من يخرج من التاريخ سيخرج من الجغرافيا أيضاً

2020.08.01 | 00:12 دمشق

643b315e-c2cd-4486-b2ee-fb16ab45a712_cx0_cy4_cw0_w1597_n_r1_s.jpg
+A
حجم الخط
-A

في الثاني والعشرين من شهر نيسان الماضي، أعلن الحرس الثوري الإيراني عن نجاحه بإطلاق أول قمر صناعي عسكري، من دون أي مساعدة خارجية.

لم يهتم العرب وإعلامهم وساستهم كثيراً بهذا الحدث، رغم أن عدة دول أبدت قلقها، وكانت أمريكا في المقدمة، إذ اعتبر متحدث رسمي باسم الخارجية الأمريكية أن هذا الفعل هو تحدٍ لقرارات مجلس الأمن، وتحدث وزير الخارجية عن مواصلة إيران لنشاطها النووي، وعن تحرشاتها في الخليج، وعن استمرار دعمها للميليشيات التابعة لها، ولم يتقاعس الرئيس الأمريكي "ترامب" عن ممارسة هواياته في التغريد على تويتر فكتب: " نتابع الموضوع عن كثب".

إذاً، وبعد محاولات عديدة فاشلة نجحت إيران بإطلاق قمرها الصناعي، يبدو الأمر غير ذي أهمية للوهلة الأولى، لكن بتعمق أكثر في قراءة دلالة هذا الحدث يُمكن أن نقرأ عدة رسائل بالغة الخطورة، يحاول القادة العرب إدارة الظهر لها، شأنهم في ذلك شأن تعاطيهم مع كل الأمور ذات البعد الاستراتيجي، والتي سترسم مصير هذه المنطقة ربما لقرن قادم.

الرسالة الأولى تضمنها الإعلان عن مهمة القمر الذي تم إطلاقه، فهو كما وصفه ضابط رفيع المستوى في الحرس الثوري: "قمر صناعي عسكري للمراقبة"، لقد تعمدت إيران التسمية، فقد كان بإمكانها كما كل الدول الأخرى أن تعلن عن أهداف علمية أو بحثية أو خدمية للقمر، بينما يكون نشاطه الأساسي هو الجانب العسكري، إذاً، تعمدت إيران القول إنها ذاهبة إلى المواجهة.

الرسالة الثانية التي قالتها إيران،أن المضي في مشروعها العسكري لن توقفه العقوبات، ولا تفشي كورونا، ولا تردي الأوضاع المعيشية للإيرانيين، ولا.. ولا.

الرسالة الثالثة وهي الأخطر والأهم، وهي أن البرنامج الصاروخي الإيراني أصبح متطوراً بما فيه الكفاية لكي يشكل تهديداً حقيقيا لكل دول العالم، فالدول التي تتمكن من تصنيع صواريخ تحمل قمراً صناعياً، يُمكنها أن تُنتج صواريخ يصل مداها إلى ثلاثة آلاف كيلومتر وأكثر، ويُمكن لهذه الصواريخ أن تكون محملة برؤوس نووية أو كيميائية، وبوجود قمر صناعي يُمكن لهذه الصواريخ أن تصيب أهدافها بدقة عالية.

في منطقتنا هناك ثلاث دول فقط تمتلك برنامجاً صاروخياً متطوراً، هي (إسرائيل وتركيا وإيران)، فقد تم إنهاء البرنامج العراقي، والبرنامج السوري، ويخضع البرنامج المصري لمراقبة شديدة واتفاقات سرية غير معلنة، تجعل منه مضبوطاً وليس بإمكانه الانتقال إلى مرحلة متقدمة فعلا.ً

ليس لدى الأنظمة العربية كلّها دون استثناء، أي محاولة لفعل أي مشروع بالمعنى الاستراتيجي، يُمكن أن يحمي الشعوب العربية ومصالحها مستقبلاً، فالمشروع الوحيد الذي تجمع عليه الأنظمة العربية دون استثناء هو مشروع "الكرسي الدائم"، وهي من أجل مشروعها هذا تُسخّر كل شيء، حتى لو أدّى ذلك إلى خراب اقتصادها، ودولها، وقتل وتهجير شعوبها.

وحدها الدول الإقليمية التي تتنافس مع إيران للسيطرة على هذه المنطقة، تُحاول التصدي للخطر الإيراني على مصالحها، وتنخرط في سباق محموم لرسم ملامح المرحلة القادمة.

فالمشروع الوحيد الذي تجمع عليه الأنظمة العربية دون استثناء هو مشروع "الكرسي الدائم"، وهي من أجل مشروعها هذا تُسخّر كل شيء

تصاعدت بوتيرةٍ عاليةٍ التفجيرات الغامضة داخل إيران، والتي استهدفت في معظمها أهدافاً عسكرية، تعمل على تطوير برامج عسكرية نووية أو صاروخية، وإن كان التستر على هذه التفجيرات والجهة التي تقوم بها لايزال سارياً، فإنّ معظم التحليلات والمؤشرات تذهب إلى قيام "إسرائيل" بها.

من جهة أخرى تذهب تركيا بعيداً في هذه المواجهة، فهي أعلنت عن إنجازات عسكرية مهمة، صاروخية، أو في صناعة وتطوير الطائرات المسيّرة، ليس هذا فحسب بل ذهبت للانخراط في المعركة الدائرة في ليبيا بشكل علني، وأرسلت جنوداً إلى أذربيجان، وأصبح تهديدها واضحاً في منطقة المتوسط، مع تصاعد التوتر بينها وبين اليونان وقبرص ومصر، يُضاف إلى كل هذا وقائع ما يحدث داخل سوريا، وعودة الحديث من قبل شخصيات تركية عديدة عن مدينة "الموصل" العراقية.

مقابل كل هذا، وفي وجه هذا الخطر القادم، على الدول العربية كلّها في منطقة الشرق الأوسط، يذهب القادة العرب إلى ممارسة الكذب والخديعة على شعوبهم، وإلى زيادة التبعية والاستسلام للقوى الخارجية، فمصر التي فشلت في تحدي "سد النهضة" مع إثيوبيا، مع ما يعنيه هذا من نتائج كارثية علي مستقبل مصر وشعبها، تقرر إرسال جنودها إلى ليبيا، وتتحدث عدة جهات عن وصول جنود مصريين إلى سوريا، والسعودية صاحبة أكبر اقتصاد عربي تواصل سعيها لتطبيع علاقتها مع "إسرائيل" للمضي في "صفقة القرن" حيث "إسرائيل" المستفيد الأكبر منها، في الوقت الذي تتحمل السعودية معظم تكاليفها، وتتم على أرض عربية.

أما الدول الكبرى، فهي أيضاً تعمل لتكريس مصالحها في هذه المنطقة، والتي تشير كل معطيات السياسة والاقتصاد إلى أنها ستكون مطمعاً للجميع، فهي منطقة عاجزة عن الدفاع عن مصالحها ووجودها، منهوبة، ومحكومة بمافيات لا ترى في التاريخ إلا كرسي سلطة.

عندما يأتي الحديث عن سوريا وشعبها يُصبح المرّ علقماً، وتُصبح حياة شعب ومصيره مجرد أدوات في أيدي الآخرين، أدوات للبيع والاستثمار، وفي كتابه "الغرفة التي شهدت الأحداث" يخبرنا "جون بولتون" المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي، كيف حاول الرئيس الأمريكي التواصل مع طاغية دمشق، من أجل الإفراج عن ستة مواطنين أمريكيين يُعتقد أنهم في السجون السورية، فما هو مهم لترامب ليس الشعب السوري، ولا عشر سنوات من هذه المأساة التي لم تعرفها البشرية بعد الحرب الثانية، وببساطة ليس المهم لترامب مصير حتى المواطنين الأمريكيين الستة، لولا أن إطلاق سراحهم سيُشكل دعماً له في حملته الانتخابية للوصول إلى الرئاسة الأمريكية مرة ثانية.

في ظل تفكك سوريا، وتفاقم الخطر المحدق بوجودها وبحدودها، لا يفكر من يحكمها بالحديد والنار، إلا في نهب ما بقي لدى شعبها المنهك من الفقر والحرب والحصار، وتفشي كورونا وانهيار البنية التحتية بكاملها سواء الصحية أو الخدمية، أو الزراعية والصناعية إلخ، فيُحاصصهم في المعونات التي تأتيهم من أفراد أو جهات في الخارج، ويضيف عليهم الضرائب، فقد وافقت اللجنة المكلّفة بالتصدي لفيروس كورونا على إضافة مبلغ قدره 200 دولار إلى سعر تذكرة السفر، بالنسبة للعائدين إلى سوريا، لقاء حجرهم ليلة واحدة في فندق (إيبلا الشام) القريب من مطار دمشق الدولي، وإجراء مسحة سريعة لـ"كورونا" تصدر نتيجتها خلال ٢٤ ساعة، هذا فضلاً عن إلزام السوري الداخل إلى سوريا بتصريف مئة دولار بالسعر الذي قرره مصرف سوريا، والذي يساوي نصف السعر الحقيقي للدولار.

أما ما يُسمى بالمعارضة الرسمية، فقد اكتملت فصول المهزلة، حين تبادل نصر الحريري وأنس العبدة مواقعهما في رئاسة الائتلاف وهيئة التفاوض.

هل نمضي الآن كلنا إلى خارج التاريخ، وهل تشهد العقود المقبلة خروجنا من الجغرافيا أيضاً؟