icon
التغطية الحية

من درعا إلى الرياض.. رحلة الكبتاغون عبر الدماء والحدود

2024.11.07 | 22:50 دمشق

56756767
The New Yorker- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A
  • بدأ مرعي الرمثان كراعٍ للغنم وتحول إلى أحد كبار مهربي المخدرات بين سوريا والأردن، مستغلًا الروابط الاجتماعية والحدودية.
  • اعتمد النظام السوري على تجارة الكبتاغون كمصدر دخل أساسي بسبب العقوبات وتدهور الاقتصاد، ويقود ماهر الأسد هذه التجارة عبر الفرقة الرابعة.
  • يُهرب الكبتاغون من سوريا عبر الأردن إلى السعودية ودول الخليج، حيث يحظى برواج كبير ويُعرف بـ "كوكايين الفقراء".
  • يتعاون حزب الله اللبناني مع النظام السوري في إدارة مختبرات تصنيع الكبتاغون على الحدود، مما يعزز عمليات التهريب في المنطقة.
  • كثّفت السلطات الأردنية إجراءاتها على الحدود لمكافحة تهريب الكبتاغون، ما أدى إلى اشتباكات مستمرة مع المهربين السوريين المسلحين.
  • تواجه مكافحة تجارة الكبتاغون تحديات دولية، إذ دفعت العقوبات النظام السوري للاعتماد على هذا النشاط غير الشرعي.
  • تسعى السعودية والأردن للحد من انتشار الكبتاغون، حيث تُعاقب تجارة المخدرات بالإعدام في السعودية، وتقدم الدولة العلاج للمدمنين.

قبل أن يشرع مرعي الرمثان بعمله الذي اغتنى بفضله ثم قتل بسببه، كان مجرد راع للغنم في الثلاثينات من عمره يتميز بوسامته وسعة حيلته، وقد عاش هذا الرجل في الجنوب السوري ضمن منطقة عشوائية قريبة من الأردن، ولديه أقرباء وأنسباء على كلا طرفي الحدود. وثمة عادة منتشرة منذ أمد بعيد في هذه المنطقة، ألا وهي عادة تهريب الأشياء البسيطة، بيد أن اسمه مشتق من مدينة الرمثا التي تقع شمالي الأردن، والتي ازدهرت عبر تمرير السلع والبضائع بشكل غير قانوني داخل البلد وخارجها.

وإلى أن بدأت الحرب في سوريا في عام 2011، كانت ثلة من الأردنيين المعروفين بالبحّارة قد حصلت على رخصة لقيادة سيارات أجرة عبر الحدود، وكان بينهم نحو ثمانمئة سائق، وجميعهم يدرك تماماً الهدف الحقيقي من وراء رحلاتهم بالسيارة وهو العودة محملين بالبضائع إلى الأردن، الذي تفوق تكاليف المعيشة فيه تكاليف المعيشة بسوريا بنسبة ستين بالمئة، بما أن البضائع في سوريا رخيصة. ولذلك صار البحارة يجلبون معهم المنتجات المصنعة حديثاً والسجائر وغيرها من السلع التي تستهلك بصورة يومية، ويبيعونها بأرباح كبيرة، إذ ثمة اتفاق غير رسمي بين المسؤولين في الجمارك الأردنية وجماعة البحارة، ومقابل الرشوة، بوسع السائق منهم أن يحمل وبشكل كامل شاحنة بأكملها بالمنتجات السورية ويدخلها إلى البلد من دون أن يدفع أي ضريبة عليها.

عند اندلاع الحرب في سوريا، سيطر الثوار المناهضون لنظام بشار الأسد على مدينة درعا التي تقع على الطرف الثاني من الحدود السورية مقابل مدينة الرمثا الأردنية. وصار الطرفان يتحاربان في الشوارع، فتوقفت تجارة البحارة في تلك الأثناء، وبحسب تقرير أصدره مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فإن 80% من متاجر الرمثا أغلقت أبوابها بحلول عام 2017، وبعد عام على ذلك، استعادت قوات الأسد مدينة درعا، وأعيد فتح المعبر الحدودي، فواصل البحارة عملهم القديم، وصار الأهالي يستغلون فرصة صارت تدر عليهم ربحاً أكبر، وتتمثل تلك الفرصة بالمخدرات، وكان مرعي الرمثان أحد الرواد في هذا المجال، إذ بدأ بنقل كميات كبيرة من منشط الكبتاغون إلى الأردن، وحتى يتجنب حواجز التفتيش، استعان بالبدو لنقل المخدرات عبر البادية، ولم يمض وقت طويل حتى أصبح لديه جيش يضم مئات المهربين.

واليوم، وصلت سوريا إلى سنتها الثالثة عشرة مع الحرب التي قتل فيها أكثر من نصف مليون سوري، ناهيك عن خمسة ملايين نزحوا خارج البلد، وتدمرت البنية التحتية والاقتصاد المشروع للدولة السورية، وفرضت دول كثيرة عقوبات ثقيلة على النظام السوري، ولكن الأسد بقي في الحكم بفضل الدعم الذي قدمته إيران وروسيا، وأصبحت حكومته اليوم تسيطر على ثلاثة أرباع البلد، لكنه خلال السنوات القليلة الماضية ألفى نفسه بحاجة ماسة لمصدر للدخل، وتمثل ذلك بتجارة الكبتاغون.

في سوريا، تكلف عملية إنتاج حبة واحدة من هذا المنشط نحو بضع سنتات، ولكنها يمكن أن تباع في مناطق أخرى في الشرق الأوسط، بما أن هذا النوع من المخدرات رائج في هذه المنطقة فقط من العالم، بنحو خمسة وعشرين دولاراً، وخاصة في المدن الموسرة مثل الرياض، ثم إن هامش الربح في هذه التجارة عال بما يسمح للمصدرين أن يحققوا أرباحاً هائلة حتى مع فشلهم في تلك التجارة مرات متكررة. وهكذا أصبح نظام الأسد يتحكم اليوم بالجزء الأكبر من تجارة الكبتاغون، ويحقق من خلالها مليارات الدولارات من الأرباح سنوياً. ويعتبر شقيق بشار، ماهر الأسد، أهم شخصية تعمل في إنتاج وتوزيع الكبتاغون من داخل الحكومة السورية، بما أنه يترأس الفرقة الرابعة من الجيش السوري، وهذه الفرقة تأسست عام 1984 لحماية الحكومة من أي خطر يهدد سلطاتها. وتعليقاً على ذلك تقول الصحفية كارولين روز التي درست تجارة الكبتاغون ونشرت دراستها في موقع معهد نيولاينز بواشنطن بأن تجارة المنشطات السورية بلغت قيمتها عشرة مليارات دولار، في حين أن إجمالي الناتج المحلي الرسمي لسوريا يعادل تسعة مليارات فحسب.

الحكومة نفسها.. متورطة!

وعن رأيه حول هذه التجارة، يقول مايكل كيني، وهو أستاذ بجامعة بيتسبرغ أجرى بحثاً عن تجارة المخدرات بين الدول، أنه على الرغم من استخدام مصطلح "دولة مخدرات" في أغلب الأحيان، نكتشف بأن هذه المصطلح يصف سوريا بشكل واف، إذ صار نظام الأسد يعتمد على الكبتاغون، كما سبق لحكومة بوليفيا أن اعتمدت على تجارة الكوكايين في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وكما بقيت طالبان موجودة بفضل عوائد تجارة الأفيون طوال السنوات التي حاربت فيها القوات الأميركية بغية السيطرة على أفغانستان، ولذلك يقول كيني عن نظام الأسد: "بفضل الأنشطة المرتبطة بالمخدرات جرى اختراق مؤسسات الدولة بشكل كامل ووصل الفساد إليها جميعاً، إذ هنالك عناصر مهمون في الجيش والأجهزة الأمنية متورطون بشكل مباشر بجوانب متعددة لهذه التجارة، بل حتى الحكومة نفسها، أصبحت تعتمد بشكل كبير على عوائد صادرات الكبتاغون حتى تحافظ على طريقتها في الحكم".

"الرمثان كان الأول وليس الأخير"

والآن، تحول الأردن الذي يشترك بحدود طويلة مع سوريا من الجنوب، إلى ممر بري مهم يصل إلى السعودية، حيث تباع الغالبية العظمى من حبوب الكبتاغون. كما أصبح الأردن نفسه سوقاً خصبة لهذا المنشط، وباتت علائم الثروة التي تحققها المخدرات جلية اليوم في منطقة الرمثا، حيث تجد البيوت المتهالكة بجوار القصور الفارهة التي بنيت حديثاً وطعمت جدرانها بالذهب (وقد وصف دبلوماسي بريطاني يعيش في الأردن تلك الأبنية بأنها مثال على الهندسة المعمارية المخدراتية في المنطقة). وبسبب ذلك، عزمت الحكومة الأردنية على منع انتقال المخدرات عبر أراضيها، ولهذا نشرت معظم قطعات جيشها على الحدود مع سوريا، على الرغم من ظهور نزاع أوسع هز المنطقة منذ شهر تشرين الأول الماضي، ما أدى إلى تكرار حالات الاشتباك بين الجيش الأردني والمهربين المسلحين.

وفي بعض الأحيان، يلاحق الجيش الأردني ملوك الكبتاغون في الداخل السوري، إذ خلال فترة من الزمن، تربع مرعي الرمثان على عرش هؤلاء الملوك متصدراً قائمة المستهدفين منهم، وبما أنه أدرك أنه بات هدفاً، لذا اشترى ما لا يقل عن سيارة واحدة مضادة للرصاص وذلك بحسب ما ذكره منشق عن الجيش السوري، كما أخذ يتنقل في إقامته بين ثلاثة بيوت، أحدها كان عبارة عن فيلا تمتد على مساحة تعادل 29400 متراً مربعاً، وهذه الفيلا قريبة من دمشق، ويحرسها عدد من عناصر الأمن، وفيها مستودع بالقبو. أما منزل أسرته القريب من الحدود الأردنية فتزينه صورة كبيرة لبشار الأسد، وثمة شعار للمخابرات العسكرية السورية معلق على الباب الأمامي للدار.

في التاسع من أيار من عام 2023، وقبل شروق الفجر بقليل، قصفت الطائرات الحربية الأردنية منزل أسرة الرمثان فسوت البناء بالأرض وقتلته هو وزوجته وخمسة من أولاده الستة. ولم يبد سلاح الجو الأردني أي ندم بسبب الأضرار الجانبية، وبعد فترة قصيرة من وقوع تلك الغارة الجوية، وصلت رسائل نصية من رقم مجهول لعدة أشخاص مرتبطين بتجارة الكبتاغون في الجنوب السوري جاء فيها: "نعرف من أنتم وتحركاتكم كلها مراقبة، واجتماعاتكم كلها مخترقة، فأنتم تساهمون في تدمير عقول أبناء شعبنا، ومن أجل هذا الشعب لن نبدي أي رحمة أو شفقة عليكم، إذ سيحلق الأردنيون كالنسور لمطاردتكم واصطيادكم، مجرماً بعد آخر، ومرعي الرمثان كان الأول ولن يكون الأخير".

قصة الكبتاغون وتاريخه

في عام 1961، قام كارل هاينز-كلينغر، وهو باحث لدى شركة صناعات دوائية في ألمانيا الغربية اسمها ديغوسا، بوضع اللمسات الأخيرة على مركب مؤلف من مخدر جديد اسمه الفينيثيلين، وهو مركب مؤلف من مادة منشطة ودواء للربو يعرف باسم ثيوفيلين. ومن فوائد الفينيثلين التي جرى الترويج لها هو أنه ينتج الدفقة نفسها من النشاط التي يسببها أي منشط عادي، من دون أن يتسبب بارتفاع خطير لضغط الدم. ثم أطلقت ديغوسا المخدر في الأسواق العالمية تحت اسم تجاري هو كبتاغون، فكان كل قرص منه يحتوي على خمسين ميليغراماً من الفينيثيلين، وطبعت على كل حبة منه هلالين متداخلين على أحد جوانبها. وأخذ الأطباء يصفون الكبتاغون لمعالجة الخدر والخمول، ولمساعدة الناس على التعافي من الأمراض والإصابات الخطرة. ولكن منذ البداية، وصل هذا العقار إلى سوق المواد غير الدوائية، فكان من أشهر مستخدميه العارضة الألمانية أوشي أوبرماي التي عاشت في عدة أماكن في ألمانيا الغربية وتحولت إلى رمز للتطرف اليساري في أواخر ستينيات القرن الماضي. وفي سيرتها الذاتية، كشفت أوبرماي بأنها خلال شبابها أدمنت كثيراً على الكبتاغون لدرجة دفعتها لتعاطي الماريغوانا وثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك للتغلب على آثار الكبتاغون ومقاومتها.

أصبحت مبيعات الكبتاغون قوية التأثير، ولكن بعد مرور ثمانية عشر عاماً انتهت صلاحية براءة الاختراع وبدأت شركات صناعات دوائية أخرى بتسويق منتجات الفينيثيلين. وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي، سافر المصري رضا ياستاس الذي كانت لديه شركة صناعات دوائية في ألمانيا تعرف باسم Samychemie، إلى عدد من الدول العربية، بينها لبنان، فلاحظ وجود عدد كبير من الناس الذين يتعاطون الكبتاغون، وذكر هذا الرجل أمام محكمة ألمانية لاحقاً بأنه وجد: "طلباً كبيراً على مادة فينيثيلين هناك، ولعل مرد ذلك يعود للحرارة التي تستعر بشكل متواصل وتجعل المرء يحس بتعب شديد، أو بسبب تحريم القرآن للكحول".

قام ياستاس بإنتاج حبوب مماثلة من الناحية الشكلية والكيميائية للكبتاغون، وشحن نصف مليون حبة منها إلى لبنان، وفي عام 1978، رفعت شركة ديغوسا دعوى عليه، لكنها اضطرت للاعتراف أمام المحكمة بأنها لم تحم شعارها المؤلف من هلالين، ثم أجرت تسوية مع ياستاس بلغت قيمتها عشرة آلاف دولار، ولكن ياستاس استمر بإنتاج حبوب الفينيثيلين، لكنه صار يستخدم شعار حرف إس الذي ظهر بشكل أفعى. وفي جلسة أخرى للنظر بالأمر القضائي عقدت في عام 1982، زعمت شركة ديغوسا بأن ياستاس زرع بذور الالتباس بين المستهلكين، فرفض القاضي تلك المزاعم، وبات من المرجح بأن القضية الحقيقية تتصل بالأرباح، وذلك لأن السوق العربية المستهلكة لمادة الفينيثيلين قد توسعت لدرجة كبيرة أصبحت معها شركة ديغوسا تبيع 4% فقط من مخزون الكبتاغون الموجود لديها في ألمانيا.

تغير اسم ديغوسا واصبح إيفونيك اليوم، ويخبرنا الناطق الرسمي باسم الشركة بأنها في أوائل ثمانينيات القرن الماضي طلبت من منظمة الصحة العالمية أن تراقب وتضبط إنتاج الفينيثيلين بشكل مكثف "بما أن كميات هائلة من الكبتاغون المقلد أو المادة الفعالة فيه أصبحت تنتج على يد جهات مصنعة غير مرخصة". فكانت تلك المرة الأولى التي تطلب فيها شركة صناعات دوائية ضبط عقار تنتجه هي نفسها على يد منظمة الصحة العالمية. وفي عام 1986، صنفت منظمة الصحة العالمية والهيئة الأممية المعنية بالعقاقير المخدرة مادة الفينيثيلين كمادة منشطة أصبحت تستخدم بشكل مضر، ولهذا لا يمكن أن توصف إلا لعدد ضئيل فقط من الحالات، وعندئذ أصبحت صادرات هذا العقار محدودة للغاية.

بيد أن واردات أخرى باتت على أهبة الاستعداد لتلبية احتياجات الشرق الأوسط، ولهذا بدأ المهربون بتصدير حبوب الكبتاغون بالسر من ألمانيا الغربية إلى بلغاريا الشيوعية، ومنها إلى الشرق الأوسط وغربي أفريقيا، تحت حماية أجهزة الدولة الأمنية في بلغاريا. ثم قدم مهرب لبناني اسمه عبد الحميد شما للأجهزة الأمنية البلغارية معدات لكبس حبوب الكبتاغون، فبدأت ثلاثة مواقع في بلغاريا بتصنيع أقراص مقلدة من هذه المادة أطلقت عليها الاسم نفسه: كبتاغون (ولا ضرورة لذكر أن شما حصل على الجنسية البلغارية مقابل تلك الخدمات).

في عام 1986، صحت أفكار مجموعة محامي ديغوسا عندما خلصوا إلى أن تصنيف منظمة الصحة العالمية لمادة الفينيثيلين يعني "عملياً إلغاء بيعه بشكل قانوني" مع وقف إنتاجه. وهكذا حظر الفينيثيلين في معظم الدول، في حين واصل البلغاريون إنتاج تلك الحبوب وتصديرها. وبحسب ما ذكره الصحفي الاستقصائي البلغاري هريستو هريستوف الذي أجرى بحثاً مؤخراً فتح فيه ملفات حكومية عن عمليات الاتجار بالمخدرات، والعوائد التي دعمت الحكومة بما أنها كانت تعاني من نقص شديد في التمويل، مع تأمين مصدر مهم للقطع الأجنبي أمامها. وبالرغم من أن الشرق الأوسط بقي السوق الرئيسية للكبتاغون، وصلت تلك المادة إلى جيران بلغاريا في الكتلة الشرقية من أوروبا. وتعليقاً على ذلك يقول ميشا غليني مؤلف الكتاب الأكثر مبيعاً في عام 2008: "ماك مافيا: رحلة عبر العالم السفلي للجريمة العالمية"، بأنه رأى الكبتاغون في براغ قبل سقوط جدار برلين، في وقت كان من الصعب العثور على المخدرات المحظورة الأخرى.

تاريخ الكبتاغون مع الرياضة

لم يتحول الكبتاغون في أي وقت من الأوقات إلى عقار مشتهى ومرغوب في أوروبا الغربية، إلا في سياق واحد وهو الرياضة، إذ استخدم هذا المنشط المحظور لجعل اللاعبين يبدون عدوانية وضراوة أكبر. وفي عام 2015، نقل الصحفي الاستقصائي الفرنسي بيير باليستيير في كتابه عن رياضة الركبي على لسان طبيب فرنسي قوله بأن أعضاء فريق الركبي الفرنسي تناولوا حبوب الكبتاغون قبل مباراة سيئة الصيت جمعتهم في عام 1986 بفريق أوول بلاكس وهو الفريق الوطني الذي يمثل دولة نيوزيلاندا، إذ تعتبر تلك اللعبة واحدة من أعنف المباريات في تاريخ الركبي، فازت فيها فرنسا بنتيجة 16-3، وأصيب قائد فريق نيوزيلاندا بارتجاج في المخ، وخسر عدداً من أسنانه، إلى جانب تعرضه لتمزق في كيس الصفن.

بعد عقد ونصف من سقوط الشيوعية، تغاضت السلطات البلغارية عن تصنيع مادة الكبتاغون المحظورة، طالما بقيت تصنع بغرض التصدير فحسب. وفي نهاية المطاف، قمعت تلك الدولة تصنيع المخدرات في أواسط الألفية الثالثة، وذلك بعد أن اتفقت مع الاتحاد الأوروبي على أن تصبح عضواً فيه.

بداية الطريق إلى سوريا

وسرعان ما انتقل إنتاج الكبتاغون إلى الشرق الأوسط، إذ ذكرت كارولين روز من معهد نيو لاينز، أن الحكومة السورية بقيت طوال سنوات تتلقى دعوات من بلغاريا لإرسال الكيميائيين فيها للدراسة في تلك الدولة، وهذه الصلة برأيها مهدت الطريق لتبادل الخبرات التقنية والعلمية وتأسيس مخابر سرية في سوريا وعلى الحدود السورية- اللبنانية. ثم صار حزب الله الذي يتمتع بخبرة كبيرة في مجال الاتجار بالحشيش يدير عدداً من المخابر في لبنان. وفي تلك الأثناء، جرى تصدير كميات هائلة من مادة كيماوية تعتبر من السلائف الكيميائية للمنشطات وتعرف باسم بنزيل ميثيل كيتون أو BMK، وذلك من عدد من الدول الغربية إلى الشرق الأوسط، وهذه المادة تستخدم في بعض الأحيان لتصنيع منتجات التنظيف المنزلية، وكلما جرى اعتراض شحنة تحمل هذه المادة، يزعم المتاجرون بها بأنهم أتوا بها لأغراض قانونية، ولكن في عام 2009، جرى تصدير 95% من مجمل إنتاج هذه المادة إلى الشرق الأوسط، وهذا يعني إما أن المنطقة باتت مدمنه على تنظيف المطابخ بشكل جنوني، أو أن هنالك شيئا مشينا يطبخ في الخفاء.

لم تكن مخابر الشرق الأوسط حريصة كحرص مثيلاتها البلغارية على تقليد الكبتاغون، إذ لا تحتوي أي حبة تقريباً تباع اليوم على أنها كبتاغون على مادة الفينيثيلين، بل تشتمل تلك الحبوب على خليط غير متجانس من السلائف الكيماوية والإضافات بحسب رأي الصحفية روز التي أضافت قائلة: "يصنع المنتجون الحبوب حسب الطلب"، إذ في العالم العربي أصبحت كلمة كبتاغون تشير إلى أي حبة تحتوي على منشطات بداخلها، أو تتسبب بتنشيط من ذلك النوع الذي تحدثه المنشطات، ولهذا أصبح الشيء الوحيد الذي يربط حبوب اليوم بالمنتج الأصلي لشركة ديغوسا يتمثل بتصميم الهلالين المتعانقين.

"كوكايين الفقراء"

تكمن جاذبية الكبتاغون في القدرة على تعاطيه بشكل خفي في مجتمعات تفرض عقوبات شديدة على تعاطي الكحوليات، ولهذا لا توجد حالات موثقة للوفاة بسبب جرعة زائدة به، وكثير من السعوديين يتعاطون هذا المخدر بشكل دوري، وبعضهم وقع ضحية للإدمان، بيد أن الكبتاغون غير منتشر في شوارع الرياض، ولكن يبدو وكأن المنطقة برمتها قد تعودت على مخدر آديرال. وعن الكبتاغون يقول مالك العبدة وهو سوري يحمل الجنسية البريطانية: "في المجتمعات الشرق أوسطية، لا يعتبر كثير من الناس الكبتاغون مخدراً، بل ينظرون إليه على أنه شيء متطور عن حبوب الصداع، بل إنه أقرب إلى القهوة منه إلى المخدرات التي يستنشقها المدمن أو يحقنها في أحد عروقه". وبطبيعة الحال، عند تناول عدد أكبر من الحبوب، تصبح دفقة النشاط أقوى، ولهذا يطلق على الكبتاغون في بعض الأحيان اسم: "كوكايين الفقراء".

في عام 2011، وبعد انتفاضات الربيع العربي، بدأت السلطات اللبنانية في خضم سعيها لإضعاف حزب الله بإغلاق مصانع الكبتاغون التي يديرها هذا التنظيم، فما كان من حزب الله إلا أن نقل مقار إنتاجه عبر الحدود إلى سوريا، ومنذ ذلك الحين تورط نظام الأسد بتجارة الكبتاغون بصورة جدية.

طرقات تهريب الكبتاغون

بوسع الكبتاغون المصنع في سوريا أن يمر بطرق عديدة حتى يصل إلى الأسواق الثرية للسعودية ودول الخليج، كما يمكن شحن الحبوب براً عبر الأردن، وإرسالها شمالاً إلى تركيا، ثم نقلها بالقوارب إلى وجهتها، أو تسليمها في أحد الموانئ السورية، مثل ميناء اللاذقية، ومن ثم شحنها إلى موانئ البحر الأحمر، وتعتمد الشهرة النسبية لكل طريق على التقلبات الجيوسياسية، إذ ورد في ورقة بحثية نشرتها مجلة كولومبيا للشؤون الدولية بأن تنظيم الدولة عندما سيطر على الشمال السوري في أواسط العشرية الثانية من الألفية الثالثة، تراجع تهريب الكبتاغون إلى تركيا بشكل كبير، وفي عام 2015 و2016، تسببت المعارك التي قامت بين الثوار وقوات الأسد في مدينة حمص السورية بتدمير مصانع الكبتاغون الموجودة هناك، ولهذا عاد قسم من الإنتاج إلى لبنان بشكل مؤقت.

ومع مواصلة هذه التجارة لتكيفها مع الظروف، اتجه تجار المخدرات لطرق غير تقليدية، إذ في عام 2015، ألقي القبض على الأمير السعودي عبد المحسن بن الوليد بن عبد العزيز مع أربعة سعوديين آخرين في مطار بيروت إثر محاولتهم نقل أربعين حقيبة سفر مملوءة بالكبتاغون وبعض الكوكايين على متن طائرة خاصة كان من المقرر لها أن تصل إلى الرياض، لتكون تلك أكبر شحنة مخدرات يجري ضبطها في ذلك المطار، ثم حكم على عبد العزيز بالسجن لمدة خمس سنوات، وهذه عقوبة قاسية بالنسبة لأمير.

حبوب "الاستيقاظ"

اشتهر الكبتاغون بأنه مخدر مخصص للجنود، ولهذا الكلام أساس من الصحة على أرض الواقع، إذ منذ انتشار منشطات الأمفيتامين الصناعي والميثامفيتامين خلال النصف الأول من القرن العشرين، أصبحت هذه المخدرات جذابة بنظر المقاتلين المحرومين من النوم، وخلال الحرب العالمية الثانية، استعان الجيش الألماني بمنشط بيرفيتين لتنشيط جنوده، فكانت هذه الحرب أول حرب انتشرت فيها المنشطات. كما أن عساكر سلاح الجو الملكي البريطاني كانوا يستعينون في بعض الأحيان وخلال المهمات التي يؤدونها ليلاً بعقار البينزيدرين المنشط الذي جرى تصنيعه ليكون دواء للربو، فصار اسم هذا الدواء حبوب الاستيقاظ.

هذا وقد تمت الاستعانة بالكبتاغون في إحدى المعارك التي جرت في العالم العربي، فقد كان جيش صدام حسين من أهم زبائن العصابات البلغارية التي تنتج الكبتاغون، كما أن المقاتلين من كل الأطراف في النزاع السوري كانوا يتعاطون الكبتاغون، إذ في 12 حزيران من عام 2018، عثرت قوات التحالف لمحاربة تنظيم الدولة على ثلاثمئة ألف حبة تعود ملكيتها لهذا التنظيم، فقامت بإتلافها. وخلال العام الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي عن عثوره على حبات كبتاغون في جثث مقاتلي حماس الذين قتلوا خلال هجمات 7 أكتوبر.

وعلى الرغم من تلك الاكتشافات، بالغت الصحف الأوروبية في تهويل الخطر المتمثل بما سمته بالسرعة الجهادية، إذ بعد هجمات تنظيم الدولة في باريس عام 2015، ذكرت تلك الوسائل الإعلامية بأن تعاطي الكبتاغون جعل المجرمين غير هيابين ولديهم من العدائية ما يكفي لارتكاب أعمال عنف انتحارية، ولكن لا يوجد أي دليل يؤكد تلك المزاعم، لأن تشريح جثث الإرهابيين كشف بأنهم لم يتعاطوا أي مادة كحولية أو مخدرة، ولا يمكن أن يعزى للحركة الجهادية كل هذا الإنتاج من الكبتاغون أو الأرباح الطائلة التي يحققها، وذلك نظراً لوجود عدد محدود من الجهاديين، أما أهم قاعدة لاستهلاك الكبتاغون فهي نفسها تقريباً التي تحدث عنها رضا ياستاس في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، أي مجموعات العمال والطلبة الذين يبحثون عن منشط قوي حتى يبقيهم متيقظين طوال اليوم.

"القهوة المزبوطة" وحبة "يا مسهرني"

قبل خمسين عام، راجت المنشطات بين سائقي الشاحنات في الولايات المتحدة، وفي زيارة إلى الأردن، تبين بأن سائق الشاحنة الذي يوقف بائع قهوة على قارعة الطريق ويطلب منه "قهوة مزبوطة" سعرها دولاران،  في الحقيقة ما هي إلا حبة كبتاغون يجري طحنها وخلطها بمشروب القهوة، وفي هذه الأثناء، صار بوسع المرء أن يطلب في شوارع سوريا حبة "يا مسهرني".

يبدو بأن الكبتاغون أغرق السعودية على وجه الخصوص، نظراً لحجم المخدرات التي ضبطتها السلطات السعودية، وهذا ما دفع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة للإعلان بأن 67% مما ضبطته السلطات السعودية من كبتاغون بصورة رسمية خلال الفترة ما بين 2012-2021، كان إما سيصل إلى السعودية أو وصل إليها فعلاً. والافتراض السائد لدى خبراء مكافحة المخدرات هو أن قوات الشرطة ضبطت عموماً نحو 20% من المخدرات التي تم الاتجار بها، وأعلنت السعودية بأنها خلال الفترة ما بين أيار 2023 وتموز 2024 ضبطت 76 مليون حبة كبتاغون، في حين أن عدد سكان المملكة لا يتجاوز 32 مليوناً.

معضلة اسمها "الكبتاغون" في السعودية

وخلال الصيف الماضي أبدت الحكومة السعودية قلقها حيال السماح للمسؤولين بالتحدث إلى الصحفيين بشأن المخدرات، ولكن ثمة رجل تعاطى مع مشكلة الكبتاغون بشكل مباشر سمح له بالحديث إلى الصحافة، فقال من دون أن يذكر اسمه أو الوزارة التي يعمل فيها إن 65% من المساجين في السعودية سجنوا بسبب جنح تتصل بتعاطي المخدرات، وأكد بأن السوق المحلية للكبتاغون أغلبها من الطلاب، وفيها عمال أيضاً يعملون ضمن اقتصاد الظل، ويفترض بهؤلاء أن يكونوا مهاجرين بصورة مؤقتة جرى توظيفهم في مجال تشييد عدد من الأبنية الجديدة في المملكة، وبسرعة كبيرة للغاية (ومنها ملعب المملكة الجديد وهو أرحب ملعب لكرة القدم في العالم، ومع ذلك ثمة من يقول بأن هذا الملعب شيد خلال شهرين من الزمان)، كما أن الباحثين الأكاديميين الذين أجروا مقابلات مع متعاطي الكبتاغون في السعودية عثروا بينهم على نساء تعاطوا تلك المادة بهدف تخفيف الوزن.

وذكر هذا المسؤول السعودي بأن وفرة الكبتاغون في السعودية لا تقوم على العرض والطلب فحسب، بل ثمة دافع سياسي يقف خلف الكميات الكبيرة من الكبتاغون التي يجري الاتجار بها لتصل إلى المملكة، وقال بالحرف الواحد بأنهم مستهدفون (بيد أن هذا الرأي يتعارض مع ما يراه أغلب المراقبين الغربيين الذين ينظرون إلى الكبتاغون كمصدر للدخل بالنسبة لنظام الأسد، وذلك بحسب ما ذكره مايكل كينيدي الخبير بالمخدرات لدى جامعة بيتسبيرغ، وأضاف بأن الأمر يتعلق بالتجارة بصورة أكبر). وذكر هذا المسؤول السعودي بطريقة فيها شيء من الميلودراما بأن الهدف السياسي من الكبتاغون هو تمزيق نسيج المجتمع السعودي، بما يعيق تطوره ونموه، ولمجابهة هذا الأثر المدمر، تتعامل السلطات السعودية مع المدمنين بلطف، ولهذا فإن كل من يعترف بإدمانه على المخدرات يحصل على علاج مجاني في عيادة تابعة للدولة، من دون أن يخاف من العقاب، أما من يتاجرون بالمخدرات فعقوبتهم الإعدام.

في تشرين الأول، أعلنت وزارة الداخلية عن إلقاء القبض على 21 سعودياً بتهمة الانتماء لعصابة تتاجر بالكبتاغون في منطقة الرياض، 16 منهم موظفون لدى وزارات الدولة السعودية، وقد شملت جرائمهم نقل المخدرات من خارج المملكة، وبيع المخدرات التي تصادرها السلطات السعودية بشكل سري، أي إن السعودية لا تشذ عن القاعدة التي تقول بأن تجارة المخدرات لا يمكن أن تزدهر من دون فساد.

"مخدر الحفلات"

تجلت علاقة العالم العربي بالكبتاغون في مناطق لم يرجح أحد لها أن يظهر الكبتاغون فيها، فشارع هارلي بلندن هو الشارع الذي توجد فيها عيادات أعلى الأطباء أجراً في المملكة المتحدة، وفي أحد البيوت الفخمة الموجودة في هذا الشارع، يمارس فواز الأخرس، حمو بشار الأسد، عمله في مجال معالجة الأمراض القلبية. وعلى بعد بضع عيادات منه، هنالك عيادة لطبيبة عامة تدعى صوفيا خليق ويمارس الطب إلى جانبها المعالج والمتخصص بشؤون الإدمان رامز علي، ومن بين المراجعين مدمنون سعوديون على الكبتاغون.

ثمة علاقة غريبة تربط خليق بعلي، إذ عندما زار أحد الصحفيين تلك العيادة، أخذت خليق تتجول داخل المكتب الفسيح بتنورتها القصيرة وجواربها الشبكية ونعليها المزودين بالريش. أما علي فقد كان ودوداً لكنه حاد الطباع، وظهر على جبهته أثر السجود، وقد عالجت خليق مع علي المئات من الطلاب الأثرياء القادمين من الشرق الأوسط بعد أن تحول تعاطيهم للكبتاغون إلى إدمان، ولهذا فإن أغلب المرضى في تلك العيادة تتراوح أعمارهم ما بين 18-24، وأغلبهم أتى وهو يشكو من أرق شديد، ولهذا لا يحتاج الأمر عادة إلا لبضع أسئلة حتى يعرف الطبيب أصل المشكلة، ألا وهو الإدمان على المنشطات.

يتحدث علي عن المخدر فيقول: "عندما أتحدث إلى الطلاب، يخبرونني بأنه أصبح جزءاً لا يتجزأ من نمط حياتهم في الشرق الأوسط"، وتقول خليق بأن بعض مرضاها الذين أدمنوا على المنشطات، يأتون إليها على أمل أن تعطيهم وصفة قانونية، يمكنهم بموجبها شراء دواء لمعالجة اضطراب فرط النشاط وضعف الانتباه، وتعلق على ذلك بقولها: "يقولون بأنهم يريدون ما يساعدهم على الدراسة"، وبعض هؤلاء المرضى قد يعانون من صعوبات في التعلم، بيد أن الكبتاغون يتمتع أيضاً بجاذبية على المستوى الاجتماعي في أغلب الأحيان، وبرأيها، صار هذا المخدرُ المخدرَ المعتمد في الحفلات.

يخبرنا علي بأن أحد الشبان الآتين من الشرق الأوسط حدثه غير مرة عن تناول الكبتاغون في الحفلات الخاصة التي تقام في البيوت، وعند أخذ جرعة كبيرة من هذا المخدر، يصل المتعاطي إلى حالة النشوة، ولكن يبدو بأن خطر المخدر أقل من ضرر شرب الكحول بشكل علني، على الرغم من أن من يتعاطون الكبتاغون بشكل معتاد تظهر لديهم أعراض مثل الأرق والتوتر والاكتئاب والتقلبات المزاجية، كما بدأ علي يسمع قصصاً عن الكبتاغون السوري الذي يستهلك مع منشطات أخرى، وذلك لتلبية احتياجات شبان لا يرغبون بالبقاء متيقظين فحسب بل يريدون أيضاً أن يصدوا شهيتهم على الطعام مع تضخيم حجم أجسامهم، وهذا ما دفع علي إلى القول: "إن تعاطي المنشطات بشكل مضر أمر شائع جداً في الشرق الأوسط".

ينتصب مكبس معطل لتشكيل حبوب الكبتاغون في مرآب للسيارات خارج مديرية مكافحة المخدرات في العاصمة الأردنية، ويعادل حجم هذه الآلة المعدنية حجم ثلاجة، وقد زودت بأزرار كبيرة تحمل الألوان الرئيسية وتشبه في ذلك لعب الأطفال، إلا أن السلطات الأردنية صادرت هذا المكبس في أثناء عملية اقتحام أجرتها مؤخراً لأحد مقرات التصنيع، ثم تركت المكبس خارج المديرية ليتحول إلى رمز للأغراض التي تسعى هذه المؤسسة إلى تحقيقها.

صبيحة يوم لطيف ببرودته من أيام شهر شباط، جلس رئيس المديرية اللواء حسان القدة خلف مكتب خشبي وأخذ يحتسي القهوة ويعب من سيجارته الإلكترونية، في حين كان بقية من في المكتب يدخنون السجائر (بما أن النيكوتين يعتبر أشهر مخدر في الأردن)، وقال للصحفي بأنه يشهد الآن أشد موسم ازدحاماً للاتجار بالمخدرات القادمة من سوريا، بما أن المهربين يفضلون عبور البادية في الشتاء، حيث يمكنهم استغلال العواصف الرملية والثلوج والضباب كستار يخفي عملياتهم.

الحمام الزاجل متورط في تهريب الكبتاغون

خلال عاصفة ثلجية حدثت في 26 كانون الثاني من عام 2022، حاول تجار مخدرات سوريون نقل شحنة كبيرة من حبوب الكبتاغون إلى الأردن سيراً على الأقدام، ما جعل العساكر الأردنيين يفتحون النار عليهم، فقتلوا 27 مهرباً وجرحوا غيرهم كثيرين، فكان ذلك من أحد الاشتباكات الدموية غير المعهودة هناك، على الرغم من حدوث اشتباكات خطرة كل شهر تقريباً، ولهذا صار المهربون السوريون يستعينون اليوم بعدة أساليب ماكرة لنقل شحنات المخدرات إلى الأردن، ومن بينها المسيرات والحمام الزاجل، الذي يجري تدريبه على الطيران حاملاً معه أكياساً صغيرة من البضائع المحظورة التي تربط في ساقيه، وقد أطلق المهربون غير مرة خلال الأشهر القليلة الماضية شحنات الكبتاغون عبر الحدود داخل صواريخ أرض-جو زودت بأجهزة تعقب بحيث تسمح لزملائهم المجرمين في الأردن بالعثور على الشحنة حال هبوطها إلى الأرض.

يقول أحد المراقبين الأجانب بأنه جرى ضبط كميات أقل من المخدرات على الحدود في عام 2023 مقارنة بما حصل في عام 2022، ما يشير إلى تراجع في نشاط الاتجار بالمخدرات، لكن القدة قال بأن كميات المخدرات التي تضبط لا تعتبر مقياساً وحدها، ولهذا تفضل الوزارة التي يعمل لديها احتساب محاولات الاتجار بالمخدرات وتهريبها أيضاً، بما أن هذه العمليات زادت فجأة، وعن ذلك يقول: "هنالك على الأقل ثلاث عمليات تحدث كل أسبوع، فالوضع لم يكن كذلك من قبل، أي إن الأمور  ازدادت ضراوة اليوم".

كما زاد عدد المشاركين في تلك الطلعات، إذ قبل أن يصدر الأردن أمراً يقضي بإطلاق النار فور رؤية المهربين، اعتمدت معظم محاولات تمرير المخدرات عبر الحدود في عام 2022 على حفنة من الأشخاص، ولهذا يرى القدة اليوم بأن جماعات مؤلفة من ثلاثين أو أربعين رجلاً باتت الأمر الشائع، وقبل بضعة أسابيع من إدلائه بتلك المعلومات، عبر 250 رجلاً الحدود معا، ولكن من مناطق مختلفة، وفي مرة أخرى، اعتمد أربعمئة رجل على الاستراتيجية نفسها. أي إن الطريقة المعتمدة كانت تقوم على نقل سيارات للمخدرات إلى عمق ميل عبر الحدود، ثم يحملها أفراد في حقائب يضعونها على ظهورهم. ولدى السلطات الأردنية كاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء وذلك لتسجل التحركات من خلال حرارة الجسم، لكن هذه الكاميرات عجزت في بعض الأحيان عن تعقب المهربين وتجار المخدرات وتحديد مواقعهم، خاصة في حال حدوث عاصفة رملية (وقد قال مصدر يعرف بعض المهربين بأن تجار المخدرات استثمروا في شراء بزات حرارية بغرض التمويه، وذلك لتجنب تعقبهم بواسطة الأشعة تحت الحمراء)، كما أدركت السلطات الأردنية أن خلف المهربين الذين يحملون البضاعة في حقائبهم هنالك خط دفاعي مؤلف من رجال الميليشيات بأسلحتهم نصف الأتوماتيكية، وهؤلاء على استعداد لقتل أي عنصر من عناصر دوريات حرس الحدود، ولهذا يرى القدة بأن الاشتباكات أصبحت عبارة عن عمليات لتبادل إطلاق النار في أغلب الأحيان.

يقدر القدة بأن أربعة أخماس كميات الكبتاغون التي تدخل إلى الأردن وجهتها الأخيرة هي السعودية، وباقي ما تبقى سيظل في الأردن، وعندما طلب الصحفي منه أن يريه حبوب الكبتاغون اتصل بسكرتيره، وبعد دقيقة واحدة، دخل ضابط يحمل كيساً يحتوي على مئتي حبة ذات لون بني طبع عليها هلالان متعانقان، ويخبرنا قدح بأن هذا الشعار صار عتيقاً، ولهذا فإن الكبتاغون السوري صار يحمل اليوم شعار رأس حصان، وهنالك نوع آخر طبع عليه شعار لكزس.

بديل جديد: الهرويين الإيراني

بيد أن حبوب الكبتاغون لم تعد همه الوحيد، لأن الأشخاص نفسهم الذين ينقلون الكبتاغون من سوريا أصبحوا اليوم يتاجرون بمادة الكريستال ميث التي يمكن تصنيعها بسهولة في مصانع الكبتاغون نفسها، بيد أنها أخطر من الكبتاغون بكثير. وقبل بضع سنوات، كان سعر الغرام الواحد من الكريستال ميث يعادل مئة وأربعين دولاراً في الأردن، أما الآن فقد أصبح سعره 55، وذكرت فتاة تعيش في عمان بأنها رأت الناس وهم يتناولون الكريستال الميث في حفلات العشاء التي تقيمها الطبقة الوسطى.

زار الصحفي الذي كتب هذه المادة مركزاً لإعادة التأهيل تديره الدولة الأردنية في عمان، حيث كان نحو خمسين رجلاً في طور التعافي من الإدمان على أنواع مختلفة من المخدرات، أحدهم كان في الثلاثينيات من العمر ويرتدي سترة لها قبعة ولا يكف عن نفث دخان سيجارته، ويرتجف بعصبية وهو يقول بأنه في البداية صار يتعاطى الكبتاغون في الأردن، ثم انتقل إلى تركيا، حيث أدار مشروعاً إنشائياً ناجحاً، فلم تعد تكفيه دفقة النشاط التي يبثها الكبتاغون، ولهذا صار مدمناً على الكريستال ميث، ويتابع بأنه خسر كل شيء بسبب إدمانه، إذ في اسطنبول تعلق بالكريسال ميث إلى جانب تناوله لما يتراوح بين ثلاث إلى أربع حبات كبتاغون يومياً، ثم ألقي القبض عليه وجرى ترحيله إلى الأردن. ويذكر هذا الرجل بأن معظم تجار الكبتاغون في إسطنبول  هم سوريون أو أردنيون، بيد أن العصابات الإيرانية على حد قوله تسيطر على تجارة الكريستال ميث، لدرجة بات معها هذا المخدر يعرف محلياً بالهرويين الإيراني.

في عام 2015، بدأت قوات الشرطة في أوروبا والشرق الأوسط بضبط شحنات كبيرة من الكبتاغون، وفي تشرين الثاني من عام 2015، صادرت السلطات التركية قرابة 11 مليون قرص مخبأ داخل شحنة لمصافي الزيت كانت متوجهة إلى دول الخليج، وبعد مرور شهر على تلك الحادثة، عثرت الشرطة اللبنانية على 30 مليون قرص كانت في طريقها إلى مصر، وقد خبئت تلك الشحنة داخل مقاعد مدرسية.

عمل كريس أوربين لدى إدارة مكافحة المخدرات الأميركية لمدة 25 سنة، وقبل تقاعده في عام 2021، عمل في شعبة العمليات الخاصة التي تركز على التهديدات التي تأتي من الخارج، إذ تحول الكبتاغون وقتئذ إلى شيء مثير للقلق، وابتداء من عام 2018، يخبرنا أوربين بأن "الحكومة الأميركية بذلت جهوداً كبيرة في مجال جمع المعلومات الاستخباراتية وذلك لتعرف سبب هذه الزيادة الهائلة في عمليات مصادرة كميات كبيرة من الكبتاغون في الموانئ، ومن المستفيد منها".

ميناء اللاذقية محور مهم للكبتاغون وتجارته

وبحلول عام 2021، أضحت الصورة أوضح، إذ تبين بأن معظم الشحنات التي جرى اعتراضها قادمة من سوريا، وتحديداً من ميناء اللاذقية الذي يعتبر معقلاً لعائلة الأسد. وأشهر حالة من تلك الحالات، تلك التي وقعت في تموز 2020 والتي عثر خلالها على 84 مليون حبة كبتاغون آتية من اللاذقية داخل شحنة تضم لفافات ورق ومعدات ذات حجم صناعي، وذلك عند وصولها إلى ميناء ساليرنو الإيطالي، وبلغت قيمة تلك الشحنة التي جرى ضبطها ومصادرتها مليار دولار، ولكن وبحسب تقديرات اليوروبول، لا توجد سوق محلية أمام الكبتاغون في أوروبا، ما يعني بأن بعض تجار المخدرات في الشرق الأوسط والذين أثارت شحناتهم الشبهات لدى السلطات السعودية أو في الخليج، يقومون بغسل مصدر الشحنة عبر تمريرها إلى أوروبا أولاً، وهذه التكاليف الإضافية تستحق كل هذا العناء في حال نجحت الشحنة بالوصول إلى الوجهة المقصودة.

يعلق أوربين على ذلك بقوله: "كان نظام الأسد ينظم كل ذلك على هذا المستوى الكبير، إذ هنالك احترافية واضحة فيما يتعلق بالجريمة المنظمة". وأكدت المعلومات الاستخباراتية القادمة من سوريا بأن عائلة الأسد، وعلى الأخص شقيقه ماهر، يتحكمون بعملية التوريد بالشراكة مع الجهات المنتجة في لبنان. ويشرح أوربين بأن العلاقة مع حزب الله كانت مهمة: "نظراً لخبرتهم الواسعة في مجال النقل والتيسير والفساد في تلك المناطق وخارجها، والفساد المستشري في الموانئ وغسل الأموال".

ذكر أوربين بأن إدارة مكافحة المخدرات الأميركية شاركت معلوماتها الاستخباراتية عن الكبتاغون مع نواب أميركيين، فتدخل عدد من السياسيين بالقصة، لأن ما شغل البال لم يكن احتمال إغراق أميركا بالكبتاغون بعد فترة وجيزة، بما أنه يوجد بالأصل فيها مخدرات أقوى بكثير يمكن أن تسبب أعتى حالات الإدمان، مثل الفينتانيل، وإنما رغب السياسيون بوقف تدفق مليارات الدولارات على نظام الأسد الخاضع للعقوبات، إلى جانب حرمانه من حلفائه وأعوانه في إيران ولبنان. ومن السياسيين الذين تصدروا هذه الجهود عضو الكونغرس عن الحزب الجمهوري فرينش هيل الذي رعى هو وغيره من النواب قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين في عام 2019، وهذا القانون فرض عقوبات ثقيلة على الأسد وعلى حلفائه المقربين. بعد ذلك تقدم هيل بمشروع قانون الكبتاغون في عام 2022، والذي وضع لتعطيل وتفكيك ما ينتجه نظام الأسد ويتاجر به من المخدرات الفتاكة، ومنذ فترة قريبة، وقع الرئيس السابق جو بايدن على قانون منع الاتجار غير المشروع بالكبتاغون ضمن حزمة المساعدات الموجهة للخارج خلال شهر نيسان الماضي، وذلك بهدف توسيع نطاق العقوبات المفروضة على المتورطين في هذه التجارة. ويخبرنا هيل الذي استقطبت جهوده تأييداً من كلا الحزبين، بأن مشروع القانون الذي تقدم به يهدف إلى تحقيق غايتين، وعن ذلك يقول: "أبوسعك تعطيل شبكات المخدرات العابرة للدول بمساعدة الشركاء؟ إذن فهذا هدف جيد، ولكن هدفي الأساسي هو قطع التمويل عن الأسد".

منذ مدة قريبة، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على 14 شخصية سورية ولبنانية أخرى متورطة بتجارة الكبتاغون، كان من بينها طاهر الكيالي، وهو سوري يمتلك شركة نيبتونوس محدودة المسؤولية، وهي عبارة عن شركة شحن مقرها في اللاذقية. وهذه الشركة تمتلك سفينة الشحن نوكا التي اعترضتها السلطات اليونانية في عام 2018 وتبين بأنها محملة بكميات من الكبتاغون والحشيش تتجاوز قيمتها المئة مليون دولار.

الكبتاغون كأداة للتهرب من العقوبات

مايزال الجدل قائماً حول مدى إسهام العقوبات في الحد من تجارة الكبتاغون، إذ ورد في تقرير أممي صدر مؤخراً بأن العقوبات التي فرضت على العراق قبل الغزو الأميركي في عام 2003 تسببت في انكماش الاقتصاد العراقي، ولكنها أمدت الاقتصادات غير الشرعية بنسغ الحياة. وبالطريقة ذاتها، يمكن للعقوبات المفروضة على إيران وسوريا أن توسع من فرص الاتجار غير المشروع والاقتصادات غير القانونية في التغلب على قيود العقوبات، إذ عندما يرفض العالم التعامل معك على المستوى التجاري، يصبح بوسع مبيعات المخدرات أن تسد هذا النقص.

منذ سن قانون قيصر، زادت عمليات الاتجار بالكبتاغون إلى حد كبير، وقد أسهم ماثيو زويغ في سن هذا القانون عندما كان يشغل منصب المستشار الأرفع المعني بالعقوبات لدى إدارة ترامب، أما الآن فيعمل ضمن مجموعة الضغط لدى مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات وعن ذلك يقول: "بالنسبة لأغلب العناصر الفاعلة في سوريا، وفي شبكة التهديد الإيرانية، يعد الكبتاغون أداة أساسية للتهرب من العقوبات"، ولكن هذا كان سبباً في تقديره للعمل بشكل أكبر على خنق هذه التجارة بدلاً من أن يكون سبباً لتخفيف العقوبات.

يذكر أن الولايات المتحدة زودت السلطات الأردنية بأجهزة مسح وغيرها من المعدات بهدف منع المواد التي يجري الاتجار بها، ولقد أمضى ضابط أميركي من إدارة مكافحة المخدرات الأميركية ستة أشهر في الأردن ليقدم المساعدة للحكومة هناك، ولكن إدارة مكافحة المخدرات الأميركية التي لديها أولويات أخرى غير الكبتاغون، ليست لديها كوادر موجودة بشكل رسمي ودائم في الأردن، كما أن الأردنيين أصابهم إرهاق وتعب شديد كما هو واضح، ولذلك يقول أحد المعارضين السوريين الذين يراقبون تجارة الكبتاغون بأن الجنود الأردنيين يقومون بما بوسعهم القيام به، ولكن ليس لديهم ما يكفي من المعدات.

"سوريا محور مشكلة المخدرات"

وثمة قضية أخرى تتصل بمدى انحياز السياسة الأميركية لسياسات دول الشرق الأوسط، إذ في أيار من عام 2023، رحبت الجامعة العربية بعودة سوريا إليها لأول مرة منذ عام 2011، وذلك خلال قمتها التي عقدت بجدة، وجرى تصوير حاكم السعودية محمد بن سلمان وهو يتحدث بحرارة مع الأسد، ولوهلة، بقيت روسيا وإيران أهم حليفتين للأسد، بيد أن بقية الدول اختارت منذ فترة قريبة أن تبتعد قليلاً عن معاقبة حكومته، على الرغم من خطر تعرضها للعقوبات هي أيضاً.

بل في الأردن أيضاً، غير السياسيون موقفهم القائم على المواجهة، إذ بعد لقاء وزير الداخلية الأردني مازن الفراية بنظيره السوري في اجتماع ضم وزراء عراقيين ولبنانيين، علق على الاجتماع بقوله: "كانت نتيجة هذا الاجتماع هي أن سوريا محور مشكلة المخدرات"، بيد أن الرد الأردني لا يهدف لتهديد السوريين، بل يرى الفراية أن سوريا أضحت بحاجة لمساعدة مالية حتى تشتري أجهزة مسح ولفرز مزيد من ضباط الجمارك، ومن خلال ذلك بوسعها الحد من عمليات التهريب على جانبها من الحدود.

"شراكة عرجاء"

بيد أن العبث سيد الأمور هنا، لأن الحكومة الأردنية تعرف بأن نظام الأسد هو من يدير أغلب تجارة الكبتاغون، ومع ذلك تتظاهر بأن سوريا ملتزمة بوقف هذه التجارة (إذ يقول الفراية بأنه في حال قدم الأردن للحكومة السورية أجهزة مسح، فإن ذلك سينهي على الأقل حجة واحدة من الحجج التي يقدمها الأسد ليبرر فشله في وقف التهريب)، وقد تمثل النهج الذي تحدث عنه الوزير في بقية مؤسسات الدولة الأردنية، وذلك لأن كل مسؤول أردني أجري معه لقاء من أجل هذا التحقيق أبدى عدم رغبة بانتقاد تورط نظام الأسد في إنتاج الكبتاغون وتهريبه، كما رفض القدة، رئيس مديرية مكافحة المخدرات أن يتحدث في لقاء مسجل عن هذا الموضوع، (بل حتى المسؤول السعودي الذي تحدث عن الاستعانة بالكبتاغون كسلاح رفض ذكر الأسد أو سوريا بصراحة).

شرح مندوبون يمثلون عدداً من مؤسسات الدولة الأردنية مواقفهم عبر الحديث عن الوضع الفوضوي في الجنوب السوري، حيث تهيمن مجموعة من الجماعات المسلحة، على الرغم من سيطرة نظام الأسد الشاملة على تلك المنطقة. وذكرت المحللة الأردنية كاترينا سمور المتخصصة بالملف الأمني بأن التقارب الحذر بين الأردن وحكومة الأسد يعبر عن مدى إحساس بلدها بالإرهاق إزاء المنعة التي يبديها الأسد، وأضافت: "كان الأردن أول دولة طالبت بإخراج سوريا من جامعة الدول عقاباً للأسد على جرائمه"، ومنها الهجمات الكيماوية التي شنها على شعبه، وقالت أيضاً: "ولكن المجتمع الدولي فشل في نهاية الأمر"، وفيما يتصل بالكبتاغون، علقت بالقول: "بدلاً من السماح بانتشار الفوضى على حدودنا، أتى القرار بعقد شراكة، مهما كانت عرجاء".

الكبتاغون كله بيد آل الأسد

أجرت منظمة إيتانا السورية المعارضة التي تعمل على رصد هذا الملف تحقيقات جريئة حول تجارة الكبتاغون، حيث جمعت معلومات من مئات المصادر من داخل العصابات السورية، والمشاريع التجارية، ووزارات الدولة، ولهذا يسخر من يعملون لدى إيتانا من أي تلميح بأن نظام الأسد لا يتحكم بإمبراطورية المخدرات في سوريا، إذ قبل الغارة الأردنية التي أسفرت عن مقتل مرعي الرمثان وأسرته مثلاً، كانت مصادر إيتانا تراقب اجتماع الرمثان بعدد من عناصر المخابرات العسكرية السورية. وفي مقابلتين، شرح مندوبون من إيتانا بنية تجارة الكبتاغون في سوريا، وذكروا بأن الأرباح تتدفق من القاعدة إلى القمة لتصل إلى أهم الشخصيات وأرفعها في الفرقة الرابعة. ونصف تلك الأموال التي تدرها تجارة الكبتاغون السورية تصل إلى جيوب نظام الأسد.

خلال العام الماضي، كشف تحقيق مشترك لبي بي سي ومجموعة تعمل بالصحافة وتعرف باسم مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد عن تفاصيل جديدة ومهمة تدور حول محاكمة حسن دقو التي أقيمت ببيروت في عام 2021، ودقو مواطن سوري يحمل الجنسية اللبنانية ويعرف باسم ملك الكبتاغون في الصحافة اللبنانية، وقد اتهم هذا الرجل بأنه هو من خطط لشحن نحو مئة مليون حبة كبتاغون ضبطت في ماليزيا، وفي أثناء محاكمته، جرى تقديم سلسلة من مراسلات على واتساب جرت بينه وبين رجل كان يخاطبه بالمعلم فقط كدليل على ذلك. وفي تلك المراسلات، ناقش الرجلان مسألة نقل "البضاعة" والتخليص الجمركي، ويعتقد بأن المعلم هو غسان بلال، أي نائب ماهر الأسد في الفرقة الرابعة.

وفي لندن، أجريت مقابلة مع سوري منشق التقى ببلال عندما كان كلاهما في الجيش السوري، فذكر بأن بلال الذي كان مهندساً خدم لفترة طويلة تحت إمرة ماهر الأسد، صار يعطي بنفسه الأوامر المتعلقة بالإتجار بالكبتاغون، كما ذكر بأن بلالا وماهرا يتمتعان بسلطة تمكنهما من زيادة أو إنقاص تدفق الكبتاغون خارج سوريا. وفي حال رغبا بقطع تجارة الكبتاغون غداً فلن يحتاج الأمر منهما إلا لمكالمة هاتفية على حد زعم ذلك المنشق.

يرى سمير رفاعي الذي شغل منصب رئيس وزراء الأردن من 2009 إلى 2011 أن هذه النظرة ساذجة، وجرى اللقاء في بيته الذي يقع بين التلال خارج عمان، ومن حديقة بيته، بوسعك أن تراقب الحدود مع إسرائيل والضفة الغربية، كما يمكنك رؤية أريحا، في حين من الصعب أن ترى سوريا من جهة الشمال. هذا ويرصد رفاعي الذي يتحدث بلغة إنكليزية صقلها في أثناء دراسته في هارفارد وكامبريدج منطقته بعين براغماتية، إذ عندما كان رئيساً للوزراء، جلس قبالة الأسد على طاولة واحدة إثر قيام الربيع العربي، ومنذ ذلك الحين، وهو يتعقب الكارثة التي تحدث في سوريا برعب شديد، ولهذا سألناه إن كان يعتقد بأنه بوسع الأسد إيقاف تجارة المخدرات في حال رغب بذلك، فأجاب: "نعم، ولكن لا بد من التنبيه إلى أنه بحاجة لمن يقنعه هو والإيرانيين بذلك، ومشكلته أنه لا يثق بالغرب، إذن في حال خروجه من عباءة روسيا وإيران ما هي الضمانات التي ستمنح له والتي ستجعله يخطو هذه الخطوة الجريئة؟"

تعتقد إيتانا أنه قبل أسابيع من اجتماع الجامعة العربية في أيار من عام 2023، أصدر آل الأسد أوامر لتجار المخدرات تقضي بالحد من إنتاج الكبتاغون (ومن الواضح أن الأردن يعتقد بأن السوريين لم يبذلوا ما يكفي من الجهد في هذا المضمار، ولهذا قتل مرعي الرمثان وأسرته بعيد تلك القمة)، لكن ممثلي إيتانا قدموا أدلة تفيد بتغير الوضع منذ ذلك الحين، وخلال شهر شباط الماضي، أورد مصدر لإيتانا محادثة أصدرت فيها شخصية رفيعة من حكومة الأسد أوامر لأحد زعماء عصابات الكبتاغون بمواصلة الإنتاج على أعلى مستوى كما ورد في تلك المحادثة.

بيد أن ماثيو زويغ الخبير بشؤون العقوبات من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، شكك بهذه السردية، وذلك لأن إمبراطوريات المخدرات برأيه تقيم بمرور الوقت مراكز سلطة منافسة، والمجرمون المتورطون في تجارة الكبتاغون عزموا بلا شك على مواصلة عمل مشاريعهم، ولهذا لم يشكك زويغ بتورط الفرقة الرابعة بشكل كبير في تجارة الكبتاغون، مع احتمال خروج أسواق المنشطات في الشرق الأوسط عن سيطرة الأسد، ويرى زويغ بأن قرار الجامعة العربية بإعادة العلاقات مع الأسد قد اتخذ على أمل أن يكف الأسد عن إغراق المنطقة بالكبتاغون، بيد أن تجارة الكبتاغون بقيت قوية، ولعلها تطورت ونمت أيضاً، وهنا يتساءل زويغ: "هل حدث ذلك لأن الأسد لا يمكنه وقفها؟ أم لأنه لا يستطيع فعل ذلك؟"

 

المصدر: The New Yorker