icon
التغطية الحية

من أميركا إلى سوريا: الرحلة الطويلة التي قطعتها نظرية المؤامرة

2022.08.08 | 17:09 دمشق

مؤيدو نظرية المؤامرة: (من اليسار إلى اليمين): أليكس جونز، فانيسا بيلي، جورج غالوي
مؤيدو نظرية المؤامرة: (من اليسار إلى اليمين): أليكس جونز، فانيسا بيلي، جورج غالوي
الباب | برايان ويتاكر - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

قبل حلول عيد الميلاد في عام 2012 بفترة قصيرة، وقعت حادثة إطلاق نار في مدرسة ساندي هوك الابتدائية بالولايات المتحدة الأميركية، راح ضحيتها 20 طفلاً وستة مدرسين. وبعد مرور ثمانية أشهر أصابت قنبلة حارقة مدرسة بمحافظة حلب السورية، فتسبب بمقتل ما لا يقل عن عشرة طلاب كانوا هناك، كما توفي ستة آخرون فيما بعد، نظراً لأن الحادثة خلفت الكثير من الجرحى من ذوي الإصابات الخطيرة.

بالرغم من عدم وجود أي رابط بين الحادثين اللذين وقع كلٌ منهما على بعد آلاف الكيلومترات من الأخرى، إلا أن هذين الهجومين يشتركان بشيء واحد، ألا وهو موضوع نظرية المؤامرة، بعدما ظهر من زعموا بأن الحادثتين ملفقتين ومجرد تمثيل تم بمساعدة "ممثلين متخصصين بتمثيل وضع الأزمات" على حد تعبيرهم.

تسببت حادثة ساندي هوك في الولايات المتحدة بتجدد الدعوات المطالبة بضبط أكبر للسلاح، فردت شخصيات من اليمين المتطرف التي هالها ما يمكن أن يحدث بإنكار وقوع الهجوم الحقيقي، وذلك عندما زعمت تلك الشخصيات بأن ما حدث كان مجرد "تمثيل" قام به ممثلون مأجورون بهدف خلق مبرر لتشديد الخناق على قوانين حمل السلاح.

لم يكن هنالك أي سبب وجيه لتصديق مزاعمهم، إلا أن عواقب ما زعموه تبدت بشكل مرعب على أقارب الضحايا في حادثة ساندي هوك، إذ صار من واجب الأهالي الذين بالكاد صدقوا أن أولادهم قد فارقوا الحياة تواً أن يتعاملوا مع الإساءات والمضايقات التي أطلقها من يؤمنون بنظرية المؤامرة الذين وصموهم بالكذابين.

كان من أشهر الشخصيات التي شجعت على ظهور مثل هذا الزعم المثير للقرف أليكس جونز، وهو شخصية مشهورة من اليمين المتطرف الأميركي، يقوم بإدارة موقع إخباري إلكتروني ينشر أخباراً كاذبة، ويعرف باسم إنفوورز. إلا أن مجموعة تضم أهالي الضحايا في حادثة ساندي هوك قامت برفع قضية قدح وذم ضده في نهاية المطاف، وأصبحت هيئة المحلفين اليوم في طور إصدار الحكم بشأن التعويض عن الأضرار، ولكن حتى الآن، صدر أمر يطالب جونز بدفع مبلغ 50 مليون دولار تقريباً لأبوين من هؤلاء الأهالي فيما لم يتم البت بشأن التعويض الذي يجب عليه أن يدفعه للبقية.

"ممثلون مأجورون"

ساعدت مزاعم جونز القائمة على إنكار جرائم القتل في حادثة ساندي هوك في الترويج لنوع جديد نسبياً من نظريات المؤامرة يعرف باسم: نظرية: "ممثلو الأزمات"

وتشتمل هذه النظرية، كغيرها من نظريات المؤامرة، على شيء من الصدق حتى تبدو مقنعة إلى حد ما، وذلك لأن أقسام الطوارئ تستعين أحياناً بممثلين لإجراء تدريبات على ما يمكن أن يحدث عند وقوع كارثة ما مثلاً، أو من أجل تقديم فيديوهات تشتمل على تدريبات. لذا، وقبل وقوع حادثة ساندي هوك بأسابيع قليلة، نشرت مؤسسة مقرها في كولورادو وتعرف باسم فيجين بوكس نشرة صحفية أوردت فيها بأن لديها "ممثلين متخصصين بالتمثيل وقت الأزمات" أي أنها وفرتهم من أجل الهدف التالي على وجه الخصوص: "يتوفر لدينا في عموم أنحاء البلد مجموعة جديدة من الممثلين من أجل التدريب الفعلي على إطلاق النار، مع تدريبات شاملة لإطلاق النار ضمن مجمعات تجارية، هذا ما أعلنته فيجين بوكس وهي شركة فنية رائدة موجودة في دينفر لديها استديوهات متخصصة... وقد تدرب ممثلو الأزمات لدى شركة فيجين بوكس على السلوك الإجرامي وعلى تمثيل سلوك الضحية، وهذا ما يجعل حوادث الإصابات الجماعية التي يتم تمثيلها في الأماكن العامة تشبه الواقع كثيراً... ويتمتع هؤلاء الممثلون بخبرة واسعة في التمثيل، بدءاً من تمثيل مسرحيات شكسبير، وصولاً إلى تمثيل مسرحيات أميركية معاصرة، وهذا ما ساعدهم على "البقاء ضمن حدود الشخصيات" أثناء التدريب، مع ارتجال مشاهد تعبر عن كرب شديد أثناء التزامهم بسيناريوهات التدريب الرسمية بكل دقة... ثم إن الممثلين يتمرنون بشكل منتظم على السيناريوهات التي تشتمل على منظومة لإدارة الحوادث، والتواصل عند الأزمات، وظهروا في أفلام تدريبية تفاعلية أنتجت بوجود مجسمات ثنائية وثلاثية الأبعاد".

إذن كان ذلك أول استخدام موثق لمصطلح: "ممثلو الأزمات" حتى الآن.

ثم شاهد أحد عشاق الأسلحة هذه النشرة الصحفية، واسمه ترافيس ج. وولكر، وفي منشور على إحدى المدونات ظهر بعد مرور بضعة أيام على حادثة ساندي هوك، خمن ذلك الشخص بأن وزارة الأمن القومي الأميركية والوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ قد مثلتا تلك الحادثة عبر الاستعانة بممثلين ظهر بعضهم كناجين وآخرون كشهود، فأنشأ يكتب: "لدى هاتين الوكالتين ما يكفي وزيادة من الموارد والخبرات والسلطات لتنفذ تلك الحادثة".

ومنذ ذلك الحين، خرجت نظرية "ممثلو الأزمات" لتفسر أسباب وقوع العديد من الهجمات الأخرى في الولايات المتحدة، والتي شملت تفجير ماراتون بوسطن (2012)، وإطلاق النار في باركلاند (2018). ومن الأمور التي جعلت هذه النظرية تعجب البعض هي أنها يمكن أن تتحور بكل سهولة حتى تنكر الوقائع في العديد من الحالات، إذ بعد مرور بضعة أشهر على ظهور تلك النظرية في الولايات المتحدة، أخذ البعض يستعيدونها من جديد فيما يتصل بالنزاع القائم بسوريا، إلا أن من روجوا لها هذه المرة كانوا معادين للإمبريالية، ومدافعين عن نظام الأسد، وبعد ذلك أصبحوا مؤيدين لقناة روسيا اليوم التي تعمل على نشر الدعاية الروسية والترويج لها.

هجوم حارق

في آب 2013، كان طاقم محطة بي بي سي يصور في مشفى يقع في الشمال السوري (الخارج عن سيطرة النظام) عندما بدأت سيارات الإسعاف تصل إلى المشفى حاملة معها يافعين وصغاراً يعانون من حروق شديدة، ليكتشفوا فيما بعد بأن قنبلة حارقة ضربت مدرستهم، إذ تظهر المشاهد التي صورت في المشفى أطفالاً وقد أصيبوا بتشوهات بسبب حروق مريعة، حيث غطت آثار الحروق أجساد البعض منهم، فيما تناثر من أجساد الآخرين قطع من جلدهم بسبب الحرق الذي كان شديداً لدرجة دفعت الصحفي إيان بانيل لوصف رائحة اللحم المحروق بالنفاذة.

عرض هذا الفيلم الذي صوره فريق بي بي سي في المشفى ضمن نشرتين إخباريتين للقناة نفسها، ثم ظهر في برنامج بانوراما الذي يعلق على الحدث ومدته 50 دقيقة (يمكن مشاهدة الحلقة عبر الضغط هنا).

انزعج أحدهم من ذلك الفيديو، واسمه روبرت ستيوارت، ولكن ليس بسبب العواقب الكارثية للهجوم، بل بسبب عدم تصديقه لما جرى، حيث أعلن بأن الأطفال كانوا يتظاهرون بأنهم مصابون، وبأن البي بي سي لفقت الحادثة بأكملها، ثم أرسل شكوى كتب فيها: "صدمت وذهلت وأنا أرى بي بي سي وهي تعرض مشاهد تمثيلية ملفقة بشكل واضح وتقدمها على أنها حقيقية".

وكما هي الحال مع المثال السابق حول ساندي هوك، كانت المزاعم الحقيرة تدور حول الاستهزاء بمعاناة الضحايا وعائلاتهم، ثم إن عملية تقليد شكل الحروق ومحاكاتها تحتاج لوجود فريق يضم فنانين متخصصين بالمكياج من هوليوود، وبالنظر إلى حجم وشدة الجرائم التي ترتكب في سوريا، لم يكن هنالك أي سبب واضح يمكن أن يدفع قناة مثل بي بي سي لتلفيق تلك الحادثة.

إلى جانب الخوض في مراسلات طويلة مع بي بي سي، أطلق ستيوارت حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بقيت مستمرة لأكثر من خمس سنوات بعد تلك الحادثة، وكان من أهم مؤيديه كريغ موراي الذي سبق وأن شغل منصب سفير بريطانيا إلى أوزبكستان، لكنه تحول للتدوين والنشاط السياسي بعدما تحرر من أوهام العمل الدبلوماسي. بيد أن مواري عارض استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية، لكنه اتهم فيما بعد الشرطة البريطانية زوراً وبهتاناً بتلفيق أدلة مصورة حول تسميم روسيا لسكريبال في عام 2018.

 

"تمثيلية الحرب"

من بين من أيدوا ستيوارت كانت فانيسا بيلي التي وصفتها قناة روسيا اليوم بأنها: "صحفية استقصائية مستقلة"، بيد أن تقاريرها المضللة حول سوريا كانت سبب شهرتها على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ بعد صورة جمعتها بالأسد في عام 2016 تباهت عبر منشور لها على تويتر بأن تلك اللحظة كانت من أكثر اللحظات التي شعرت فيها بالفخر والاعتزاز في حياتها.

لطالما أثنت بيلي على ما بذله ستيوارت من جهد، وذلك لأنه برأيها "فضح بحنكة وبطريقة جنائية" التقرير الذي نشرته بي بي سي، وأظهر بأنه: "لم يكن هنالك شيء سوى تمثيلية الحرب" حسبما كتبت.

كانت المزاعم التي تدور حول وجود "ممثلي أزمات" في الولايات المتحدة تقوم على مؤامرة مفترضة تسعى لفرض قيود على حمل السلاح، إلا أن ذلك لا يمكن أن يفسر السبب الذي قد يدفع بي بي سي للاستعانة بممثلي الأزمات في سوريا، وهنا خرجت بيلي بتفسير خاص بها، وهو أن بي بي سي لفقت مشاهد المشفى من أجل: "تصعيد التدخل العسكري البريطاني في سوريا".

جدل في البرلمان

كان البرلمان البريطاني يناقش في ذلك الحين فكرة شن غارات جوية عقابية بعد الهجوم الكيماوي الذي قتل آلاف المدنيين في الغوطة بالقرب من دمشق، خاصة بعدما حامت أغلب الظنون حول تنفيذ نظام الأسد لذلك الهجوم. ثم وصل فيلم يحتوي على مشاهد المشفى في سوريا إلى لندن في اليوم الذي ناقش فيه البرلمان البريطاني فكرة التدخل العسكري، إذ تم بث تقرير أولي حول تلك الإصابات في ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم.

وهذا ما دفع مؤيدي نظرية المؤامرة للزعم بأن البي بي سي هي من حدد توقيت بث التقرير ليتزامن مع النقاش في البرلمان بهدف التأثير عليه ليرجح فكرة التدخل العسكري. إلا أننا إن دققنا بالأمر فسنكتشف بأنه مستحيل، وذلك لأن التقرير بث للمرة الأولى خلال نشرة أخبار العاشرة ليلاً، أي بعد انتهاء جلسة البرلمان لمناقشة هذا الموضوع، وفي خضم عملية تصويت الأعضاء على مشروع القانون، أي أنهم لم يكن بوسعهم مشاهدة التلفاز أثناء قيامهم بالتصويت. وبالنهاية، لم يقر النواب أي تدخل عسكري وذلك لأن البرلمان رفض هذا المقترح.

وفي نهاية الأمر، تبنت روسيا هي أيضاً نظرية المؤامرة، إذ في برنامج يعرض على روسيا اليوم يعرف باسم: "الباحث عن الحقيقة" زعمت تلك القناة بأن ما بثته محطة بي بي سي من مشاهد في المشفى كان السبب وراء: "إطلاق حملة استقصائية عامة وواسعة" (أي من قبل ستيوارت)، وقد توصلت تلك الحملة الاستقصائية إلى "بعض النتائج المقلقة للغاية"، ثم نقلت عن سيتوارت قوله: "إن هذا من أوله حتى آخره محض تزوير وتلفيق لمشهد يعبر عن جريمة يظهر فيها مراسل بي بي سي إيان بانيل وهو يقف وسط مشهد يضم أردأ الممثلين، وهذا بحد ذاته يفوق كل الحدود".

استضاف هذا البرنامج وبشكل مقتضب جورج غالوي (الذي كان نائباً في البرلمان البريطاني وقتها) الذي خرج على مشاهدي هذا البرنامج ليقول إن بي بي سي فقدت مصداقيتها وأمانتها الصحفية، وذلك عندما قال: "يجب إجراء تحقيق شامل لمعرفة السبب الذي دفع بي بي سي للاستعانة بهذه المادة التي لم تشتمل على خطأ فحسب، بل إنها ملفقة أيضاً، والغرض من هذا التلفيق هو دفع بلدنا باتجاه الحرب".

المصدر: الباب