمت لأنه حرم من التمتع بنتائج ثورة (كوبرنيكية) على كل صعيد! لم يمت لأنه حرم من السجال حول الفرق بين نيشته وهابرماس! لم يمت لأنه خارج الحوار بين بنيوية رولان بارت ليفي وشتراوس!

إنساننا ميت لأنه حرم من السياق الطبيعي والحقيقي الذي يوصله إلى كل هذه السجالات والحوارات، ميت لأنه محجوبٌ عن إنجاز حداثته وهويته كمشاريع ذاتية تتطلب وعيا بالذات والسياسة والقانون والمجتمع والدين، محجوبٌ عن ممارسة أتفه حقوقه في الحصول على بيت وسيارة وعمل مستقرّ، والتعبير عن رأيه في القضايا التي يعايشها وينتمي إليها أو تلك التي يتشارك فيها مع مواطني العالم الحديث، حينئذ سوف يكون لديه فرصة ذهبية ليقول رأيه في موت الإنسان أو نهضته، في حداثته وما بعد حداثته.

في حين تحمي الدولة الغربية باعتبارها دولة قانون وحقوق، مواطنها الذي يعاني نفسه من قضية (موت الإنسان)؛ سوف يحرم (المواطن) السوريّ من وجود من يحميه حتى من القتل

كيف لا يموت إنسان مهدد بالاعتقال عشر سنوات ليس لأنه شارك في تخريب مؤسسات الدولة، وليس لأنه حاز سلاحا غير مرخص هدد به جيرانه، بل لأنه قرأ منشوراً سياسياً مؤلفاً من صفحة واحدة! كيف لا يموت إنسان يخاف من ابنه وزوجته وابن عمه وصديقه وزميله في العمل؟

في حين تحمي الدولة الغربية باعتبارها دولة قانون وحقوق، مواطنها الذي يعاني نفسه من قضية (موت الإنسان)؛ سوف يحرم (المواطن) السوريّ من وجود من يحميه حتى من القتل، بل يجد نفسه أمام دولة تبتلعها أجهزة الرعب (وليس الأمن) تقتله وهي تضحك منه وعليه، تقتله بشكل ماديّ وليس رمزيّا. كيف لهذا الإنسان أن يحصل على بطر السؤال الفلسفي عن قضايا ناقشها روجيه غارودي وهيدجر ومشيل فوكو حول (موت الإنسان)؟ لقد خلق هذا الواقع رغما عن الإرادة والطبيعة، إنسانا ميتا لا حراك له.

وكان على هذا الإنسان أن يؤجل إعلان موته وتشييعه بكرامة (إن وجد مثل هذا التشييع) وريثما يصل إلى موته البيولوجي عليه أن يموت فعليا (ألف موتة) وليس على سبيل البلاغة الأدبية!