من سيرة مجانين سوريا

2019.01.22 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عندما أصبح مشفى ابن خلدون للأمراض العقلية والنفسية خط تماس بين الجيش الحر المتقدم بريف حلب وقوات النظام، في مطلع 2013؛ بث إعلاميون معارضون تسجيلاً يظهر أحد نزلائه، رجل في حوالي الأربعين، من حي صلاح الدين الحلبي الثائر، يخاطب بشار الأسد غاضباً وهو يقول: «نحن أطفال معاقين ننقصف بالطيران؟! ما في ضمير! ما في وجدان! ما في ذمة!». فيما يشكك مواطنه وزميله جورج في هذه الرواية قائلاً: «ما حدا شاف الطيارة الضربتنا. ناس بيقولوا سورية، إي ما حدا شافا! أنا قلتلن بعتقد إسرائيلية أميركية، وبيجوز تركية. كل واحد بحكي شي... إي ما حدا شافا!».

ينقل طبيب اختص في المشفى، قبل الثورة، صورة مريعة له. القذارة تملأ المكان، ومهاجع المرضى تخلو من الأسرّة ومن التجهيزات المعقولة. دعك عن مهاجع الخطرين التي يتبادلون فيها العدوان والاغتصاب، وأخيراً جناح الاحترازيين الذي كان يضم بضعة نزلاء من الأشد عنفاً ضمن ساحة مكشوفة مسورة، يرمى لهم الطعام من خارجها ويقضون حاجتهم فيها. لا علاج لأحد، كما يقول الطبيب، إلا بعض الأدوية المرخية والصدمات الكهربائية. الهدف خفض حيوية النزلاء كي لا يثيروا المتاعب، والمحافظة عليهم أحياء بحد أدنى. كان انتهاك الكرامة أمراً عادياً، فيما كانت النساء معرّضات لانتهاكات جسدية من بعض العاملين. «يحكم» هذه الإقطاعة غير الإنسانية والبعيدة عدد من أطباء العصبية غير المؤهلين باختصاصات نفسية دقيقة، والإداريين، يليهم طاقم تمريض فظ وجشع، ثم مستخدمون، وبعض الحراس.

كان انتهاك الكرامة أمراً عادياً، فيما كانت النساء معرّضات لانتهاكات جسدية من بعض العاملين. «يحكم» هذه الإقطاعة غير الإنسانية والبعيدة عدد من أطباء العصبية غير المؤهلين

عندما وصلت المعارك إلى المشفى، وإلى قرية «الدويرينة» المجاورة التي أخذ منها اسمه الشعبي، أعلن مديره عجز المشفى عن الاستمرار في العمل، بعد أن تراجع عدد العاملين من 300 إلى أقل من 10، مناشداً الأهالي القدوم لاصطحاب أقاربهم المرضى. غير أن عدداً قليلاً من الأسر سيستجيب لهذا النداء.

في الأيام الأخيرة من 2012 ستسيطر كتائب متعددة من الجيش الحر والفصائل الإسلامية على المشفى، متهمة قوات النظام بالالتجاء إليه واستخدام نزلائه دروعاً بشرية، وباحتجاز سجناء سياسيين على أنهم مرضى عقليون، سواء من معتقلي جماعة الإخوان المسلمين في الثمانينات أو من المتظاهرين أيام الثورة. وبناء على ذلك قال شابان مسلحان من الذين سيطروا على المشفى إنهم أطلقوا بعض نزلائه هؤلاء، بالاستناد إلى ملفاتهم وإلى الحديث معهم. فيما أتاحت أجواء الاضطراب لمرضى آخرين التفلت إلى الريف المحيط.

ستشير معركة المشفى إلى عامل كان جديداً وقتها هو المجاهدون العرب. فبين من قتلوا على أسواره يُذكر «الشهيد الليبي هارون العيسى الهاشمي» الذي يشرح برومو تكريمي سيرته، منذ ترك دراسته الجامعية في مصراتة ليلاحق قوات القذافي وحتى «نفيره» إلى سورية وانضمامه إلى جبهة النصرة قبل أشهر. أما الأغرب حينها فهو اتهام أحد المقاتلين المحليين من «لواء الهجرة» بالحصول على «سبيّة» من النزيلات. ما اضطر «أبو صدام» إلى الظهور في تسجيل، بصحبة عروسه المحجبة وعقد زواجهما، يبينان فيه أنها أُدخلت المشفى بسبب تآمر أهلها عندما لاحظوا ميلها إلى ترك دينها المسيحي واعتناق الإسلام، وأنها تزوجت المقاتل برضاها التام.

سيعجز الجيش الحر عن تأمين المرضى وضبطهم والعناية بهم، طبعاً، ما دفع قائد كتيبة «بشائر النصر» إلى الاستنجاد بـ«هيئة الأمر بالمعروف ونصرة المظلوم» المشكلة في مدينة حلب، والتي نقلتهم إلى مبنى مناسب في حي مساكن هنانو وتكفلت بمتابعة علاجهم ورعايتهم. بعد أشهر سيتضح أن هذا المقر المؤقت غير آمن في مواجهة قوات النظام على الطرف المقابل، مع تسرّب بعض المرضى وتوغلهم الأخرق في الجبهات وتعرضهم للقنص، فتم نقلهم إلى مكانين في حلب القديمة، في وقت قررت فيه منظمة «أطباء عبر القارات» دعم إعادة افتتاح المشفى، باسمه القديم «ابن خلدون»، ولكن في اعزاز بريف حلب.

في المشفى الجديد سيتأثر النزلاء بالجو فينادون «ساقط ساقط يا بشار»، وينظمون وقفة احتجاجية، وسيعلنون انشقاقهم عن «كتائب الأسد المجرمة» وانضمامهم إلى الجيش الحر، وعن تأسيس لواء مسلح خاص، بشكل يعقبه الابتهاج والتصفيق والحماس. أما جورج فسيرفض الاستجابة لتحريض عاملين في المشفى للكلام عن سرقات اختلقوها مازحين، ويقول: «إينا سرقات؟ إي كلياتنا حرامية! أنا كنت برّة حرامي!».

في المشفى الجديد سيتأثر النزلاء بالجو فينادون «ساقط ساقط يا بشار»، وينظمون وقفة احتجاجية، وسيعلنون انشقاقهم عن «كتائب الأسد المجرمة»

خلال هذه السنوات سيتوالى اكتشاف عائلات النزلاء لأماكن أبنائهم. وعندما كان التنقل متاحاً بين شطري حلب جرت استعادة بعضهم إلى مناطق النظام، فيما ظل عدد آخر في القسم الثائر المعرّض للقصف، ثم للحصار، وأخيراً للتهجير الذي لم يسلم منه بعض المرضى.

على الضفة الأخرى كان النظام قد استعاد السيطرة على المبنى الأصلي للمشفى، وأخذ بتأهيل أقسام منه وفق الإمكانات، وصولاً إلى إعادة افتتاحه بعد أن كان ضحية لاعتداء «هيستيريا الإرهاب وجنون التكفيريين». وها هم نزلاؤه يتحدثون لقناة «سما» شبه الرسمية عن أن مرضهم كان بسبب «الحرب والأزمة والإرهابيين»، فيما تتوالى صور إعادة إعمار المشفى وتشجيره والنشاطات التي يقيمها من موسيقى ورسم ورياضة.

منذ أيام أعلن الإعلام «المحلي» للمشفى، المتمثل في صفحته على فيسبوك، عن إقامة مباراة بكرة القدم بين فريقي المرضى والأطباء. انتهت، حسب الصفحة، إلى التعادل بثلاثة أهداف لكل منهما. قبل أن تتدخل قناة «سبوتنيك» وتكشف أن فريق المرضى قد فاز في الحقيقة. ورغم أن النتيجة التي ذكرتها الفضائية، وهي 3-2، لا تثير حماساً كبيراً، إلا أنها أوردتها بعنوان لافت: «المرضى العقليون يكتسحون أطباءهم بتحد نادر في حلب»... لتعلن القناة الروسية أخيراً نصر «مجانين سوريا» على دكتورها.