من دفاتر الثورة السورية في ذكراها العاشرة

2021.04.17 | 06:57 دمشق

1558425830.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان اجتماعنا الأول في عيادة الطبيب محمود الحسيني. حين دخلنا معاً دفعة واحدة كان في يده الدستور السوري، بعد أن سلّم علينا وقدّم الضيافة بنفسه، عاد إلى الجلوس وراء الطاولة. فتح كتيّب الدستور وقال: ما رأيكم، ومعظمكم قانونيون، بهذه الفقرة من الدستور: حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع، وهو يتصدّر ما يسمّى الجبهة الوطنية التقدمية التي هي نسخة طبق الأصل عن البعث؟

أجاب بعضنا، ولست أذكر من تكلّم: هذا عار على العقل السوري المستنير. وتوالت الأحاديث عن قانون الطوارئ الذي يحكم البلاد منذ تسلم البعث الحكم في سوريا، مع أنه غير قانوني، ولم يصدر وفقاً للإجراءات المتبعة في القانون.

ثمّ تحدّثنا عن رسالة باتت تنتشر عبر الموبايل على نطاق واسع: " يا الله حلّك حلّك.. بشار يقعد محلّك". قال الحسيني إنه اتصل برئيس الفرع ونبّهه إلى خطورة مثل تلك الرسائل، فهي تهيّج الرأي العام، وتمسّ ثوابت الدين، فكان ردّه:

 إنّنا لا نسمح بمثل هذا الكلام، لكن الناس يعبّرون عن مشاعرهم، ولا نستطيع أن نمنع أحداً من التعبير عن شعوره وعن مواقفه.

ولاشكّ بأنّ الرد نفسه سنتلقّاه إذا تساءلنا عن انتشار صورة بشار الأسد وبعض المتخلّفين يسجدون لها، بما يعزّز عبادة الفرد.

(كان ملوك الفراعنة يقدّمون أنفسهم على أنهم آلهة، ومن بعدهم الفرس والرومان، واستمر ذلك حتى العصور الوسطى عندما انتزع رجال السياسة في أوروبا السلطة من الكنيسة. لقد استند بعض الباباوات إلى نظرية "الحق الإلهي"، التي تقول إن الحكم لله وهو يختار من يشاء ليصبح حاكماً بأمره، وذلك ليتسنّى لهم الاحتفاظ بمصدر الحق الذي يجسّده البابا. ثم حلّت نظرية "العناية الإلهية"، التي روّجت الاعتقاد بأن عناية الله هي التي تضع أحد الأفراد في سدّة الحكم بدون تدخّل من البابا، مستندة إلى فلسفة الجبر التي سادت أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي، والتي تقول إن أعمال الناس كلّها محددة سلفاً بإرادة الله ولا خيار لهم فيها، وأسندت أعمال الشر إلى الشيطان).

وليس ببعيد الحاكم بأمر الله، المنصور، الخليفة الفاطمي السادس، فقد ادعى الألوهية واعتقد بتجسد الإله في شخصه. ثم تحوّل وصفه من الحاكم بأمر الله إلى الحاكم بأمره، وصار أتباعه إذا رأوه قالوا: "يا واحدنا يا واحدنا، يا محيي يا مميت".

يعزز الحاكم سلطته على الشعب بإشاعة أنه يحظى بتأييد من الله، حتى لا يحاول أحد معارضة السلطة فيحلّ عليه غضب الله

وقد أشار أرسطو إلى أن الإسكندر المقدوني، أثناء غزوه لبلاد فارس، لاحظ أن الناس هناك تسجد لملكها، وأن الملك يتمتّع بمزايا خاصّة تخوّله حق إنهاء حياة رعاياه في أي وقت يشاء، حتى لو لم يكن هناك من سبب غير الأهواء الشخصية، كأن يريد الملك أن يُدرّب خليفته على الرماية فيوجّه سهامه نحو أحد المواطنين ليصطاده. فاستغرب الإسكندر من ذلك الوضع وعندما استفسر عن السبب، قيل له إن الملك في الشرق هو بمثابة إله أو وكيل للآلهة في الأرض، فأُعجِب الإسكندر بهذه الفكرة، ولما عاد من بلاد فارس، طلب من اليونانيين السجود له. ويعزز الحاكم سلطته على الشعب بإشاعة أنه يحظى بتأييد من الله، حتى لا يحاول أحد معارضة السلطة فيحلّ عليه غضب الله.

السجود على الصورة أو تأليه الحاكم، جعل ذاكرتي مزدحمة بعشرات الأمثلة، بدءاً من الأمويين، مروراً بالعباسيين الذين استندوا إلى تأكيد الحق الإلهي في الحكم، ومزجوا قواعده بتقاليد الفرس في المُلك. اتكؤوا على النزعة الجبرية التي ترى أن الإنسان مسيّر غير مخيّر. فتحولت السلطة معهم إلى مُلك موروث، مثل النظام الذي كان سائداً في الدولتين: البيزنطية والفارسية؛ حيث لم يكن للشعب حق الحد من سلطة الحاكم لأنه غير مسؤول أمام أحد. وقد جعل ابن تيمية من قوة الإكراه جوهر الحكم، وضرورة من ضرورات المجتمع، تنشأ بفعل استيلاء يضفي عليه عقد التشارك طابع الشرعية. فالحاكم، ولو كان ظالماً، خير من الفتنة وانحلال المجتمع، وللحاكم أن يفرض واجب الطاعة على رعاياه. "أدّوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم". فعلى الرعية إطاعة الحاكم، فإن ظلم ما لهم إلا أن يرفعوا أيديهم إلى السماء بالدعاء.

أما من يتّبع المستبدون تعاليمه بدقة فهو ميكيافيلي الذي نصّب (الأمير) ليكون له القول الفصل في ما يتعلّق بدولته، ونصح له بأن يقدّر وحده الأوضاع الطارئة التي يجب عليه أن يكون شرّيراً فيها ليحافظ على منصبه. «من الضروري لكل أمير يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلّم كيف يبتعد عن الطيبة والخير»، من دون أن يبالي بما يقوله الآخرون عنه، ما دام هدفه أن يوحّد الرعايا على طاعته، وذلك يكون بالاجتماع على حب الأمير تارة، وعلى الخوف منه أحياناً أخرى. «من الواجب أن يخافك النّاس وأن يحبّوك، ولكن لما كان من العسير أن تجمع بين الأمرين فإن من الأفضل أن يخافوك على أن يحبّوك». وعلى هذه الفلسفة اعتمد "كرومويل" حين قال: «تسعة مواطنين من أصل عشرة يكرهونني؟ ما أهمية ذلك إن كان العاشر وحده مسلّحاً».

هل يمكن تصديق أن السماح بتلك الهتافات التي تبجّل الرئيس، وتدعو للسجود على صوره، هو مجرّد حريّة رأي، أم أنها خطوات مدروسة يتم ترسيخها في أذهان الناس؟

على المنوال نفسه تحاول السلطة السورية أن تسير، مستعينة على ذلك بمشايخها، لترسخ سلطة الأب ومن بعده ابنه الذي ينبغي أن تقدّم له فروض الطاعة والتبجيل. وليس مستبعداً اتّباع خطوات الإمبراطور كاليجولا الذي ادّعى أنّه إلهٌ أرضي، وأمر ببناء جسر بين قصره و كوكب المشتري، حتى يتمكّن من إجراء مشاورات مع الآلهة هناك.(فهل يمكن تصديق أن السماح بتلك الهتافات التي تبجّل الرئيس، وتدعو للسجود على صوره، هو مجرّد حريّة رأي، أم أنها خطوات مدروسة يتم ترسيخها في أذهان الناس؟ ...

أما فحوى النداء الذي صدر من حلب في 12-4- 2011 ففيه وجّه عدد من الفعاليات الثقافية والاجتماعية والسياسية والإعلامية في مدينة حلب، نداء إلى رئيس الجمهورية تحت عنوان (نداء من حلب… لأجل الوطن) عبروا فيه عن ألمهم وحزنهم للأحداث الدموية في المدن السورية كدرعا وحمص وبانياس وغيرها، وعبروا فيه عن رغبة مختلف أفراد الشعب السوري بكل أطيافه في الانتقال إلى واقع لا اضطراب فيه ولا فرقة يحافظ على الوحدة الوطنية ويعادي الانقسام الطائفي بكل أشكاله، وأكد الموقعون على ما سمّوه مطالب الشعب السوري وجاء فيها:

  1. تحمل الدولة مسؤولياتها كاملة في حماية الوطن والمواطنين.
  2. الإسراع في رفع حالة الطوارئ وإنهاء العمل بقانونها وما يتفرع عنها من تشريعات.
  3. إطلاق الحريات العامة لجميع أفراد الشعب للتعبير عن الرأي والتأكيد على حرية الإعلام وحرية النشر.
  4. ضمان انتخابات حرة ونزيهة دون أي محاصصات حزبية أو جبهوية أو فئوية.
  5. تعديل الدستور بما يواكب التغيرات الحاصلة في المجتمع السوري وثقافته، وتقرير التعددية السياسية وإلغاء المادة الثامنة من الدستور وما ينتج عنها.
  6.  تفعيل مبدأ سيادة القانون وسمو الدستور ودولة المؤسسات.
  7. فصل السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية وعدم تجاوز السلطة التنفيذية على باقي السلطات.
  8. إلغاء هيمنة الأجهزة الأمنية وتجاوزاتها والتأكيد على مفهوم المواطنة.
  9. محاربة الفساد بأشكاله المختلفة لا سيما الفساد المالي والإداري.
  10. العفو العام عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي وإلغاء منع السفر وعودة المبعدين السياسيين إلى وطنهم.
  11. اعتبار الكفاءة والخبرة المعيار الأوحد في الوظائف والمهام تحقيقاً لمبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في الدستور.

   وقد وقّع على النداء عدد من المثقفين والحقوقيين والصحفيين وأساتذة الجامعات والكتاب، وكان النداء سابقة جريئة وبخاصة في حلب المحاصرة بجدران أمنية منعاً من مشاركتها في مظاهرات الثورة السورية. ولقد تم اعتقال بعض من وقعوا على النداء ليكونوا عبرة لمن يتجرّأ على السلطة ولو بكلمة.