من حكايا المعتقلين

2022.12.18 | 06:03 دمشق

من حكايا المعتقلين
+A
حجم الخط
-A

لم تخلُ السجون ومراكز التوقيف طوال حكم السلالة الأسدية من معتقلين تعرّضوا لأشكال تعذيب فظيعة. والتهم كثيرة ومعروفة، لكن جوهرها واحد: من يقف أو يتكلم ضد "سيادته" أو ضد حق "السلالة" في الحكم والنهب. لكن ثمة حكايا ضمن تلك السجون تجري بين المعتقلين، وهم من خلفيات شتى: جغرافية ودينية وقومية وإيديولوجية. والغريب في الأمر أن الكابوس الأسدي لم يدفع بهؤلاء إلى تطوير شكل من العلاقة بمواجهة ذلك النظام، بل كرّس في كثير من الأحيان حدّة التباينات، وخاصة الإيديولوجية، بمعنى أن السجون لم تستطع أن تخلق نخبة وطنية تتجاوز تلك الانقسامات، كما لم تُسهم في تشكيل قضية رأي عام. وبعيداً عن هذا الهم المركزي المطروح، سأحكي بعض القصص التي كانت تدور في فترات السجن الطويلة بين المعتقلين. وأولى تلك الحكايات:

كان في بعض السجون، فترة شبه يومية يُسمَح فيها للمعتقلين بالنزول إلى الباحة أو ما يُعرَف بـ "التنفس"، حيث يمارس الشباب الرياضات المختلفة من المشي إلى التمارين إلى كرة القدم وغيرها، وكثيراً ما تجري نقاشات بينهما وهم يتمشون. وفي إحدى المرات، كان النقاش بين "رفيقين" حول أهمية الديمقراطية في الحياة السياسية واختيار النظام السياسي، حيث كان يقول أحدهم: إن الديمقراطية هي أفضل نظام سياسي أنتجته البشرية حتى الآن، بما توفره من حريات في اختيار الحاكم ورفضه، فكان ردّ رفيقه في المشي: ولكن عليك أولاً أن تحدد، الحرية لمن؟ للجميع بما فيها البرجوازية، أم للطبقات الشعبية المستَغلة...! ردّ عليه رفيقه وهو مصعوق: الحرية التي تمنع اعتقالك، وتسمح لك ولغيرك بالتعبير عن آرائهم من دون خوف من الاعتقال، وتعرّض للتعذيب...! 

والحكاية الثانية، بعد جولة من التعذيب الفظيع لاثنين من المعتقلين، والتعذيب متمايز تبعاً للتصنيف، فعادة يصنف النظام المعتقلين تبعاً لما يعتقد أنهم يشكلون خطراً عليه: "الإسلاميون أولاً، واليمين المشبوه ثانياً والبقية، وخاصة من هم في صف اليسار"، في تلك الحفلة، كان أحدهما من الفئة الأولى: إسلامي، والآخر يساري، وبعد عودتهما من الحفلة، كانت آثار الضرب واضحة، فالدماء لا تزال تنزف من جسديهما، وإن كانت بشدة مختلفة، بعد فترة أيام من رميهم بغرفة وسخة مليئة بالحشرات والجراثيم،  سأل الإسلامي رفيقه: هل تؤمن بالله؟ فرد عليه بصعوبة: إلى حدٍ ما. استغرب من الجواب، فشرح له الأمر بأنه يؤمن بالعموم، ولكنه أحياناً يصل لدرجة القلق واللايقين، فقال له: سأثبت لك وجود الله وبطرق علمية، فأنا طبيب اختصاصي درس في الغرب: لقد تلقينا تعذيباً مبرحاً، ثم رمونا في هذه الغرفة كما ترى، والوضع الطبيعي أن نصاب بـ "الغرغرينا" بعد فترة معينة، وأن تقطع أرجلنا نتيجة الإهمال المتعمد، فردّ عليه بالإيجاب، ولكن انظر إلينا، ما الذي حدث، لا شيء مما يقوله العلم، ها نحن نتحرك ونحكي ونضحك، هذا هو الله...!

ما تعكسه الحكايتان من توجهات ورؤى للمعتقلين، وخاصة الإيديولوجية منها، لا تزال تتحكم بعقلية كثيرين من المعارضين

أستذكر تلك الحكايات بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً على تجربة السجن المروعة، وبعد الانهيار الكبير الذي تبع الثورة السورية، وحال البلاد الذي آلت إليه، حيث أعادها نظام السلالة الأسدي إلى العصور الحجرية، لأقول إن ما تعكسه الحكايتان من توجهات ورؤى للمعتقلين، وخاصة الإيديولوجية منها، لا تزال تتحكم بعقلية كثيرين من المعارضين، خاصة أن عدداً منهم من تعرض لتجربة السجن المريرة تلك. ورغم تخلي البعض منهم عن إيديولوجياته السابقة وتحوله نحو الليبرالية والديمقراطية، إلا أن "الأصول" الإيديولوجية لا تزال هي المتحكم في صياغة المواقف السياسية، فتراهم يكيلون الاتهامات للمختلف عنهم بالعقلية السابقة ذاتها، وحتى ينتقدوا الديمقراطية بحال لم تصلهم للصدارة. أما الطرف الإسلامي، ورغم تبنيه العلني لمواثيق وعهود جديدة تدعي التحول نحو عهد سياسي ديمقراطي يؤمن بالتشارك مع المختلف، إلا أن التجربة بينت أن يمارس "تقية" سياسية ونزعة حزبية مفرطة نتيجتها تدمير أي عمل مشترك، فما زالت نظرته العميقة إلى الآخر على أنهم "كفرة"، وليسوا شركاء ومختلفين في السياسة. 

لن أبالغ في الحديث بأن جوهر المشكلة في سوريا هي الاعتقال والمعتقلين، بما تمثله من سياسة النظام في مواجهة الناس، والنظر إليهم كأعداء، وليسوا مواطنين

اليوم، حيث لا تزال المعتقلات ومراكز الاحتجاز مكتظة بأرواح وأجساد السوريين، وحيدين مع معاناتهم وأناتهم، لم تتمكن التيارات المعارضة، التي تعرّض كثير من أفرادها لتجربة الاعتقال وقضوا أعواماً في تلك الزنازين، من تحويل قضية الاعتقال والمعتقلين إلى قضية وطنية، بل تعمّقت الاختلافات بينها أكثر، وبُني عليها كثير من المواقف، وباختصار، ظلّت الإيديولوجيا بدلاً من السياسة هي من يتحكم في المواقف. والأكثر من ذلك أن قضية المعتقلين أو المخطوفين والمغيبين تحوّلت إلى قصة اتجار، يكتفي أصحابها بتعليق صور المعتقلين على جدران مكاتبهم. تاركين قضايا المعتقلين كما كانت، قضايا فردية أكثر ما يتحمل عواقبها الأهل، يكابدون فيها الأمرين، ويتضرعون إلى الله بعودة أبنائهم أو حتى معرفة مصيرهم، أو أماكن دفنهم.

لن أبالغ في الحديث بأن جوهر المشكلة في سوريا هي الاعتقال والمعتقلين، بما تمثله من سياسة النظام في مواجهة الناس، والنظر إليهم كأعداء، وليسوا مواطنين يحق لهم المشاركة في بناء بلدهم وتقرير مصيرهم، وهذا يعني أن تلك المسألة المهمة (الاعتقال والمعتقلين والمخطوفين والمغيبين) يمكن أن تكون العمود الفقري لصوغ قضية وطنية بمواجهة نظام السلالة الاستبدادي، وبناء تحالفات سياسية همها العمل نحو الانتقال الديمقراطي، بعيدة عن الأوهام والثارات القديمة.