icon
التغطية الحية

من الأزهر إلى حيفا.. إرث عز الدين القسام

2024.11.22 | 13:45 دمشق

آخر تحديث: 22.11.2024 | 15:03 دمشق

عز الدين القسام
انطلقت ثورة عز الدين القسام من عمق الوعي الاجتماعي والسياسي الذي حمله وأورثه للوعي الجمعي الفلسطيني فيما بعد
إسطنبول - تمارا عبود
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- البداية والمسيرة الفكرية: بدأ عز الدين القسام مقاومته للاستعمار بعد عودته من الأزهر إلى سوريا عام 1906، متأثرًا بالمدرسة الإصلاحية الإسلامية. عمل كمدرس في جبلة ورفض النظام الإقطاعي، مما شكل وعيه السياسي والديني. انتقل إلى حيفا بفلسطين، حيث أسس "جماعة القساميون" معتمدًا على الفلاحين والعمال.

- المقاومة والنضال: قاد القسام مقاومة ضد الانتداب الفرنسي في سوريا ورفض عروضهم لتولي القضاء. انتقل إلى فلسطين لمواصلة نضاله ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية، مؤسسًا جمعية شباب المسلمين، وأعلن الجهاد المسلح عام 1935.

- الإرث والتأثير المستمر: قُتل القسام في معركة "أحراش يعبد" عام 1935، لكن إرثه استمر في إشعال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). ألهم أجيالًا من المقاومين، واستمر تأثيره من خلال "كتائب عز الدين القسام" التي تأسست عام 1987، مما يعكس استمرار الثورة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

في تشرين الأول من العام 1935، أعلن عز الدين القسام ثورته ضد الانتداب البريطاني والصهيونية، ليشكل ذلك الإعلان محطة مفصلية في تاريخ المقاومة الفلسطينية.

لعبت ثورة القسام دوراً أولياً بارزاً في صراع الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار والاحتلال، وانطلقت ثورته من عمق الوعي الاجتماعي والسياسي الذي حمله وأورثه للوعي الجمعي الفلسطيني فيما بعد، بما فيه من مبادرة نحو الكفاح وسعي للاستقلال.

تستعرض هذه المادة تفاصيل المسيرة الفكرية والنضالية للقسام ودوره في تأجيج روح المقاومة، وكذلك تتطرق إلى حكاية ثورته وأثرها على مسار التحرير الفلسطيني.

من التعليم إلى المقاومة

لم تبدأ ثورة عز الدين القسام يوم أعلن عنها عام 1935 في مسجد الاستقلال في حيفا، بل تمتد جذورها إلى عام 1906 حين عاد من دراسته في الأزهر إلى وطنه الأصلي سوريا، وبالتحديد إلى قرية جبلة في ريف اللاذقية، حاملاً معه شهادته ومخزون العلم والنقاشات الفكرية الرائجة آنذاك بين الإسلاميين والعلمانيين في القاهرة. ومدركاً لصراع المنطقة مع الاستعمار الغربي، حيث كانت مصر واقعة تحت الاحتلال البريطاني في ذلك الوقت، وكان قد بدأ العلماء بالتحذير من الخطة الصهيونية التي تتمثل في إقامة دولة يهودية في فلسطين.

ونشر رشيد رضا، أحد معلمي عز الدين القسام في الأزهر، عدة مقالات حول الهجرة اليهودية في مجلة "المنار"، مما يشير إلى معرفة القسام بالمسألة الصهيونية وقراءته حولها مبكراً خلال مرحلة دراسته، بحسب ما جاء في دراسة بعنوان "الوعي والثورة: دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسام" للباحث سميح حمودة.

ميناء جبلة
ميناء مدينة جبلة السورية، وهي مسقط رأس الشهيد عز الدين القسام، وجدت ضمن مجموعة سميح حمودة الأرشيفية - أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي

ويضيف الباحث، أن القسام كان من طلبة أهم أعلام المدرسة الإصلاحية الإسلامية التي سعت لبناء جسر فكري يوفّق ما بين مفاهيم الحضارة الغربية والقيم الإسلامية، أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا.

وذلك بالإضافة إلى نشأته في بيت علم، فقد كان والده منشغلاً بالطريقة القادرية الصوفية والشريعة بطبيعة الحال. مما أثر في مسيرة عز الدين ووعيه الديني والسياسي.

فبدأ ثورته الصغرى برفضه لشكل العلاقة بين أهل القرية والنظام الإقطاعي المتحكّم بحياة الفلاحين، حيث رفض بعد عودته من مصر، طلب أبيه منه زيارة الأفندي، قائلاً: "وهل يسلّم الوافد على المقيم يا أبي؟".

وجاء في الدراسة نفسها، أنّ القسام عمل في بداية مسيرته مدرّساً لأطفال القرية، متجاوزاً الحدود التقليدية في حفظ القرآن وتجويده إلى العلوم الأولية والقراءة والكتابة.

هذا المسار الديني الإصلاحي الخارج عن المألوف والبادئ بتعزيز الوعي والعلم سيستمر مع القسام في مناهضة الانتداب الفرنسي في سوريا فيما بعد، ثم في مناهضة الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية إلى فلسطين في حيفا.

حيث تتفق المصادر التاريخية بحسب شهادات مؤرخين وباحثين تحدثوا في الفيلم الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية بعنوان "عز الدين القسام- مفجر الثورة الفلسطينية الكبرى"، أن خطواته الأولى في طريق مناهضة الاستعمار كانت من خلال التعليم أولاً ثم قربه الاجتماعي من فئة الفلاحين والعمال الذين سيكونون لاحقاً أفراداً في مجموعات المقاومين الذي ينظمها.

كما جاء في دراسة "الوعي والثورة"، أنّ القسام كان ينوي الاتجاه مع مجموعة من المقاومين إلى طرابلس الغربية (ليبيا) لنصرة الشعب الليبي عقب دخول الاستعمار الإيطالي لها، وانتقى لذلك 250 متطوعاً وأطلقَ حملة تبرعات لتأمين مصاريفهم، وحصل على موافقة السلطات العثمانية آنذاك واتجهوا معاً نحو لواء إسكندرون لتقلهم الباخرة لكنها لم تأت. وجاء أمر من السلطات بالعودة إلى بلدهم. لكن قبل العودة، بنى القسام بمال التبرعات مدرسةً لتعليم الأميين، وفي هذا دلالة على اهتمامه بالعلم واعتبار دوره محورياً يوازي دور الكفاح المسلح.

المقاوِم بين انتدابَين

في سوريا، بدأ مسار مقاومة الاستعمار الأول بالنسبة للقسام، عقب إقرار الانتداب الفرنسي على سوريا بموجب معاهدة سيفر. حيث شكل مجموعات مسلحة في الساحل السوري لمواجهة القوات الفرنسية. وانضم مع مجموعة من تلاميذه إلى ثورة عمر البيطار في اللاذقية.

وفي ظل إصرار القسام على طريق المقاومة، حاول الفرنسيون استمالته بمنحه فرصة تولي القضاء لكنه رفض. فحكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية بالإعدام. وعلى إثر ذلك اتجه نحو دمشق التي كانت تحت الحكم الفيصلي آنذاك.

تقول خيرية القسام ابنة شقيقه، في دراسة الباحث سميح حمودة، إن الطائرات الفرنسية قصفت القرية التي وُجدت بها العائلة مما اضطرهم جميعاً إلى الرحيل. وبقي القسام في دمشق إلى حين سقوط الحكومة الفيصلية إبان انتصار الفرنسيين في معركة ميسلون في 24 تموز 1920.

ليذهب باتجاه حيفا في فلسطين، الأرض التي ستحتضنه إلى الأبد والتي كانت واقعة تحت الانتداب البريطاني بموجب معاهدة سيفر أيضاً.

تقول الباحثة البريطانية في مجال الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط، بيفرلي ميلتون إدواردز، لموقع "تلفزيون سوريا" إن "الاستجابة الإسلامية السياسية الأولى لما يحدث في فلسطين بدأت من سوريا حيث أتى شاب سوري يدعى عز الدين القسام من عائلة متعلمة ليناضل ضد الانتداب البريطاني هناك".

الثورة السورية
صورة ملونة لقصاصة ورقية كتبت بخط اليد باللغة العربية بعنوان: الثورة السورية، وتضم معلومات عن الشيخ عز الدين القسام، أنه قدم إلى فلسطين بعد إجهاض الثورة في سوريا والحكم عليه بالإعدام - أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي / مجموعة عادل الزواتي

وحول تلك الفترة كتب المؤرخ السوري سامي مبيض في موقع المجلة "في فلسطين علّم القسام في مدرسة البرج ودرّس في جامع الاستقلال وأسس وترأس جمعية شباب المسلمين في فلسطين، وتم تعيينه في محكمة حيفا الشرعية بموافقة مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، الزعيم الفلسطيني الأوحد حينئذ ولم يشعر المفتي بأي حرج من تعيين شيخ سوري في هذا المنصب، رغم اعتراض القسام على اتباع الحسيني الأساليب السياسية مع الإنجليز. ولطالما طالبه بوقفة الرجل الواحد ضدهم، عبر حمل السلاح وعسكرة المجتمع الفلسطيني برمته".

وفي حيفا، بادرَ عز الدين القسام إلى تأسيس"جماعة القساميون" واعتمد في تنظيمه على الفلاحين والعمال، مؤمناً بقدرتهم على التضحية والكفاح. واستقطب كذلك فئة من قطاع الطرق لإيمانه بأنهم يستحقون الرعاية بعد تقويم سلوكهم وأنهم يستطيعون خدمة شعبهم، فألهمهم بقدرتهم على مناهضة الاستعمار والصهيونية.

في طريق إعلان الثورة الفلسطينية

كان القسام دوماً واعظاً دينياً ويعمل على تعبئة الناس وتحذيرهم من خطر الانتداب البريطاني الذي أشرف على عمليات الاستيطان الصهيونية.

ووفق دراسة الباحث سميح حمودة، تنقّل القسام في عام 1934 بين قرى حيفا وجنين وشفا عمرو - صفورية في الجليل الأدنى واستخدم مساجد هذه القرى ومراكز التجمع فيها بهدف الدعوة إلى مقاومة بيع الأراضي ومحاربة السماسرة وزار كذلك عرب الرمل في أوائل عام 1935 وتحدث معهم حول ضرورة مقاومة الشرطة بالقوة في مسائل بيع الأراضي المتنازع عليها والتي يحاول اليهود الاستيلاء عليها وطردهم منها. وأتت زيارته هذه في إطار التهيئة النفسية للثورة.

ومن منبر مسجد الاستقلال في حيفا، ولَّد روح الثورة، ومنه أعلن الجهاد والنضال المسلح ضد السلطات البريطانية في فلسطين في نهاية تشرين الأول عام 1935، واختفى بعدها ولم يشاهده أحد في حيفا، فقد بدأت السلطات البريطانية عمليات البحث عنه آنذاك، ليعرفوا فيما بعد أنه اتجه إلى قرية يعبد في جنين.

خريطة
خريطة بعنوان "خط سير عز الدين القسام رقم (2)"، تبين تنقلات الشهيد عز الدين القسام من مدينة حيفا إلى يعبد في جنين - أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي / مجموعة سميح حمودة

أما إعلان الثورة، فجاء بعد سنوات من العمل السري، بسبب تزايد هجرة اليهود نحو الأراضي الفلسطينية والتوجه نحو تغيير ديموغرافي خطير وكذلك اكتشاف تهريب الأسلحة لهم.

رحيل قائد الثورة في المعركة

قتلت السلطات البريطانية الشيخ عز الدين القسام مع أربعة من المقاومين، يوم 19 تشرين الثاني، خلال معركة "أحراش يعبد"، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان الثورة.

وقامت قوات الشرطة البريطانية بدورها بإشراك الشرطة العربية في المعركة، لكن القسام حذّر من إطلاق النار تجاه أي عربي آنذاك وقال جملته التاريخية: "إننا لن نستسلم، إن هذا جهاد في سبيل الله والوطن". والتفت إلى المقاومين قائلاً: "موتوا شهداء".

كانت هذه رسالة عز الدين القسام الأخيرة، التقطها الفلسطينيون سريعاً وأعلنوا الإضراب الشامل في مدينة حيفا يوم 21 تشرين الثاني عام 1935.

خرج في الجنازة آلاف المشيعين، وحدث خلالها اشتباكات مع الشرطة البريطانية، فأنصار القسام يفوق عددهم عدد المقاتلين معه.

 ولذلك كان مقتله، بحسب إجماع المصادر التاريخية والصحفية، أحد أهم أسباب قيام الثورة الفلسطينية الكبرى والتي استمرت لمدة ثلاثة أعوام. وتفردت حينئذ "جماعة القساميون" من بين التجمعات والأحزاب السياسية الفلسطينية الأخرى قبل انطلاق الثورة الكبرى بالتجربة العسكرية المنظمة، حيث كانوا أفرادها مدربين على حمل السلاح.

وبرز العديد منهم كقادة ومسؤولين ورؤساء فصائل في الثورة (1936 - 1939)، بحسب ما ذكرته المؤرخة والأكاديمية بيان نويهض الحوت.

القسام ما بين الدين والقومية العربية.. رمزية عابرة للأيديولوجيات

كانت محاولة القسام الأولى لمقاومة الاستعمار الغربي للبلاد العربية حين حاول الوصول إلى ليبيا عقب بدء الإيطاليين باستعمارها، حيث انطلق من "سوريا الكبرى"وكان أحد أبنائها باتجاه ليبيا. 

ثم أخبروه في معاهدة سيفر أن سوريا التي نعرفها اليوم هي حدود وطنه والمكان الذي ينتمي إليه والذي سيكون خاضعًا للسلطات الفرنسية، فقاوم الانتداب الفرنسي فيها. ثم استكمل رحلة مقاومته في محطته الأخيرة في فلسطين.
لم يكن التقسيم الذي شهدته المنطقة يعني له شيئًا؛ فاتجه للمقاومة، سواء كانت توعوية أو مسلحة، في سوريا وفلسطين.

يقول الكاتب مارك ساناغان في كتابه "برق بدّد الغيوم: عزّ الدين القسّام وتشكيل الشرق الأوسط الحديث"، بحسب ما ترجمته جريدة "الأخبار" بالتنسيق مع الكاتب: "إنّه تمّت محاولة تهميش الهوية الشخصية للقسّام، حيث سادت خلال العقود الثلاثة الماضية تجاذبات بين من أحال نشاطه إلى نزعته القومية، وبين ما كان واضحاً أنها قوته الدافعة، ألا وهي الإسلام. فهل كان القسّام وطنياً فلسطينياً، أم إسلامياً، أم قومياً عربياً؟ الأكثر ترجيحاً أن كل هذه التصنيفات لا تكفي حين إسقاطها على شخصية مخضرمة كالقسّام".

يعبد
أحراش بلدة يعبد، قضاء جنين، حيث رحل الشيخ عز الدين القسام، التقطت في 6 شباط 1987 - أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي / مجموعة سميح حمودة

ويضيف في موضع آخر: "أنه تمّت عملية إعادة اكتشاف واستحضار القسّام في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، بعد نكسة حزيران 1967. وأنّ رمزية القسّام ظلّت محترمة من قبل الفلسطينيين على طول الطيف السياسي. قد يبدو اليوم ظهور القسّام على ملصقات حركات يسارية غريباً (يتحدّث الكاتب هنا عن ملصق لـ«الجبهة الديموقراطية» يخلّد الذكرى الأربعين لاستشهاد القسّام)، وذلك لأن هذه الحركات كانت هي الشائعة خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، ورغم صعود حركات مقاومة اليوم بأيديولوجيات جديدة، إلا أن رمزية القسّام استمرت. وتدل هذه الاستمرارية، بين التيارات اليسارية والإسلامية، على متانته كرمز، رغم التغير في الأيديولوجيات السياسية على مستوى العالم".

من جهتها، تشير بيفرلي ميلتون إدواردز، الباحثة في مجال الإسلام السياسي بمنطقة الشرق الأوسط، لموقع "تلفزيون سوريا": "إذا نظرنا إلى حياة القسام، فهو كان رجل دين أتى من عائلة متعلمة، وذهب إلى الأزهر، وقابل رموز المدرسة الإصلاحية الإسلامية، وتأثر بهم.

فأدرك هذا الشاب أن وجود الاحتلال في المنطقة أمرٌ لا يتوافق مع قيمه الدينية. وقاده إيمانه للتفكير في الطرق المناسبة لاستخدام ما يؤمن به لتحقيق التغيير السياسي. لذلك، هو لم يكن قومياً ولم يتبع أي حزب قومي، بحسب الفهم التاريخي للحركات القومية، وكان منطلقه دينياً بحتاً نابعاً من مفهوم الجهاد".

أثر القيم الدينية في عقلية القسام.. من الاعتناق إلى الثورة

استند القسام في نضاله إلى قيمه الدينية التي تعزز مبدأ البحث عن العدالة وحرية الإنسان والأرض. ورفع تلك القيم من موضع الإيمان الذاتي إلى موضع الاشتباك الحقيقي مع قضايا الاستقلال والتحرر من سيطرة الاستعمار على المنطقة. 

ففي ذهنه، لم تكن القيم الدينية مجرد شعائر أو ممارسات فردية، بل كانت موجهة نحو تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي، وهو ما دفعه إلى تبني النهج الثوري.

وحين تحولت القيم الدينية إلى ثورة، تجلت النزعة الثورية في الدين، وهي نزعة تأتي من مفهوم "الجهاد" في الإسلام، الذي يسعى في أصله إلى رفع الظلم ونصرة المظلوم وفقاً لتعبيرات الأدبيات الإسلامية. 

القيم الدينية في هذا السياق يمكن أن تُعتبر وسيلة للتحرر الروحي والسياسي والاجتماعي. إلا أنه إذا فُسرت وفقاً لسياق سياسي واجتماعي مختلف، قد تتحول إلى أداة تُستخدم لقمع الوعي وتحجيم التغيير.

من هنا، نجد من المبرر طرح مفهوم جديد يسمى "الدين الثوري، الذي يظهِر كيف يمكن للقيم الدينية أن تكون مصدراً للثورة في مواجهة الظلم، وفي الوقت نفسه أن تكون وسيلة لتثبيت الهيمنة إذا تم تفسيرها بصورة مختلفة عن طبيعتها التي تحمل نزعة ثورية في أساسها.

قبر عز الدين القسام
قبر عز الدين القسام في مقبرة نيشير‏ بمدينة حيفا

هذا المفهوم لم يكن بعيداً عن فكر علي الوردي، الذي طرحه في كتابه مهزلة العقل البشري عندما قال: "يقول نيتشه: الدين ثورة العبيد، ويقول ماركس: الدين أفيون الشعوب، وفي الحقيقة إن الدين ثورة وأفيون في آن واحد، فهو عند المترفين أفيون، وعند الأنبياء ثورة".

هذه الكلمات تفتح لنا باباً لفهم العلاقة المتشابكة بين الدين والسياسة. فقد شرح الدكتور علي المرهج، رئيس قسم الفلسفة في الجامعة المستنصرية ببغداد، مفهوم الوردي في صحيفة "العالم الجديد" قائلاً: "الدين عند الوردي يقوم بوظيفة اجتماعية كبرى حينما يكافح من أجل العدالة وتحقيق المساواة، وهو في الوقت نفسه يحقق نوعاً من أنواع التوازن الاجتماعي، لا سيما حينما يفتح الباب أمام الصراع بين الفئات المغلوبة والفئات الغالبة".

بهذا المعنى، يمكن القول إن الدين، حين تم فهمه وممارسته بشكل صحيح، كان مصدراً حقيقياً للثورة. لقد استوعب القسام تلك الوظيفة الاجتماعية الكبرى التي يتحدث عنها الوردي، حيث سعى من خلال قيمه الدينية إلى تحقيق العدالة والمساواة وتحرير الأرض والشعب من قيود الاستعمار.

ثورة لم تنتهِ

تستمر اليوم آثار ثورة عز الدين القسام التي اجتمع فيها ثقل العلم والسلاح. لم تكن هذه الثورة مجرد ردة فعل على الاستعمار البريطاني، بل أسست نهجًا وعقلية مقاومة عميقة ساهمت في تراكم الوعي الوطني الفلسطيني على مدى سنوات طويلة، وبنت نموذجًا دينيًا معتدلًا وثوريًا في آن واحد، يسعى لتحقيق التحرير والاستقلال.

إلى يومنا هذا، تواصل ثورة القسام تأثيرها من خلال تجربة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي في عموم فلسطين، وكذلك من خلال الكتائب التي حملت اسمه وواصلت مسيرته في مقاومة الاحتلال.

فما بين معركة "أحراش يعبد" وتأسيس "كتائب عز الدين القسام" عام 1987، كانت الفكرة واحدة، وثورة القسام مستمرة لم تنتهِ. 

وما بين قتل القسام، وولادة الشيخ أحمد ياسين بعد أشهر قليلة، ومجيء ياسر عرفات إلى القدس وبداية تشكل وعيه الوطني، كانت أيضًا الثورة مستمرة لم تنتهِ.