من المفتي الماجن إلى المفتي الداجن

2020.07.18 | 00:00 دمشق

adam_nsymy.jpg
+A
حجم الخط
-A

يضعنا كتاب (تلبيس إبليس) للمحدّث الناقد، والفقيه المفسر، والصوفي الواعظ، والفكاهي الساخر ابن الجوزي، الذي يمتلك مثل الجاحظ موهبة الملاحظة وقوة التعبير، في الأجواء التي يستُنبت فيها (المفتي الداجن)، وهي أجواء الفقيه المتقرّب إلى السلطان بالفتر والشبر والمتر والكيلو متر، والمتزلف إليه بالزحف والمشي والهرولة والجري والعدْو، والذي يخالطه ويداهنه ويدّهن به! يرخّص له ما لا رخصة له، لينال من دنياه لعقة أو قضمة أو خضمة، "فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه:

الأَوَّل: الأمير! يقول لولا أني على صواب لأنكر عليّ الفقيه! وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل من مالي!

والثاني: العامي! أنّه يقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإنَّ فلاناً الفقيه لا يبرح عنده.

والثالث: الفقيه! فإنّه يفسد دينه بذلك".

ويحدّثنا ابن الجوزي عن تلبيس إبليس لهذا الصنف من البشر: "وقد لبّس إبليس عليهم في الدخول على السلطان فيقول: إنّما ندخل لنشفع في مسلم! وينكشف هذا التلبيس بأنّه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك، وربما قدح في ذلك الشخص لتفرّده بالسلطان [..]، وفي الجملة فالدخول على السلاطين خطر عظيم، لأنَّ النية قد تحسن في أول الدخول، ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم، ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم، وقد كان سفيان الثوري رضي اللَّهُ عنه يقول: ما أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم".

للمفتي الداجن سمات وعلامات نمطية يمكن تتبعها في مجرى أحداث تاريخنا الإسلامي، الذي نقع فيه على شخصيات هي أثمن من الدر، وأخرى أحطّ من البعر، ونماذج تجلّي الإنسان في أجمل صفاته وأرقاها، ونماذج أخرى تبرز أخسَّ ما فيه من رداءة ودناءة.

ولعل أسوأ ما في هذه السمات أنّ (المفتي الداجن) هو مفتي القتل، ومشرّعه، والداعي إليه، والمطالب به، إذا كان ذلك يرضي السلطة ويعجبها، أو إذا كانت تريده وتطلبه، فيسير في مَهْمَهته وكأنّه منذور لمهمّة واحدة هي أن يدمغ بفتواه كل تصرف تضفي به السلطة المأساوية على مصائر بعض الناس أو معظمهم، وكأنّ هذه الفتوى هي علامة الجودة (الإيزو) التي لا يكتمل مشهد الجريمة إلا بها، ولا يجوز إلا إذا خُتم بخاتمها.

يتغذى المفتي الداجن من ظلمة الحدث، فيربض لا يصدر عنه نأمة، ثم تراه فجأة يندفع كأنه الكلب المعلّم الذي يرسله صاحبه وراء الطريدة، فيجري خلفها كالسهم، ويخترقها ويأتي بها ممزقة الأوصال والأشلاء! وقد رأينا لعابه النجس يسيل وهو يلاحق الحلاج، وعين القضاة الهمداني، والسهروردي، والنسيمي، وحسبي هنا أن أنقل تلك الزفرة والتنهيدة التي يطلقها العلامة محمد إقبال حول السهروردي بوصفه مثالاً لكل شهيد سال دمه بفتوى من مفتٍ داجن بائس:

"بدا وهو في ريعان شبابه، مفكراً عديم النظير في العالم الإسلامي. لقد كان أكبر المعجبين، الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين، قد دعاه إلى حلب حيث عرض الشاب آراءه المستقلة بطريقة أثارت الغيرة الشديدة في نفوس معاصريه من علماء الكلام، هؤلاء العبيد المأجورون بتزمتهم المتعطشون للدماء، والذين يعون تماماً قصورهم الذاتي، ويعملون دوماً على الاحتفاظ بقوة غاشمة يُرتكن إليها، ويحتمى بها، قد كتبوا إلى السلطان (صلاح الدين) بأن تعاليم الشيخ تعد خطراً على الإسلام، وأنه من الضروري – لصلاح الدين – أن يقضي على الفتنة في مهدها، واقتنع السلطان، وفي سن مبكّرة لا تتجاوز السادسة والثلاثين تلقى برباطة جأش لطمة جعلته شهيداً للحق، وخلّدت اسمه إلى الأبد، والآن ذهب القتلة ومضوا بلا أثر، لكن الفلسفة التي دفع ثمنها بالدم، ما تزال حية نابضة، تجتذب العديد من الباحثين المخلصين عن الحقيقة".

كان أولئك الشهداء والأولياء يتأملون بثقة مؤثرة وبعيون متوهجة تلك النظرات الأفعوانية للفقيه الماجن، ويسمعون فحيح صوته، وكانوا يرونه كيف يمتصّ الفظيع إلى داخل نفسه كقطعة حلوى مسكرة في ساحة السلخ والصلب والإعدام! وكانوا يدركون بجلاء ما بعده جلاء أنّ هذا المفتي الماجن هو الأبتر الذي قطع صلته مع الأخلاق والضمير والرحمة والرأفة، وأنّ غضبته التي يصّدرها ويدّعي أنها لله هي مجرد تزوير مفضوح ومهتوك ومبتذل، ولذلك فهو الأبتر الذي سينقطع ذكره وسيمحى، وإن ذُكر فإنما سيذكر مبهماً منكّراً بوصفه دالاً على المفزع الشائه، وباعتباره رمزاً للتدجين الديني حين يغدو وسيلة إضافية من وسائل الضغط التابعة للدولة الظالمة المتهتّكة التي ينمو فيها الإرهاب كأنه رؤوس الشياطين التي تعتمر الخوذ والعمائم وتوجّه حرابها وفتاويها لخنق الكلمة في حلق كل من يحاول أن يمسَّ سلطتها المطلقة إن لم تخنق الحلق نفسه.

ويحلو للمفتي الداجن أن يشيع بأنّ هؤلاء الشهداء إنما قُتلوا بسيف الشرع الشريف، وقد يتلقّف المؤرخون ذلك ويثبتونه في كتبهم، ولكن الأوفق والأصدق أن نقول: إنهم قُتلوا بسيف السطوة وخدّامها، وسيف الرعونة وعبيدها، وسيف المتغوّل وخنانيصه الأوفياء البررة المتفرغين للركوع والتقاط القروش! قروش المال أو الجاه أو المجد السريع الزوال.

إن الاطلاع على مجريات محاكمات من أتينا على ذكرهم، ودور المفتي الداجن في تسهيل قتلهم وتسريعه تكشف لنا عن شخصية هذا المفتي المجدولة من الغيرة والحسد والوشاية، وعن آلياته التي يتخذها وسيلة، وعن كيفية ترصده وتربّصه! وكيف ينصب الشَّرك بكل لؤم، ويريغ الكيد بكل فجور، والقصة التي تروى في محاكمة الشاعر عماد الدين نسمي يقشعر لها البدان من هول افترائها وافتئاتها حيث تذكر أن أحد الفقهاء المشاركين في محاكمته كان قد أهدى النسيمي حذاء ودسَّ في طياته ورقة كُتب فيها سورة الإخلاص {قل هو الله أحد}، وفي أثناء المحاكمة طلب ذلك الفقيه من النسيمي أن يريهم حذاءه، ولما أُخرجت الورقة من نعل الحذاء أدرك النسيمي وسط شهقات الجمهور أنّه مسفوك الدم لا محالة، فسلّم أمره لله تعالى، وأُعدم سلخاً كما يُسلخ الأرنب، وهو يترنم بأشعاره التي تحكي عن مواجيده وحبه. إنّ هذا الفجور الهائل الذي يضاهي في قوته قنبلة ذرية ظل ينتقل جيلاً بعد جيل في سلسلة من المسوخ حتى يومنا هذا الذي نرى فيه المفتي الداجن بأم أعيننا يعين الديكتاتور على فجرته، ويسوّغ له تشريد شعبه وتهجيره وقتله وإبادته، متجمّلاً بارتداء وجه التمساح الحزين الدامع، ومتكحّلاَ برعشة أهداب الورعين، ومتدرّعاً بسلطة قهرية مخضعة تجبر الناس على الخيار بين الانحناء لها أو الانسحاق في معتقلاتها أو تحت ركام قنابلها وبراميلها، وفي خضم كل ذلك لا ينسى أن يقدّم المواعظ الدينية والنصائح الإيمانية، وأن يحث على التقوى، بعد أن تدفّق بكل أنواع الخزي والوضاعة في تصرّف يشبه سلوك مشعل الحرائق الذي يحيل البيت كله إلى رماد ثم يطالب بأن يُعاين الأثاث في بعض الغرف!

يالنقاء هذا المفتي ورحمته!

يالسماحته وفضيلته!