من الآهات الكلثومية إلى الآهات الإسلامية

2019.11.14 | 16:21 دمشق

7679326-1547354579.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعريفات:

الآهات الكلثومية هي الأغنية التي كتبها الشاعر بيرم التونسي (1893 ـــ 1961)، ولحّنها الشيخ زكريا أحمد (1896 ــ 1961)، وغنّتها أم كلثوم سنة 1943.

تُستهل الأغنية بكلمة آه، ثم تتكرر هذه الآه في كل شطر من أشطرها مرّات ومرّات ومرّات.

أما (الآهات الإسلامية) فهي تلك المقطوعات الموسيقية بدون موسيقى والتي نراها في موقع اليوتيوب تحت عناوين متعددة: (آهات إسلامية حزينة. آهات إسلامية حزينة جداً. آهات إسلامية حزينة مبكية. آهات إسلامية مؤثرة. آهات إسلامية فرحة. آهات إسلامية روووعة. آهات إسلامية لن تملّ سماعها. آهات إسلامية رائعة جداً. آهات إسلامية للمونتاج. آهات إسلامية بدون حقوق نشر).

اختُرعت هذه الآهات في تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً في استديوهات الخليج العربي لتصاحب الأفلام أو البرامج الدينية، بديلاً عن الموسيقى التصويرية، فكان يردد شخص ما حسن الصوت كلمة الآه ويكرِّرها بنغمة حزينة متفجّعة متماوتة، وكان يعمد إلى التنويع أحياناً فيقول: ها بدلاً من آه، وقد يُدخل في تأوِّهه حرف الميم، فيُمطّه ويكرِّره فينتج نغمة مكتومة: (ممممممممممم)، (مممممممممم)! وفي أحيان قليلة يمزج الآه بـ اللا لا لا لا المنغّمة في تطويرٍ وتحديثٍ للآهات الإسلامية، كما في المقطع المنشور على اليوتيوب بعنوان: (آهات إسلامية. جديد عمر داودي ألبوم تانفوست) مما يشير إلى انتقال إنتاج (الآهات الإسلامية) إلى الجزائر أيضاً!

وخلال فترة وجيزة غدا استخدام هذه الآهات تقليداً فرض نفسه على المحتوى الإسلامي المرئي والمسموع: شارة البداية والنهاية، الفواصل بين الفقرات، أو الخلفية الثابتة من أول المحتوى إلى منتهاه.

نقرأ في منتدىً من المنتديات الإسلامية الطلب الآتي:

ــ أنا محتاج مجموعة حلوة من الآهات الإسلامية؟

ويأتيه الجواب من أحد المشاركين:

ــ إن شاء الله سوف أرفع لك أحلى آهات إسلامية أخي الكريم.

إنها منتج إسلامي معاصر مطلوب لصناعة (الشريط الإسلامي) الذي امتدحه العلامة ابن باز وبيّن فوائده وعوائده على الدعوة الإسلامية المرجوة والمبتغاة.

نشأت هذه الآهات بوصفها إحدى مظاهر الاستجابة الفنية للصحوة الإسلامية المباركة التي تلاقح فيها اتجاهان: الحركية الإسلامية والسلفية، فتولَّدت منهما هذه (الآهات)، في تحايل فقهي طريف، يُحرِّم الموسيقى ويشتاق إليها، على مبدأ: "نفسي فيه وتفو عليه"، ومن أجل ذلك اختُرعت هذه الآهات بصوت بشري يترنّم بها، ثم يُعالَج من خلال برامج الصوت الإلكترونية، فإذا به موسيقى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى! ولكنها موسيقى معدّلة وراثياً، على الطريقة الإسلامية، ولذلك هي أنغام وموسيقى حلال، أما أنغام الآخرين وموسيقاهم فحرام. علماً أنّ أنغام الآخرين تدخل في نفس البرامج الصوتية الإلكترونية، وتخرج منها بنفس الآلية!

إنها باختصار أنموذج حيٌّ لمصطلح البديل الإسلامي، البديل في أحد تجلياته الواقعية. نسمع هذه الآهات الإسلامية، على سبيل المثال لا الحصر، شارةَ بداية في برامج الداعية السلفي محمد المنجد الذي يحرّم الموسيقى تحريماً قطعياً، ونقرأ في بداية بعض المقاطع الدعوية الجملة التالية: "لا يوجد موسيقى فقط مؤثرات صوتية". وكأنهم يقولون: صحيح أنّك تسمع موسيقى، ولكنها ليست بموسيقى. لأننا لا نسميها موسيقى، بل نسميها مؤثرات صوتية، لذلك هي ليست بموسيقى. فالحلال والحرام مرتبط بتسمياتنا. نغيّر التسمية فتصبح حلالاً، ونقلبها فتغدو حراماً كما تشاء لنا الهواية والغواية. تماماً مثلما نسمي الفائدة البنكية ربا فنجعلها حراماً، ثم نسمي الفائدة نفسها في البنك الإسلامي ربحاً فنصيّرها حلالاً، علماً أن تحديد هذا الربح يخضع لمؤشرات الفائدة العالمية، ويستهدي بها حذو القذة بالقذة.

 

الفرق بين الآهات الكلثومية والآهات الإسلامية:

يروى أنّ بعض مستشاري الست حذّروها من غناء (الآهات) حتى لا تظهر في غنائها كأنها نائحة، لكنها بحدسها الفني العظيم، وبإيمانها بالعبقرية اللحنية للشيخ زكريا أحمد انطلقت في غنائها تتنقل بين أربعة مقامات: الهزام والبياتي والنهاوند والراست، في أداء جبّار يجمع ما بين التعبير والتطريب، وفي كل آهٍ من الآهات معنى مختلف: آهٍ متعبة، وآهٍ مستجدية، وآهٍ مستكينة، وآهٍ واهنة، وآهٍ محترقة، وآهٍ ملوَّعة. إنها آهات ذات مغزى تتدرّج وتتلون، وتتداخل، وتمور، وتتبرعم وتتفتح وتزهر في كل ترديد وترنّم وتطريب! آهات كأنّها صور المشكال التي لا يشبه بعضها بعضاً لدى كل تحريك جديد.

أما الآهات الإسلامية فهي آهات بدون فتح ولا قفل، ولا استنتاج نهائي، وبدون أبعاد نغمية متصاعدة مترقّية، وبدون دراما، بدون قصة خاصة بها، بدون انفعال صادق، وإنما تكرار آلي رتيب سُلبت منه الروح والخلجات والمشاعر.

(آهات إسلامية) عبيطة يسميها منتجوها بالآهات الحزينة تارة، وبالآهات المفرحة تارة أخرى، ولا أدري حقاً كيف يصفون كلمة وُضعت للتنهّد والحزن والأسى والشجا بأنّها مفرحة؟!

(آهات إسلامية) تفتقد الهارموني، وربما خلطت الماجور بالمينور، والدييز بالـبيمول، لأنّ أولئك المتأوِّهين المتديّنين يريدون أن ينتجوا موسيقى أو بالأحرى بديلاً عن الموسيقى من دون أن يدرسوا الموسيقى، ومن دون أن يعرفوا أساسياتها ومبادئها! يا لهول الهول! ويا لفجيعة الفجيعة!

ومن أجل ذلك يمكننا أن نقول بكل اطمئنان: إنّ الفرق بين آهات أم كلثوم والآهات الإسلامية هو الفرق ما بين التنوع الغني والتماثل الباهت، والفرق ما بين التحليق والإسفاف. والفرق ما بين العلم والجهل، والفرق ما بين النظام والعشوائية. الفرق ما بين العريق الأصيل ذي السلسلة الممتدة عبر الأساطين (1) والدعيِّ والهجين. الفرق ما بين التصاعد المتواتر الذي يغتني درجة فدرجة والتكرار الساذج الذي يراوح بالمكان. الفرق ما بين الفارابي وابن سينا وجلال الدين الرومي والنابلسي وعبده الحامولي ومحمد رفعت ومصطفى إسماعيل وأم كلثوم، وبين المدخلي وابن باز وابن عثيمين والمنجّد والعفاسي. الفرق بين العالَم بمجراته وكواكبه وأفلاكه وبين سكة ضيقة في حارة صغيرة بقرية نائية.

 

اختزال شائن:

ما الذي دهى هؤلاء المتأوّهين حتى يختزلوا ذلك التقليد الموسيقي الإسلامي الأغنى بآهات ساذجة بدائية؟ ذلك التقليد المنبسط على طول المنطقة العربية، والمنفتح على بلاد فارس الممتدة إلى الهند، وعلى المغرب العربي الممتد إلى إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا، وعلى تركيا الممتدة لأسيا الوسطى، وما الذي اعتراهم حتى استغلق على إدراكهم وفهمهم أنّ قراءة القرآن الكريم بأصوات كبار القرّاء الكلاسيكيين لا تتم إلا ببناء لحني محكم متكامل، وملاءمة في النغمة الموسيقية لمعنى الآية!؟

يقول جوته: "إنّ فنّ العمران عبارة عن موسيقى متجمدة، والتناسق في فن العمران أوزان موسيقية صامتة". ويبدو أن هؤلاء المتأوّهين لم يفهموا معنى العمران سواء كما يستعمله غوتة، أو كما يستعمله ابن خلدون.

ويقول أفلاطون: "لقد أخبرني دامون ــ وأعتقد تماماً بما يقول ــ وهو أنّه عندما تتغير أساليب الموسيقى تتغير معها قوانين الدولة الأساسية".

وأقول: يا لبؤس قوانين هذه الدولة إذا كانت أساليب الموسيقى فيها هي أساليب الآهات الإسلامية.

 

هوامش:

(1) أقصد بالعريق الأصيل وسلسلته ههنا: كاتب كلمات الأغنية الشاعر بيرم التونسي المتشبّع بتراث المقريزي والإمام الغزالي فضلاً عن عبد الله النديم والشاعرين الشيخ النجار والشيخ القوصي، وملحنها زكريا أحمد سليل مدرسة الشيخ درويش الحريري، والشيخ الإمام علي محمود، والموسيقي البارع محمد عبد الرحيم الشهير بالشيخ المسلوب، والملحن المبدع إبراهيم محمد حسين الوكيل الشهير بإبراهيم القباني، ومؤديها سيدة الغناء العربي أم كلثوم التي جمعت في إهابها خلاصة التجربة والقواعد الفنية الطربية العربية المقطّرة المصفّاة على مدار القرون السالفة.

كلمات مفتاحية