من دون مواطنة حقيقية ستبقى المرأة معنفة

2019.11.26 | 16:28 دمشق

moth1200.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ ما يقارب العشرين عامًا، جاءتني مريضة على مشارف الخمسين من سنوات القهر، مثلما كانت تشي ملامحها، ليس فقط ملامح وجهها، بل جسدها بكامله، جسد يبدو مقهورًا، مكسور الخاطر، كما درج القول في بلادنا، نحيلاً، منهكًا، واهنًا، تلطخه كدمات بنفسجية وبعض السحجات على وجهها.

كانت تمشي وكأنها تعتذر من الأرض لأنها تطأها بقدميها، كانت متألمة، فالألم ينفر من عينيها، من ارتجاف شفتيها، من صوتها الهامس المتقطع مثلما لو كانت الكلمات تمتلك شفرات حادة تجرحها وهي تغادر صدرها، وكانت مترفعة على الشكوى تبتلع أنينها الحارق. لم تقدم لي كطبيبة شكاية خاصة أباشر معها توجهي في التشخيص، كانت تردد كلمة واحدة: تعبانة. وعندما بدأت بالفحص السريري فوجئت بالمساحة الواسعة من البقع المزرقة على كامل جسدها، بات الأمر واضحًا، لقد تعرضت لضرب مبرح. خمنت، مثلما يجب أن أخمن، أنها تعرضت للتعنيف والاعتداء من قبل الزوج، لكن المفاجأة التي لم تكن لتخطر في بالي، التي كانت سبب وجعها العميق المكابر الذي تواربه وتحاول إخفاءه، أن المعتدي كان ابنها، كانت أمًأ أرملة تعمل كعاملة في إحدى المؤسسات الحكومية تعيل خمسة أبناء، وكان ابنها، الذكر الأكبر بين أولادها، هو المعتدي بهذه الطريقة الوحشية. أما السبب، فهو لأنه يريد مالاً يحقق له ما يحلم به ويصبو إليه كي يعيش بين زملائه بطريقة ندية.

تحضرني هذه الحكاية بكثير من ألم الروح في مناسبة الحراك العالمي من أجل مناهضة العنف ضد المرأة، الذي يصادف في الخامس والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني، اليوم الذي قتلت فيه ثلاث أخوات مناضلات ضد الديكتاتورية في الدومينيكان عام 1960، في عهد الديكتاتور رافائيل تروخيو، وسوف يستمر الحراك حتى بلوغ يوم العاشر من ديسمبر/ كانون الأول يوم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

من البديهي القول إن المرأة تعاني من التمييز والمعاملة العنيفة في كل مراحل حياتها لدى كل الأمم والشعوب، إنما بدرجات متفاوتة وبدوافع متباينة، المشترك الأهم هو أن الثقافة البشرية قائمة على أساس الجندر، والسلطة الذكورية متجذرة

بالنسبة لبلداننا ومجتمعاتنا فإن لقضية العنف ضد المرأة خصوصية أخرى، فهي نابعة من مركب معقد تتداخل فيه عوامل التاريخ والراهن

في لا وعي المجتمعات والأفراد تحتاج إلى عقود، وربما قرون من العمل والنضال من أجل تغييرها وتنقيتها وتخليصها من هذه السطوة الجبارة.

أما بالنسبة لبلداننا ومجتمعاتنا فإن لقضية العنف ضد المرأة خصوصية أخرى، فهي نابعة من مركب معقد تتداخل فيه عوامل التاريخ والراهن، الحمولة الثقافية المثقلة والسند الديني وسطوة القيم والأعراف، والنظم القبلية التي ما زالت تتحكم بحياة شرائح واسعة من مجتمعاتنا، يُضاف إليها العامل الاقتصادي والقمع والتضييق على الحريات وانعدام مفهوم المواطنة ثقافة وسلوكًا وإجراءات.

يبدو من الترف المناداة بمناهضة العنف ضد المرأة في منطقتنا التي تشهد ثورات وانتفاضات وحراكات تقوم بها الشعوب ضد أنظمتها، السياسية بالدرجة الأولى، وبقية الأنظمة المتحكمة بمقاديرها، لكن هذا القول بعيد عن الموضوعية، فالثورات لا تقوم من أجل حق واحد، أو حقوق مجتزأة، الثورات ترنو إلى قلب الواقع الذي أصبح جبارًا بقوالبه المهترئة المعيقة للتطور القاتلة للكرامة الإنسانية، واسترداد الحقوق الإنسانية التي لا منّة لنظام بها على شعبه، بل هي حق طبيعي تمنحه الحياة من دون تمييز لا على أساس الجنس ولا العرق ولا القومية ولا لون البشرة ولا أي علامة أخرى، بل هي حقوق إنسانية، أما عندما تكون هذه الحقوق مستلبة تحرم الإنسان من أن يحقق ذاته، وتحرمه من وسائل العيش الكريم وترميه في حياة الفقر والجوع وفقر الدم وفقر المخيلة وحق إبداع حياته، فإنه سينزلق إلى مستنقع من الأوهام لا يخفف عنه معاناته وإنما يرميه في الخطأ إلى أن يدرك ذاته الإنسانية.

المرأة في بلادنا معنفة من قبل أطراف كثيرة، فهي قبل كل شيء فرد في مجتمعات تعاني بكل أطيافها، مواطنوها لا يرتقون إلى رتبة المواطنة، معرضون للعنف السياسي والاجتماعي والقضائي والإداري والاقتصادي، مواطنون مسلوبو الحقوق والإرادة، يتغول الفقر والفساد في ثنايا حياتهم، وهي معنفة كواحدة من مجموعات بشرية تعيش في ظل الحروب التي تقضم روح الإنسانية فتدفع الثمن من كيانها وكيان أسرتها وبيئتها، الحروب التي تقضي على أرواح البشر أو تشردهم في المخيمات في ظروف عيش لا إنسانية أو ترميهم في حياة تفتقر إلى مقومات العيش الكريم، على مرأى العالم والمجتمع الدولي الذي يوهم البشرية بأنه ضامن حقوق الشعوب، بينما يشعل الحروب هنا وهناك من أجل مصالحه وتحقيق أرباحه وتأمين سطوته وسيطرته على العالم. وفي هذه الحروب التي تقودها السطلة القوية حتى محليًا، السلطة الذكورية، فإن المرأة دفعت وتدفع أثمانها الأكبر، فهي المناضلة المكافحة في وجه الموت، التي تخسر عمرها من أجل الاحتيال على الواقع وتأمين أسرتها بعدما تورط الرجال في الحرب، في أي بقعة من سوريا على الشباب والرجال أن يحملوا السلاح.

وهي معنفة لأنها امرأة، ولأن التاريخ المتراكم وضعها في هذا القالب ككائن ضعيف ومستضعف، فتحالفت ضدها القوانين والتشريعات الدينية والمنظومات القيمة والعادات والأعراف والتقاليد، ومهما رفعت الأنظمة من شعارات التحرر والعلمانية والمساواة بين المواطنين، فإن الواقع مختلف، هناك قوانين أقوى وأكثر رسوخًا، قوانين القبيلة والدين والمجتمع، هناك القالب الذي حصرت فيه المرأة حتى لو فتحت لها أبواب الأقفاص كي تخرج وتعمل وتكسب المال، لكنها في النهاية امرأة، حتى راتبها أو دخلها يتحكم به من بيده السلطة، الرجل، فهناك الكثير من المناطق في سوريا تقبض المرأة راتبها وتعطيه للزوج، ثم يمنّ عليها بـ"خرجية" وهذا منتهى الكرم والمروءة لديه.

في حكاية مريضتي، التي تعرضت للضرب من قبل ابنها الذكر، يمكن استخلاص الكثير من عوامل استسهال تعنيف المرأة، حتى لو كانت أم، توصي الديانات باحترامها، حتى إن مقولة "الجنة تحت أقدام الأمهات" كانت حكمة يومية نكتبها على دفاترنا المدرسية، وحكوميًا خصص لها يوم للاحتفال والاحتفاء بها سمي "عيد الأم"، ومنحت المؤسسات الحكومية عطلة فيه، وهناك يوم المرأة، وهناك العديد من الاتفاقيات والتوصيات العالمية شاركت فيها الحكومات، كما أنها نظريًا تشارك في الحياة العامة والوظائف وتتبوأ المناصب الإدارية والحكومية، لكن الثقافة النمطية والواقع الممارس متناقض إلى حد بعيد مع كل هذه الإجراءات، فالأم مستضعفة، ومهانة، ومستلبة، وإن كان هذا الابن تمادى بالضرب، وهناك حالات كثيرة مماثلة، فإن العنف اللفظي مستفحل في المجتمع، بحق الأم أو الأخت أو الابنة، وهذا موضوع آخر، فاللغة صارت مطية لتلك الثقافة، وتشكلت مع الزمن مدونة كبيرة من الاعتداءات اللفظية بحق المرأة، اللغة يلزمها ثورة أخرى لكسر وتفتيت هذه المدونة.

ثم تأتي مرحلة الثورات والانتفاضات التي دفعت فيها المرأة ثمنًا باهظًا، خاصة في المناطق التي انحرف فيها الحراك وانزلق إلى حرب حرقت كل شيء، وخسرت المرأة جزءاً من مكاسبها الزهيدة، فتراجعت حياتها وتقلصت مستحقاتها، ودفعت من جديد

العنف ضد المرأة مرتبط بمدى تطور المجتمع، بمدى البحبوحة الحياتية، بمدى توفر الحقوق لكل المواطنين، بالعدل في الفرص وتكافئها والقضاء على المحسوبيات

إلى بازارات المساومة على كرامتها، ازدهر تعدد الزوجات، ازداد زواج القاصرات، تفاقم حرمانها من التعليم، انخرطت في سوق العمل بشروط وظروف جبارة ومستغلّة لتعيل أسرتها، ازداد جبروت الجميع عليها، فهي الجدار الذي يمتص كل الضربات، وهي الوعاء الذي يستوعب كل النزعات والنزاعات، وهي الكائن الذي حاصرته القوانين والأعراف فأهمل ولم تعد معاناته وآلامه تلفت الأنظار.

العنف ضد المرأة مرتبط بمدى تطور المجتمع، بمدى البحبوحة الحياتية، بمدى توفر الحقوق لكل المواطنين، بالعدل في الفرص وتكافئها والقضاء على المحسوبيات، بالتمتع بهامش واسع من الحريات، بتعزيز إنسانية الإنسان وإشراكه في إدارة الحياة وصنع القرارات، بنفض الغبار المتراكم عن القوانين وخاصة الأحوال الشخصية وما يلحق المرأة من غبن وظلم وقهر بسببها، بإتاحة مجال المشاركة الفاعلة المتحررة من قيود الجندر، باعتبارها مواطنة، وقبل كل شيء اعتبار أفراد الشعب مواطنين وليسوا رعايا أو رعيّة، وتحرير المجال العام من أي سلطة سوى السلطة المدنية، إرجاع رجال الدين إلى مكانهم الطبيعي وفصل الدين عن السياسة، والبدء بثورة حقيقية على الواقع، تبدأ من مرحلة الدراسة الأولى، ببناء جيل جديد يعرف ويفهم ما معنى مواطنة وما معنى حقوق وما معنى حريات وما معني مساواة وما معنى حياة مشتركة ومستقبل مشترك في بلاد أكلتها الحروب بعد ان تركتها سلاطين السياسة والمجتمع والدين وغيرها مشلولة الجسد تطفو فوق مستنقعات حياتها الراكدة.