من داخل سوريا

2019.02.03 | 00:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كحال عشرات الألوف من السوريين، كان صاحبي "ممنوعاً من السفر" على مدى سنوات طويلة. وهذا المنع، هو واحد من الإجراءات العقابية والترويضية، التي يستخدمها نظام آل الأسد اعتيادياً وعلى نطاق واسع، ضد من يشعر أنهم قليلو الولاء، أو يشتبه بميولهم السياسية. 

في هذا السجن الكبير، "سوريا الأسد"، عاش صاحبي ملتصقاً بمدينته، بل مكتفٍ ببعض أماكنها وحسب، طالما أنها باتت منقسمة سكانياً وفق فرز طائفي، تحرسه وتغذيه مفارز المخابرات وحواجز "الشبيحة" والاستحكامات العسكرية.. والضغينة السارية بين جماعة الموالاة "المنتصرة" وأهل الثورة المهزومين.

وصاحبي هذا، الذي حوّل "منع السفر" تدريجياً إلى قرار إرادي، وإيمان سياسي، بعدم المغادرة أو الهرب، متمسكاً ببيته وأرضه وفضائه ووجوده الحيّ، كما لو أنه دليل فردي على مقاومة "التطهير"، وعلى عدم تسليم البلد والمدينة والبيت واللغة والهوية.. كان يعرف أن الثمن مقابل ذلك باهظ. كان عليه أن يكفّ عن الفعل وعن الانفعال أيضاً. كان عليه أن يدبّر صمته ويمنح هذا الصمت معنى في الوقت نفسه، وأن يعتاد أسلوب تعبير يتراوح بين الرمزية والتجريد. أن يتحول إلى رجل ملتبس. وهذا في سوريا علامة تمرد، ودليل شبهة. 

تنعقد اليوم تلك المنازعة المريرة في سوريا بين أجهزة الاستبداد والمواطنين

على هذا الالتباس بالتحديد، حيث المواطن "الضئيل" بمواجهة جبروت النظام، تنعقد اليوم تلك المنازعة المريرة في سوريا بين أجهزة الاستبداد والمواطنين، أو كما قال صاحبي باختصار: المعضلة التي يواجهها هذا النظام كل يوم هي تلك "الثورة في الصدور".

ما هو مكنون في النفوس، ما هو راسخ في الضمير.. لا يمكن الوصول إليه، لا يمكن اعتقاله. فإذا كان سهلاً إرسال الجيش إلى هذه المدينة أو تلك القرية وممارسة التدمير والقتل والاحتلال، فإن الإعجاز هو في اقتحام الصدور، أو احتلال العقول.

"منحبك سوريا" عبارة لا يمكن إدانتها أو منعها أو مطاردة قائلها. واليوم في سوريا الداخل تتحول إلى "كود" (شيفرة)، تعبّر عن التمرد ورفض الهزيمة أو الخضوع أو منح الولاء. ففي المقابل هناك "منحبك" (بشار الأسد) التي اشتقت منها صفة المنحبكجية. هكذا، يتحول شعار "منحبك سوريا" إلى رد مضاد واستفزاز! على هذا المنوال، يمكن رصد لغتين في سوريا، أو حتى "شعبين سياسيين" يتقاسمان العداء التام والكراهية المتبادلة.

يروي صاحبي أن ثمن بقائه من دون تهجير، كان اتقان هذه الباطنية التي لطالما تدرب عليها السوريون، طوال 40 عاماً. وفي الأثناء، تحار أجهزة المخابرات ماذا تفعل به. استدعاء إلى المفرزة دورياً، مرة أولى وخامسة وعاشرة، واتصالات هاتفية مثقلة بأسئلة استجواب وتحقيق، ومراقبة وملاحقة.. وصاحبنا لا يمارس إلا حياة عادية كأي مواطن مطيع وصالح.

إثارة غيظ المخابرات لفرط براءتك، بات في داخل سوريا راهناً له معنى "ثوري" ومقاوم. أن لا تتحول إلى فريسة أو طريدة، يجعل رياضة "الصيد" المخابراتية مضجرة ومنهكة ولا طائل منها. وهذا بحد ذاته كابوس للنظام المتوتر، الذي يستشبه ويتوجس على نحو مرضي من أي كائن. إذ ما من بريء على الإطلاق في نظرته إلى البشر. وهو محق بذلك. لكن تفتيش الضمير مستحيل تقريباً. 

ما لا يمكن إغفاله هو هذا الانفجار الذي أصاب صاحبي ما إن التقيته، خارج سوريا. انفجار مكبوتٍ كلامي بلا توقف. راح يستفرغ مخزون سنوات من الحكي والروايات والقصص والمشاهدات، بلا فواصل ولا تمهيد. بل إن جسده كله كان يتكلم ويرتجف بالتعبير. كان يتحدث كما لو أنه مرعوب من العودة إلى الصمت، بل وكأنه الفرصة الأخيرة في حياته لقول كل شيء.

لم يدرك المتظاهرون أن الإطفائيات أتت لتنظف الشوارع والساحة من دمائهم وحسب

واحدة من أكثر القصص التي رواها، ولن أنساها، وهي أحد أدق الأمثلة على كثافة الشر الذي يستمتع به النظام، ما جرى في بدايات الثورة. كان جمهور التظاهرة يهلل بالأناشيد والأهازيج والشعارات، وكان في طليعتها الشبان الذين راحوا يبتسمون لمرأى شاحنات الإطفاء آتية صوبهم، وصاروا يتضاحكون أنهم سيواجهون خراطيم المياه. لم يدرك المتظاهرون أن الإطفائيات أتت لتنظف الشوارع والساحة من دمائهم وحسب، منتظرة انتهاء الجنود من مهمتهم. بعد المجزرة لا بد من تنظيف آثار الجريمة. 

هذا النوع من التنظيم والعقل البارد في ممارسة الوحشية الممنهجة، هو الذي جعل "السلمية" مستحيلة، بل انتحار. أي تنظير آخر هو هراء وتدليس. وبمعنى آخر، الثورة في سوريا إما "ليتها لم تكن" من الأساس، أو "ما كان إلا أن تكون" قدراً وحتماً.

راح صاحبي يصف كيلومترات صفوف المنتظرين قارورة الغاز المنزلي. تتناوب العائلة على حجز دورها في الصف لثلاثة أو أربعة أيام أحياناً. وفي المقلب الآخر، كان يشاهد العمارات والأبراج الجديدة التي يشيدها الآن المنتصرون، أمراء الحرب، ومقاولوها.. ثم صار يرسم لي الحدود الأهلية بين السنّة والعلويين والمسيحيين. خطوط تماس من التمييز العلني والكراهية المضمرة والتوجس الدائم في الألفاظ وفي سماع اللهجات.. الحرب مستمرة بأدوات أخرى.

تحاشى من دون نجاح ذرف دمعة عند كل حكاية، أو بلع غصة حارقة: "أتحاشى السفر أو الخروج، لأن ذلك يبدد كل جهودي في التعود والتأقلم ما إن أرى الحياة خارج سوريا... طالما أنك مقيم، تستطيع ترويض النفس يوماً بعد يوم، وعلى امتداد سنوات، على الشدة وعلى التعاسة التي تسود الحياة العامة، تتعود على قلة الكلام وعلى تفاهة الواقع. لكن، ما إن تحط في بلد آخر حتى تصفعك حقيقة ما أنت فيه مقارنة بحياة البشر. سوريا ليست مدمرة فقط، إنها في بئر مظلمة".

يقول إنه كبر في العمر سريعاً. ولاحظت تعباً مقلقاً في جسمه. لكن ما كان يعود إليه في الكلام متحسراً، على نحو غريب، استياؤه الساخط من قرارات التجنيد الجديدة، واستدعاء المسرحين من الاحتياط: "يا يوسف، إنهم يقضون على شباب سوريا". كررها كما لو أنها جلطة علقت في دماغه "يقتلون شباب سوريا".