من سيدفع لإعمار سوريا؟

2018.06.10 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مانحو المال من دول ومؤسسات لإعمار البلدان التي أصابتها الحروب يقومون بتمويل المشاريع وفقاً لمصالح محددة، وهي عادة تتراوح بين السياسي والاقتصادي، بالطبع من دون إغفال عامل الأمن القومي لبعض الدول، والتي ترى أنه من مصلحتها الدفع نحو الاستقرار، وفي التاريخ المعاصر، كان تمويل المشاريع في الدول التي دمرّتها الحروب متفاوتاً، تبعاً لمكان الدولة ومكانتها، وقد لعبت عوامل استراتيجية لمصلحة بعض الدول أكثر من دول أخرى، فقد قدمت الولايات المتحدة في عام 1947 "مشروع مارشال"، لمساعدة أوروبا على إعادة إعمار بناها التحتية، واستعادة عافيتها الاقتصادية، وضخت أمريكا حوالي 13 مليار دولار خلال أربع سنوات (1948-1952)، 85% منها على شكل هبات غير مسترجعة، وقد استفادت 17 دولة أوروبية من هذا المشروع.

كان الدافع الأمريكي وراء دعم أوروبا متعدد الأوجه، لكن عامل الأمن القومي الذي فرضه الصراع مع الشيوعية هو الأهم، فقد أرادت أمريكا بناء تحالف استراتيجي في وجه الاتحاد السوفيتي، لكن العامل الاقتصادي المتعلق بتوسيع السوق الرأسمالية كان حاضراً بقوة في قلب المشروع الأمريكي، مضافاً إلى ذلك جملة القيم الليبرالية المشتركة بين الولايات المتحدة وأوروبا، وقد اعتبرت تلك القيم، من وجهة واضعي السياسات الأمريكية، على غاية كبيرة من الأهمية في سعي أمريكا لبناء شراكة راسخة مع أوروبا، على الرغم من الدمار الهائل الذي أصاب بلدان أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

في آسيا وأفريقيا، طحنت الحروب البينية، أو الحروب الأهلية، عدداً من الدول، خلال القرن الماضي، لكن الاهتمام العالمي بإعادة إعمار تلك الدول بقي ضعيفاً، خصوصاً في البلدان التي لم تشهد تحولاً سياسياً وبيروقراطياً يقضي على الفساد، كما أن الحرب على الإرهاب في دولة مثل أفغانستان لم تنته حتى الآن، وعلى الرغم من ضخ أموال كبيرة في أفغانستان إلا أن واقع الانقسام القبلي والفصائلي ما زال يحول دون إعمار البلد، أو إحرازه أي تقدم اقتصادي، وفي السياق ذاته يمكن تصنيف العراق، والذي لم يشهد استقراراً حقيقياً، على الرغم من خروج القوات الأمريكية في عام 2011، وما يتمتع به العراق من إمكانات نفطية هائلة، تبخرت عائداتها في الصراعات الداخلية، بالإضافة إلى الفساد الممنهج من قبل الطبقة السياسية.

إيران تمكنت في العراق من تحقيق مصالحها وسط حالة الفوضى العارمة، ولم تدفع نحو عملية إعادة إعمار منظمة، بل أن عملية إعادة إعمار منظمة وحقيقية في العراق كان من شأنها أن تقف، من حيث النتائج، ضد هيمنة إيران على العراق.

وفي سوريا، لا يمكن حتى الآن وضع تصورات وأرقام حقيقية عن تكلفة إعادة الإعمار، فمعظم الدراسات التي خاضت في الآثار الاقتصادية الكارثية للسنوات الماضية هي دراسات تقريبية، في ظل أوضاع مضطربة لم تسمح بوجود دراسات متكاملة، لكن معظم الدراسات تتحدث عن مئات مليارات الدولارات، خصوصاً في مجال البنى التحتية، لكن عملية إعادة الإعمار لا تتعلق فقط بإعادة إعمار البنى التحتية، وإنما أيضاً بعملية تفعيل البنى الاقتصادية، وإحياء دورة الإنتاج، وهو ما يعني سلسلة متكاملة من الخدمات.

إن الصراع الدائر على سوريا صراع متعدد المستويات استراتيجياً، لكن من المؤكد أن اهتمام الدول المنخرطة في هذا الصراع هو اهتمام متفاوت، كما أن سياسات هذه الدول نفسها متباينة في التعامل مع وضع مثل الوضع السوري، فإيران تمكنت في العراق من تحقيق مصالحها وسط حالة الفوضى العارمة، ولم تدفع نحو عملية إعادة إعمار منظمة، بل أن عملية إعادة إعمار منظمة وحقيقية في العراق كان من شأنها أن تقف، من حيث النتائج، ضد هيمنة إيران على العراق.

الطرف التركي يبدو منشغلاً بحدوده الجانبية، وبتأمين أمنه القومي، كما أن تموضعه المحصور في شمال وشمال شرق سوريا، لا يسمح له بالتفكير على مستوى شامل في عملية إعادة إعمار سوريا، وبناءً عليه، فإن الطرف الروسي يبدو الأكثر انشغالاً من حيث الهيمنة، ومن حيث الأهداف الاستراتيجية، بعملية إعادة الإعمار، لكن الوضع الاقتصادي الروسي، مضافاً إليه الميل العام للسياسة الروسية (وبشكل خاص سياسات الإنفاق المالي)، لا يصبّان في مصلحة دفع أموال سائلة في عملية إعادة الإعمار، بل أن روسيا تتوقع أن تستفيد، عبر شركاتها الحكومية والخاصّة، من المال الذي يمكن أن يقدمه المانحون.

الاهتمام الاستراتيجي، من حيث الأمن القومي، موجود لدى دول الخليج، فما حدث في سوريا استدعى تغييرات كبيرة في سياسات الخليج الداخلية والخارجية، كما أن التهديد الاستراتيجي الإيراني يجعل دول الخليج طامحة، نظرياً على الأقل، إلى رؤية حالة من الاستقرار في سوريا، كما أنها قادرة، على الرغم من التحولات السلبية في أسواق النفط منذ سنوات، أن تسهم بشكل كبير في ضخ أموال كبيرة في إعادة إعمار سوريا، وتفعيل الحياة الاقتصادية.

لكن الإسهام الخليجي، وأيضاً الأمريكي والغربي، سيكون مرتبطاً بنتائج الصراع على سوريا، وخصوصاً الوجود الإيراني، وبناءً عليه، فإن روسيا مطالبة من أجل إقناع الدول الخليجية والأوروبية بالمساعدة في عملية إعادة إعمار سوريا بتقليص مساحة النفوذ الإيراني، عسكرياً وسياسياً، وهو ما يفسر إلى حد كبير التصريحات الروسية المتعددة حول ضرورة مغادرة القوات الأجنبية للأراضي السورية، فموسكو تدرك أن إنهاء العمليات العسكرية، أو سيرها نحو النهاية، ليس هو الجزء الأصعب من عملية تثبيت نفوذها في سوريا، بل هو الجزء الضروري لكن غير الكافي.

إن استحقاقات الاستقرار ليست أقل من استحقاقات الحرب، فتوطيد موسكو لنفوذها، وحصد مكاسب اقتصادية، لا يمكن أن يحدث من دون حد مقبول من الاستقرار السياسي، وهو ما يتطلب إيجاد رؤية سياسية للمرحلة المقبلة، بموافقة دول الخليج وأوروبا وأمريكا، لضمان إسهام هذه الدول في مرحلة إعادة الإعمار، والتي بدأت بعض دوائر صنع القرار بالعمل على وضع تصورات لتكلفتها المالية، وطريقة إسهامها، والبحث عن شركائها من السوريين.