من سوريا إلى إسطنبول إلى لاهاي

2018.07.20 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

سبع سنوات عجاف، مرت على السوريين فمزقتهم في الأرض شر ممزق، ولم تبق مدينة في هذا العالم الصغير، لم تحفل بجموع من اللاجئين أو العابرين منهم، فحيثما تنقلت بك الأحوال، تجدهم في الساحات، تشي بهم لهجتهم السورية الواضحة، وصوت حديثهم الذي لا ينتهي.

يفرون من مدن متخمة بالقتل والترويع المستمر، إلى مدن أقفلت أبوابها من كثرت ما تدفق إليها منهم، إلى العبور بحرا عبر طوافات لا تصلح إلا لمن قصد أن يلقي بنفسه، في أحضان موت محقق.

مازلت أذكر كيف وقف صديقي، الهارب من القتل في مدينتي حلب،

ما زالت الصحف والفضائيات، تبدي تارةً وتخفي تارةً أخرى، صوراً لغرقى سوريين، يضمون أطفالهم الغرقى إلى صدورهم، ويتمسكون بهم في رحلة الموت.

في أحد الشواطئ التركية، يفاوض زوجته، كيلا يصعد جميع أولاده في مركب واحد، متمسكاً باحتمال نجاة البعض، إن أودى الغرق بالبعض الآخر، فقد تقبل بمرارة فكرة أن يموت بعضهم، في سبيل أن ينجوا الشطر الآخر.

وما زالت الصحف والفضائيات، تبدي تارةً وتخفي تارةً أخرى، صوراً لغرقى سوريين، يضمون أطفالهم الغرقى إلى صدورهم، ويتمسكون بهم في رحلة الموت، تقذف ببعضهم الأمواج إلى شواطئ مختلفة، ويبتلع البحر آخرين لن نسمع عن حكاياتهم شيئا، وسيطويهم الغياب كما فعل بأسلافهم مرارا في سجون الأسد.  

كيف وصل السوريون إلى أن يصبح الموت ضيفا مألوفا، وربما لم يعد الموت أسوأ الضيوف، فالآلاف يفضلون الموت، على أن تختطفهم العصابات الأسدية، والميليشيات الداعمة لها، فهم يعرفون بدقة هول التعذيب والإجرام، الذي ينال من يتعثر به الحظ، فيقع في براثن تلك الوحوش الضارية، التي أطلقها نظام الأسد في كل شارع سوري.

ولهذا تجدهم يقذفون بأنفسهم إلى البحر، والمصير المجهول، الذي يحمل بين جنباته مع احتمال الغرق القريب، احتمال العبور إلى الضفة الأخرى.

وفي الضفة الأخرى يتبدل لون البر في كل حين، فالقوانين تتبدل في كل مناسبة أو حملة انتخابية، وربما ساهم هذا التدفق الكبير لمئات آلاف السوريين، في تغذية تيار الإسلامفوبيا، والذي استثمره اليمين المتطرف في أوربا عامة، ليكون رافعة له في انتخابات السنوات الأخيرة.

وبعدها سيصطدم الناجون بحاجز اللغة، التي سيعجز شطر كبير منهم عن الإلمام بها في الوقت المتاح، كما أنهم سيجدون من ينافسهم على جنسيتهم السورية، وليس غريبا أن تجد أفريقياً، لا يتقن من العربية إلا اسم حلب وحي الحميدية، يدعي أنه سوري ناج من اضطهاد نظام الأسد.

كما سيكون الكثير منهم وخاصة الأطفال والنساء، عرضة للاستغلال في سوق العمل السوداء، انزلاقا إلى الاستغلال في تجارة المخدرات والجنس، وتجارة الأعضاء البشرية، وغيرها كثير مما يصعب حصره.

وهنا في إسطنبول، لم توفر المعارضة في حملتها الانتخابية، استثمار وجود السوريين، كورقة ضغط على خصمها السياسي، ولمرات متكررة كانت تزج بهم في برنامجها الانتخابي، ملوحة في كل مناسبة بإعادة السوريين، إلى قاتليهم ونظامهم المجرم، إلا أن الأمر انقلب على أصحابه، فشطر كبير من مناصريهم انقلبوا عليهم، وصوتوا لخصمهم السياسي، فمصالح الكثير منهم ووظائفهم، واستثمار تأجير مئات الآلاف من المساكن والمحال التجارية بأسعار مضاعفة، يرتبط بشكل مباشر بوجود السوريين.

مع تواتر ما تؤكده مراكز الأبحاث والرصد، من أن السوريين وفي معظم المدن التي دخلوها، شكلوا رافعة اقتصادية ملحوظة توثقها الأرقام، حيث استمر السوريون المهاجرون، في تثمير أموالهم، وعلاقاتهم التجارية الواسعة، وخبراتهم في التصنيع، وفي توفر الأيدي الماهرة، خاصة في الصناعات النسيجية والغذائية، التي كانت تشكل عماد الاقتصاد والصناعة، في سوريا سابقا.

واليوم وأنا أزور لاهاي(دنهاخ كما يسميها الهولنديون) المدينة الهولندية، التي اقترن اسمها بمحكمة العدل الدولية،

محكمة الجنايات الدولية ومقرها لاهاي أيضا، تلك المحكمة الحلم، التي خيبت الآمال أيضا، فلم تكن في يوم من الأيام، أكثر من أداة بيد الأقوياء.

أتذكر كيف أن مجرد ورود اسمها في أحاديثنا، في سجن تدمر، كان يطربنا ويشعل في نفوسنا حلما بعدالة غائبة، قد تلاقينا أو نلاقيها يوما ما، لم نكن نعلم حينها أن هذه المحكمة، متخصصة فقط في فض النزاعات بين الدول، وأن المحكمة التي ننشدها لن تؤسس قبل عام "1993" ، وهي محكمة الجنايات الدولية ومقرها لاهاي أيضا، تلك المحكمة الحلم، التي خيبت الآمال أيضا، فلم تكن في يوم من الأيام، أكثر من أداة بيد الأقوياء، يلوحون بها في وجه أنظمة بعينها، ويتجاهلون وجودها في أحايين كثيرة، فهي إلى الآن بالكاد سمعت بنظام مجرم، كنظام الأسد وأبيه، ولم يصدر عنها إلى الآن فعل يذكر.

ومع العدالة الغائبة والمعطلة، والمعاقة بتواطؤ دولي، بعشرات الإجراءات، التي تجعل من وصول المجرم إلى قفص الاتهام، أبعد احتمالا من وصول صخرة سيزيف إلى قمة الجبل، فإن تشتت ملايين السوريين، بين مدن اللجوء وسواحل الانتظار وقوارب الموت، سيبقى دونما انقطاع، الأمر الذي سيخلق تكوينات معقدة، أكثر من تلك التكوينات التي أفرزتها جرائم الحرب العالمية الثانية، ولن تكون هناك بلدة صغيرة، في هذا العالم الضيق، بمنأى عن تلك التداعيات، وآثارها الكارثية، فهل يستيقظ العالم ذات صباح قريب.