من كابول إلى أوكرانيا.. التاريخ الذي يعيد نفسه دون أن يتعلّم الطغاة

2022.04.26 | 05:22 دمشق

war_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

يكرّر البشر دومًا مقولة "التاريخ يعيد نفسه" ويردفونها عادة بعبارةٍ أخرى مفادها؛ أنّه من الضروريّ أن نقرأ التاريخ بغية استكشاف الهفوات والأخطاء التي ارتُكبت على مدار العصور، إلّا أنّ ما يحدث على أرض الواقع مخالفٌ لما ننادي به نظريًا؛ إذ يبدو التاريخ في أماكن وأوقات معيّنة مجرّد تكرارٍ للأحداث السابقة، وهنا قد يسأل المرء نفسه عن الجدوى من تلك الفلسفات والنظريّات التي تحضّه على ذلك، وفي الوقت نفسه تتجاوز تلك النظريات الحكّام؛ الطغاة خصوصًا، فلهؤلاءِ قوانين تخصّهم وحدهم، وليسوا معنيين بالقوانين التي تشمل الناس العاديين، بل ربّما تكون تلك القوانين قد صِيغت من أجلهم وعلى مقاسهم، وتصبّ في صالحهم بالدرجة الأولى، بغضّ النظر عن مصلحة شعوبهم التي تبدو دائمًا وأبدًا كآخر درجةٍ في سلّم اهتماماتهم.

ما يحصل اليوم من غزو روسيّ لأوكرانيا؛ يدلّ على أنّ الطغاة لا يقرؤون التاريخ جيّدًا ولا يتعلّمون من أخطاء غيرهم، ولا من أخطائهم حتّى

للاتّحاد السوفييتي ووريثته روسيا؛ تجارب وتاريخ عريق من الحروب والغزوات المتكررة التي نجح بعضها، بينما مني كثيرٌ منها بالفشل؛ ولعلّ غزو الاتّحاد السوفييتي لأفغانستان الذي وُصف في مرحلة لاحقة بـ (غلطة كابل) هو التجربة الأكثر فشلًا ومرارةً في تاريخه؛ فقد كانت غلطةً من النوع الطويل استمرت ما يقارب عشر سنوات، حتّى وصول جورباتشوف إلى الحكم وإصداره الأوامر بانسحاب الجيش من أفغانستان، وصرّح: "إن دخولنا أفغانستان كان خطيئة"، هذا التصريح شجّع الشاعر (ألكسندر كاربتيكو)، الذي عاش جانبًا من حرب أفغانستان إلى القول: "لقد كان خطأً كبيرًا أن نذهب إلى أفغانستان، ولكننا يمكن أن نتعلم من أخطائنا، الحرب جعلتنا أكثر حكمة، وأكثر قدرة على التفكير بوضوح في أنفسنا ووطننا". لكن ما يحصل اليوم من غزو روسيّ لأوكرانيا؛ يدلّ على أنّ الطغاة لا يقرؤون التاريخ جيّدًا ولا يتعلّمون من أخطاء غيرهم، ولا من أخطائهم حتّى.

منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا أخذ الخبراء والمحلّلون يتساءلون عن السيناريو الذي ستواجهه موسكو نتيجة العملية العسكرية التي قامت بها، وقد وضعوا نصب أعينهم مثالين في التاريخ، الأول عندما غزا الاتحاد السوفييتي تشيكوسلوفاكيا في 1968 وخرج عمليًا أقوى، والآخر عندما غزا أفغانستان وأعقب ذلك سلسلة أحداث أدت إلى تفكك جمهورياته.

لم يكن الشعب السوفييتي يعرف حقيقة مهمة قواته المسلحة الذاهبة إلى أفغانستان، كما أنّ الجنود الذين قتلوا في المعارك حُظر أن يذكر أو يكتب على قبورهم؛ أنهم ماتوا في أفغانستان. هذه الحرب التي راح ضحيتها آلاف الجنود السوفييت الذين عادوا للاتحاد السوفييتي في توابيت من الزنك، لم تسمح السلطات السوفييتية بفتح التوابيت، أو معرفة أسباب الوفاة؛ لأنها أسرار عسكرية، الأمر الذي ضاعف شعور الناس بالمرارة والغضب نتيجة الفقد الذي لا ينفكّ عن محاصرتهم في أوقات وحقب متقاربة قد تشمل العائلة الواحدة بأجيالها المختلفة.

مع تزايد وصول توابيت الزنك التي فيها جثث الجنود السوفييت؛ بدأ الشعب يكتشف حقيقة الحملة السوفييتية على أفغانستان، وأن ما قيل له عن مساعدة الأصدقاء في أفغانستان، هو الذي أدى إلى هذا الكم الكبير من الخسائر في الأرواح، وأن ما يقال عن ترحيب الشعب الأفغاني بالتدخل العسكري، لم يكن صحيحًا، بدليل كمية الخسائر الكبيرة التي وقعت في صفوف جيشه.

لقد وضعت حرب أفغانستان الاتحاد السوفييتي في عزلة سياسية شبه كاملة، فيما عدا دول حلف وارسو، وبعض الشركاء الذين لهم مصلحة مع موسكو، كما وضعت حدًا لإشعاع الأيديولوجية الماركسية في العالم، فيما عدا دول الكتلة الاشتراكية؛ إذ تضررت الأحزاب الشيوعية في العالم بشكل هائل من "غلطة كابل"، وفقدت كثيرًا من مصداقيتها، وبدأ الانحسار العام للحركة الماركسية في مختلف أرجاء العالم، برّرت الحكومة السوفييتية للرأي العام السوفييتي، أسباب تدخّلها في أفغانستان على أنه واجب وطني؛ يهدف إلى الدفاع عن الثورة الأفغانية (نيسان) أبريل 1978م، في مواجهة الإمبريالية الأميركية والإقطاعيين الأفغان. في البداية لم يعلق الرأي العام على هذا التبرير نظرًا لاعتياده على هذا الأسلوب في حالات مماثلة، وهذه المبررات سقطت مع عودة الدفعات الأولى من الجنود السوفييت لبلادهم مرة أخرى بعد مشاركتهم في الحرب.

يقدر عدد الجنود السوفييت الذين خدموا في أفغانستان خلال الحرب بمليون ونصف مليون جندي؛ هذا العدد الضخم كان عاملًا أساسيًا للمعارضة في الاتحاد السوفييتي، فعند عودتهم إلى بلادهم، وبدلًا من أن يكونوا موضع شكر لإنجازهم الوطني ـ كما كانوا يعتقدون ـ فوجئوا بأنهم ضحية لعدم فهم المجتمع السوفييتي لمهمتهم التي ذهبوا من أجلها، ممّا يرجح أن هذا الأمر كان بداية التداعي العسكري للنظام كلّه، ويعتقد كثيرون أن التدخل العسكري في أفغانستان كان له أثر كبير ومباشر في انهيار الاتحاد السوفييتي، كما أن الخسائر المادية ـ مهما عظمت ـ لن تتساوى مع مشاعر الظلم التي شعر بها المقاتل السوفييتي؛ بل إنّ بعض المفاهيم الأيديولوجية لهذا المقاتل قد اهتزت لديه ولدى المجتمع المحيط به، بالإضافة إلى الخسائر البشرية في الأرواح والتي وصلت ـ وفقاً لتقديرات الخارجية السوفييتية ـ إلى نحو 15 ألف جندي قتيل، و36 ألف جريح، و311 ألف مفقود.

إلّا أنّ أهم الدروس على الإطلاق، هو الكشف عن مدى عمق الأزمة، التي أحدثتها الحرب في داخل المجتمع السوفييتي، ولم يكن متصورًا ـ بالطبع ـ أن تحدث أزمة سياسية عميقة في الاتحاد السوفييتي، كما حدث في فرنسا مثلًا بعد حرب الجزائر، أو في الولايات المتحدة الأميركية بعد حرب فيتنام، ومع ذلك فإن التاريخ سوف يسجل أن هذه الحرب كانت بمنزلة المستنقع الذي سقطت روسيا في خضمّه وأنّها كرّرت الأخطاء التي ارتكبتها كلّ من فرنسا وأميركا في الجزائر وفيتنام؛ هذه الأزمة أدت إلى ظهور رأي عام في الاتحاد السوفييتي يقرّ بالخطأ الذي ارتكبوه في غزو أفغانستان وضرورة الانسحاب منها وهذا ما حصل بالفعل.

لم تقم روسيا وزنًا للتجربة الفاشلة لأسلافها السوفييت في غزو أفغانستان، ولم تأخذ منها الدروس والعبر؛ ووفقًا للباحث الأميركي دان نيجريا الذي عمل سابقًا في مكتب التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية الذي صرّح مؤخّرًا: "إنّ التاريخ قد يعيد نفسه؛ حيث تواجه روسيا فشلًا في محاولتها لاحتلال أوكرانيا، وفي خضم هذه العملية تتكبد روسيا خسائر فادحة في القدرة العسكرية والقوة الاقتصادية والموقف الدولي".

النزاعات الإقليمية لا يحسمها الأقوى عسكريًا غالبًا، مهما استخدم فيها من معدات حديثة، لأنّ حسابات القوة يجب أن تضع في الاعتبار عاملًا رئيسًا هو قدرة الشعوب الصغيرة على المواجهة والتضحية

وخلص نيجريا إلى القول: "إنّ غزو أوكرانيا كان خطأ فادحًا في التقدير، فقد اعتقد بوتين أن الأمر سيكون مثل غزو المجر في عام 1956، أو تشيكوسلوفاكيا في عام 1968، مما جعل الاتحاد السوفييتي أقوى؛ إلّا أنها في الحقيقة أشبه بحرب أفغانستان 1979- 1989 التي تفكك بعدها الاتحاد السوفييتي، وأصبح عديد من الجمهوريات المكونة له مستقلة".

من المؤكّد أنّ النزاعات الإقليمية لا يحسمها الأقوى عسكريًا غالبًا، مهما استخدم فيها من معدات حديثة، لأنّ حسابات القوة يجب أن تضع في الاعتبار عاملًا رئيسًا هو قدرة الشعوب الصغيرة على المواجهة والتضحية، وفي التاريخ أمثلة وشواهد حيّة على شجاعة الشعوب وقرارها مواجهة المحتلّ بالرّغم من التفاوت في القوى والأسلحة والمعدّات؛ فشعب أفغانستان ضحى بمليون ونصف المليون شهيد، عدا الجرحى والمفقودين، إضافة إلى اللاجئين والمشردين في سبيل استقلال بلاده، ولعلّ الأوكرانيين اليوم يفعلون الشيء نفسه حين قرّروا المقاومة والدفاع عن أنفسهم، مخالفين بذلك كلّ التوقّعات التي ذهبت إلى أنّ هذه الحرب ستُحسم خلال أسبوعٍ واحد لصالح الروس الذين اعتقدوا ما اعتقده أسلافهم السوفييت يوم ذهابهم إلى أفغانستان للقيام بعمليّة محدودة.