من بغداد لبيروت.. الثورة لا تموت

2019.10.30 | 15:24 دمشق

15722193039305008.jpg
+A
حجم الخط
-A

تسع سنوات، والعالم العربي في حالة انفجار اجتماعي. تماثل الانفجار في مختلف الدول العربية بين المشرق العربي ومغربه. كانت المطالب واضحة، "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، وتظلل هذه الثلاثية كلمة مفتاح بالنسبة إلى الشباب العربي بالتحديد وهي "الكرامة". كان الصوت الذي تفجر في الساحات والميادين، هو الصرخة العميقة لاستعادة هذه الكرامة، بعد عقود من التهميش والإهمال والإذلال. خنقت هذه الصرخات على مدى أربعين سنة، بذرائع الأنظمة المعروفة والبائدة. عملت الأنظمة بتنوعاتها، على عسكرة الثورات وتسييسها. في العقل الأمني العميق لكل نظام، ثابتة واحدة هو ممنوع على هؤلاء الناس أن يصرخوا.

عاكست الأنظمة كلها، رياح المجتمع. ولم تسلّم بأن ما يجري في العالم العربي، هو أن المجتمعات تتغير بطبيعتها وتركيبتها، ولم يعد بالإمكان قيادة الناس على أساس طائفي ومذهبي وإيديولوجي. في مقابل ترسخ نموذج آخر هو نموذج المواطنية، الذي يفسح المجال أمام اكتشاف الإنسان لمصدر ظلمه أكثر فأكثر في ظل انتهاك حقوقه الفردية، وتهميشه كإنسان، كمتقدم على كل "الشخصيات" الأخرى التي تطبع به، بأشكالها الطائفية أو العرقية أو المذهبية، أو الميليشياوية. لأن الطائفة والحزب عندما حكما الناس لم يصل بهم إلى حقوقهم، بل أوصلهم إلى الخيبات المتراكمة. ولذلك فإن ما يجري هو أن السلطة تعيد إنتاج نفسها من تحت إلى فوق، أي من المجتمع الذي تنبع منه هذه السلطة.

غالباً ما تلعب العوامل الخارجية أدوارها. ففي لبنان ما بعد الحرب الأهلية، وفي العراق بعد حرب الخليج، وفي سوريا منذ الستينيات، قامت صيغ السلطة على عقلية: "أن هناك خطراً خارجياً دائماً" يبرر إدارة البلاد بطريقة استئثارية، تجلى ذلك في الوصاية السورية

الأولوية حالياً تتعلق بتقدم بناء الداخل الاجتماعي والسياسي على كل ما عداه، وإحالة معادلة "لا شيء يعلو فوق صوت المعركة" جانباً.

على لبنان، وفي ظل حكمي حافظ الأسد في سوريا، وصدام حسين في العراق. همّشت هذه الصيغة المجتمع الداخلي، وتطوير الحيوية السياسية فيه والحقوق المدنية، ما يعني تهميش المواطن. ما أوصل إلى هذا الانفجار. وهو يعني أنه لا بد من إعادة بناء الذات المواطنية. الأولوية حالياً تتعلق بتقدم بناء الداخل الاجتماعي والسياسي على كل ما عداه، وإحالة معادلة "لا شيء يعلو فوق صوت المعركة" جانباً.

لكن الحقيقة في مكان آخر، هي أن وصايات الأنظمة على مجتمعاتها، ووصايات القوى الخارجية على دول بعينها، لا تتم دون توافق دولي. اجتياح العراق وتداعياته الجيواستراتيجية، كشف ذلك، من خلال التكامل الأميركي الإيراني في قتال داعش، مثّل ذلك فضيحة سابقة على اكتشافها أو افتضاحها، كلقاءات سرية عقدت بين قاسم سليماني وديفيد بترايوس بعيد الاجتياح الأميركي للعراق، واستكملت في لقاء بين كونودليزا رايس مع وزير الخارجية الإيراني وأحد المسؤولين الإيرانيين الموكل إليهم الملف العراقي، قبيل الانتخابات العراقية في العام 2009. إذ قدم الإيرانيون في اللقاء رؤيتهم للتوزيع في المواقع النيابية وما بعدها، والتزم بها الأميركيون فيما بعد.

اللعبة نفسها كانت في لبنان، لجهة التعاطي الأميركي مع الوصاية السورية بداية، والوصاية الإيرانية فيما بعد. اللعبة الدولية نفسها هي التي أعادت إنتاج العسكريتاريات وتعيد تعويم بشار الأسد، على حساب خنق المجتمعات ووقف مسار تطوراتها. لكن ما يجري هو انفجارات اجتماعية متتالية، من بغداد إلى بيروت مروراً بالشام.

يتفجر المجتمعان اللبناني والعراقي اليوم على النفوذ الإيراني، القوي والمتمكن فيهما. الانفجار هذه المرةّ هو انعكاس لثنائية الدولة والدويلة، وتعزيز منطق الدويلة على حساب الدولة بكل مقوماتها، الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والسياسية. فتعجز هذه الثنائية عن التعبير البسيط لإدارة شؤون الناس، وها هي تنفجر بشكل عنيف. في داخل البنية العراقية، فإن القوى المستحكمة فيها إيران هي التي تنفجر، وهذا دليل على أن البيئات الشيعية ليست جيدة في مقابل سوء لدى البيئات الأخرى، لا بل البيئة الشيعية تكاد تكون الأكثر تفجراً، وهذا ينعكس في لبنان أيضاً من خلال التظاهرات التي حصلت في الجنوب.

وهذا نتاج لنظام المحاصصة الذي يتشابه بين لبنان والعراق، إذ كل تطبيق هذا النظام، القائم على فكرة المحاصصة بين المجموعات، سواء كانت طائفية أو عشائرية أو قومية، وخاضع للوصاية الإيرانية يثبت فشله، الأمر الذي يتجلى بهذه التفجرات، وبالتالي أصبحت المعادلة واضحة بين البلدين، عرقنة لبنان ولبننة العراق. الذي يوفر الغطاء الكامل للفساد. وهذا النموذج نفسه تستمر المحاولات في تعميمه بسوريا، عبر استحضار

بلا شك أن الثوار السوريين الملسوعين من تجربة الديكتاتورية التي دمرت سوريا، لا بد لهم أن يستفيدوا من فشل التجربتين اللبنانية والعراقية.

النموذجين اللبناني والعراقي، على قاعدة توزيع تحاصصي للسلطة أو الدولة، على أساس عرقي أو قومي أو طائفي أو مذهبي. بينما الفشل أصاب هذا النموذج بمقتل، بخروج العراقيين بهويتهم الوطنية واللبنانيين كذلك.

بلا شك أن الثوار السوريين الملسوعين من تجربة الديكتاتورية التي دمرت سوريا، لا بد لهم أن يستفيدوا من فشل التجربتين اللبنانية والعراقية. وهم يستفيدون أيضاً من عدم العودة إلى تلك الديكتاتورية، مقابل البحث عن صيغة مواطنية تعلو ولا يعلى عليها، تتحكم بها الديمقراطية والمؤسسات وتداول السلطة. صحيح أن ذلك سيكون صعب المنال في سوريا حالياً، لكنه بالتأكيد سيصل إلى هذا المسار، خاصة أن دورات الربيع العربي لم تنته.

تقف المجتمعات الثلاثة أمام تحول اجتماعي وسياسي هائل، طريقه ستكون طويلة، يخرج من مبدأ العودة إلى الحكم الواحد، ورفض الدخول في النماذج التحاصصية المتفجرة، إلى إرساء نماذج دولتية ديمقراطية. سيعبر المسار بعد مخاضات عسيرة ودموية، لكنه سيصل في النهاية.