مهندسو السيادة السوريّة

2022.09.01 | 07:29 دمشق

العلم الروسي
+A
حجم الخط
-A

في عالمٍ سوري محكوم بالتعقيد والتشابك، عمّت الفوضى، واتسع نطاق التدخلات وازدادت دوائر التعسف، حتى يبدو الحديث عن "السيادة السورية" مجرّد غطاء لأحلاف مضمرة وأقطاب معلنة؟. غطاء يكفي لجعل السيادة مجرد أضغاث أحلام، أو في أحسن الأحوال تحويلها من فكرة مؤسسية مطلقة إلى مبدأ نسبي يحتمل القسمة والتشارك.

لنوضح أكثر.. ليس بداية بعام 2013 عندما نشرت مواقع مقربة من حزب الله والنظام السوري فيديو يُظهر عناصر يرتدون ملابس عسكرية، يغطون وجوههم، ويتأهبون لرفع راية سوداء كُتبت عليها عبارة "يا حسين" على مئذنة مسجد عمر بن الخطاب في القصير بريف حمص، لتعلو صيحات الملثمين بعبارات دينية، يرافقها دوي طلقات نارية أطلقت ابتهاجاً.

وليس نهاية بعام 2022 حيث شهدت ساحة الأمويين بدمشق فعالية شعبية، شارك فيها المئات من الشباب السوريين، بمناسبة يوم العلم الروسي، وذلك في إطار مشاركة الشعب الروسي احتفالاته بهذه المناسبة، التي تضمنت إطلاق ألعاب نارية، كما رفع المشاركون فيها عشرات الأعلام السورية والروسية، وحملوا العلم الروسي بالحجم الكبير تعبيراً عن العلاقات الراسخة التي تجمع بين البلدين.

لنفهم ما يحصل تماماً، دعونا نعود إلى جذر المشكلة.

كان حافظ الأسد فتى في التاسعة عشر حين بدأت الانقلابات العسكرية في سوريا المستقلة قبل ثلاث سنوات، وشاباً ينضج في عقد الخمسينات النشط والمضطرب سياسياً، ثم ضابطاً وشريكاً مؤسساً في خماسي اللجنة العسكرية البعثية السرية في مصر أيام الوحدة السورية المصرية، قبل أن يشارك عسكريين بعثيين وناصريين في الانقلاب البعثي الشهير عام 1963، ويكون شريكاً أساسياً في انقلاب 1966، ثم بطل انقلاب 1970 وسجّان رفاقه السابقين.

لا شكّ الدرس الذي يُرجّح أنّ الأسد استخلصه من هذه التجارب "الكثيفة سياسياً وعسكرياً" أنّ الحفاظ على الحكم في سوريا أهم من الوصول إليه، وثمّة ثمن باهظ يُدفَع دائماً لأجل حماية العرش. كلّ المؤشرات تدل على ذلك، من الأغاني التي تمجده إلى المجازر، مروراً بتماثيل لا تحصى له و"المظاهرات الشعبية العفوية" والسجون

لا شكّ الدرس الذي يُرجّح أنّ الأسد استخلصه من هذه التجارب "الكثيفة سياسياً وعسكرياً" أنّ الحفاظ على الحكم في سوريا أهم من الوصول إليه، وثمّة ثمن باهظ يُدفَع دائماً لأجل حماية العرش. كلّ المؤشرات تدل على ذلك، من الأغاني التي تمجده إلى المجازر، مروراً بتماثيل لا تحصى له و"المظاهرات الشعبية العفوية" والسجون. كذلك خطاباته وتحالفاته الزئبقية، وليس أخيراً مهاراته المتنوعة في استراتيجية اللعب على الحبال السياسية.

وكي يعزّز هذا الأبد، بنى الأسد الأب تشكيلات عسكرية وظيفتها أمنية، وفي الوقت نفسه قيّد الجيش النظامي بأن جعل كلّ تشكيل عسكري مكون من قائد للتشكيل، ومسؤول حزبي، ومسؤول أمني، فغدا هو الحاكم العسكري لسوريا بعدما تحوّل الجيش من جيش وطني مفرط التسييس إلى جيش نظام منزوع السياسة، أو أداة منفعلة للسياسة، وعملياً حرس بريتوري للطغيان.

وصار الأسد، تباعاً، يوصف بأنه عبقري وحكيم وعظيم. الغرض من هذا التعظيم، الذي شكّل وظيفة ثابتة لكلّ مؤسسات السلطة، يتعدّى إقناع الناس بعبقريته وحكمه وبقائه الأبدي إلى إرعابهم، وشلّ فكرة الاعتراض في نفوسهم. ويبدو أنّ عموم السوريين أدركوا أنّ نظاماً على هذه الدرجة من العنف مستعد لفعل كلّ شيء كي يبقى في السلطة. كلّ شيء حرفياً.

على صعيد متصل، أضافت استراتيجية "العنف الممنهج" شروخاً جديدة بين السلطة الحاكمة وبين مكوناتها الاجتماعية. من ثم احتكرت مصادر القوة بمزاوجة السياسة والاقتصاد، واستسهلت بناء الولاء السياسي للنظام على أساس علاقات وشائجية، وأيسرها علاقات الولاء بقرابة الدم أو العشائرية أو الجهوية.

ونتيجة لفقدانه الشرعية التي تُسوِّغ بقاءه، وتضمن طاعة الناس له، ركن النظام السوري الشمولي إلى استخدام العصا والجزرة، ووضع المواطن المسحوق بين الصمت والرجاء، باستخدام سيمفونية "الترهيب حتى الترغيب"، التي تمثل، في جوهرها، القصور الذي يجب على السلطة المستبدة أن تتعايش معه، وأن تتصارع ضده حتى الانحلال الاجتماعي التدريجي، ولاحقاً الانهيار الوطني المحتوم.

وباتجاه الانهيار، كخطة ناجعة لبقائه، ربط النظام السوري المناسبات والأعياد الثقافية والاجتماعية بخدمة فكره القائم على التهميش، وإبراز نظام الحزب الواحد الرافض لأيّ تعدد لا يتلاءم مع أهدافه في الدولة. ثم تحويل الثقافة ومؤسساتها إلى "آلات تخدم استبداد عائلة الأسد"، بينما كان من المفترض بهذه المؤسسات أن ترسم أفقاً للمعرفة يتطور من خلالها الفكر السياسي، وتحمي الحقائق السورية للأحداث منذ تأسيسها إلى فترة تسلّم الأسد للسلطة في بداية السبعينيات، وهي تاريخ "بداية التزوير الصريح والمباشر رسمياً" للأحداث التاريخية.

هنا يفيد الالتفات إلى روزنامة الأيام الوطنية، فالعيد الأكبر منذ عام 1970 هو ذكرى "الحركة التصحيحية (المباركة) التي قادها السيد الرئيس حافظ الأسد". استخدم النظام هذا اليوم لتكريس ذكرى وصوله إلى السلطة والبقاء فيها ضمن سياسة استبدادية عانى منها السوريون طوال عقود. في حين انزوى ما يُفترض أنه العيد الوطني الجامع، يوم جلاء القوات الفرنسية من سوريا، إلى مكانة ثانوية.

وبهذا احتفل السوريون خلال نصف قرن بمناسبات وهمية صاغها نظام الأسد. طُبعت في ذاكرة السوريين، كالنقش في الحجر، ليُسحب من تحت قدمَيّ البلاد بساط الأصالة والسيادة تدريجياً، في وقتٍ تمّ فيه إعادة هيكلة الذاكرة الوطنية بحيث يشغل حافظ الأسد الموقع المؤسّس الذي لا يدانى. على سبيل الذكر، بموجب المرسوم رقم 104 لعام 1988، قرّر الأسد تغيير تاريخ موعد الاحتفال بعيد الأم في سوريا من 13 أيار/مايو إلى 21 آذار/مارس، ليكون بذلك عيداً رسمياً في الدولة، دون ذكر عيد "النيروز" الذي يصادف اليوم نفسه. بقصد تغييب السوريين عن احتفالٍ يُعتبر مدخلاً للتعرّف إلى ثقافة مكوّن مجتمعي أساسي، وهم كرد سوريا.

في السياق يعتبر فرض تسمية عيد "المعلم العربي" في دولة لها خصوصية بتنوعها العرقي والقومي، واقتصاره فقط على العرب دون غيرهم من أبناء الشعب السوري من قوميات أخرى، يعتبر دلالة أخرى لتهميش النظام لكل الأفكار والعقائد التي تعارض خططه.

تأسيساً على ما تقدّم ثمّة سؤال ملحّ واجب طرحه هنا: هل هُزمنا، حقيقة، مذ باع الأسدُ البلدَ لأجل الأبد، لتغدو السيادة محض وهمٍ وادعاء من قبل نظام براغماتي فاشي عابر لكلّ الأنظمة الشمولية التي عرفتها البشرية عبر التاريخ؟

تأسيساً على ما تقدّم ثمّة سؤال ملحّ واجب طرحه هنا: هل هُزمنا، حقيقة، مذ باع الأسدُ البلدَ لأجل الأبد، لتغدو السيادة محض وهمٍ وادعاء من قبل نظام براغماتي فاشي عابر لكلّ الأنظمة الشمولية التي عرفتها البشرية عبر التاريخ؟. أخشى أنْ نعم. زاد الطين بلّة عندما رأى كثيرون أنّ الانتصار المحقّق يكمن في الاعتقاد أنّ شمسنا قد تشرق من موسكو أو واشنطن أو إسطنبول...إلخ.

هزمنا عندما غلبنا الخوف، فصدّقنا أننا ضعفاء، وما من وطن يلملم هزائمنا. عندما سمحنا لعلمٍ آخر ينغرز كسكينٍ في حلقِ البلاد، ولقدمٍ غريبة تعيث فساداً بين العباد. عندما وضعنا المشكلات خارجنا، وتهرّبنا من تحمّل انكساراتنا، ونقلنا مسؤلياتنا إلى مربّع "الغير"، بينما ما يزال الأسد يأخذ دور "الجوكر" في لعبة "البوكر" وهو مدرك لهذا الدور ويستمرئه، ويعلم أنّه بهذا الدور يكسب زمناً أطول في السلطة، في ظلّ تصادم الإرادات وارتهان السلطة لقوى الحلفاء، وإيغالها في الدم السوريّ.

مهزومون، نعم، بانتظار قيامةٍ سورية خالصة تباركها كلمات شكري القوتلي التي هنأ بها الشعب السوري بتحقيقه الاستقلال يوم 17 أبريل/نيسان 1946: "بنو وطني... هذا يوم تشرق فيه شمس الحرية الساطعة على وطنكم، فلا يخفق فيه إلا علمكم، ولا تعلو فيه إلا رايتكم... هذا يوم الحق، تدوي فيه كلمته، يوم يرى الباطل فيه كيف تزول دولته، وكيف تضمحل جولته..".