من أفغانستان إلى ليبيا.. واحتراف القتال شرقاً وغرباً

2020.01.11 | 17:20 دمشق

alhrb-alahlyt-fy-lbnan.jpg
+A
حجم الخط
-A

في منتصف الثمانينات، كانت الميليشيات اللبنانية قد اكتسبت خبرات قتالية في حروب المدن كما في المعارك الجبلية. وكانت الأحزاب اليسارية و"الوطنية" و"القومية" و"الإسلامية" تمتلك فرقاً قتالية وترسانة أسلحة وهيكلية عسكرية، ممولة من دول عربية وإقليمية، وحتى من منظومة الدول الاشتراكية (قبل سقوط الاتحاد السوفياتي)، ما يتيح لها خوض الحرب زمناً طويلاً.

وكان لبنان منذ منتصف السبعينات، على الأقل، مركزاً ومحطة للعديد من المنظمات المسلحة التي تدعمها منظمة التحرير الفلسطينية وتدربها وتسلحها، من الجيش الأحمر الياباني إلى الجيش السري الأرمني، إلى الألوية الحمراء الإيطالية إلى منظمة بادر ماينهوف الألمانية، والانفصاليين الباسك، والجيش الجمهوري الإيرلندي، ومقاتلي جبهة البوليساريو والمقاتلين الأريتريين والصوماليين..والكثير غيرهم.

كما من المعروف أن النواة العسكرية الأولى للمعارضة الإيرانية ضد حكم الشاه نشأت في لبنان، ولعبت دوراً حاسماً في الثورة الإيرانية، وفي تشكيل الميليشيات الثورية التي ستصير فيما بعد أساس "الحرس الثوري" الإيراني.

وفيما بعد، كانت أول مساهمة قتالية خارجية معروفة للمقاتلين

في الحرب العراقية الإيرانية، ساهمت بعض الميليشيات اللبنانية فيها على الجبهتين، وفق الولاء إما للخمينية وإما لصدام حسين

اللبنانيين والفلسطينيين هي في نيكاراغوا لمساندة الثوار الساندينيين، حين أرسلت منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ثلة من المقاتلين الخبراء لمساعدة الثورة في ذاك البلد الأميركي اللاتيني (1981).

في الحرب العراقية الإيرانية، ساهمت بعض الميليشيات اللبنانية فيها على الجبهتين، وفق الولاء إما للخمينية وإما لصدام حسين. لكن المساهمة الأكبر هي للمقاتلين الشيعة من حركة أمل إلى جانب الجيش الإيراني، بقيادة مصطفى شمران وزير الدفاع لحكومة مهدي بازركان، وقائد الحرس الثوري الإيراني، وهو أحد مؤسسي الحركة اللبنانية إلى جانب الإمام موسى الصدر. وقد قتل أثناء الحرب عام 1981.

عدا ذلك، ومن التجربة اللبنانية الفلسطينية، نشأت المجموعات والخلايا والأجهزة والتنظيمات السرية، التي تلعب أدواراً تخريبية و"إرهابية" ومخابراتية بالغة التأثير والخطورة في مجرى الصراعات والحروب العلنية والسرية بين الدول: خطف الطائرات، خطف الرهائن، تفجير السيارات المفخخة، الاغتيالات.. إلخ.

وفي هذا المسار، انتقلت الميليشيات اللبنانية والفلسطينية من طور "المقاومة" ضد إسرائيل والحروب الداخلية اللبنانية، إلى أطوار أممية أو إسلامية أو قومية عربية. وباتت تلعب أدواراً عسكرية وأمنية في بلدان بعيدة وقريبة. وعلى هذا، لم يجد معمر قذافي من ينجده من ورطته في حرب شريط أوزو عند الحدود التشادية (1983-1986)، سوى المقاتلين اللبنانيين، الذي ذهبوا بالمئات لصد الهجوم التشادي. فللقذافي أفضال كثيرة على معظم التنظيمات اللبنانية المسلحة، التي أغدق عليها لسنوات طويلة بالمال والسلاح بسخاء منقطع النظير، وما كان بوسع التنظيمات رفض طلب له.

وإذا كانت مساهمة المقاتلين اللبنانيين ضئيلة للغاية في حرب "المجاهدين" بأفغانستان، لضعف السلفية

ورث حزب الله كل هذا المسار ليستكمله على نهجه ووجهته، بل وجعله أكثر وضوحاً استراتيجياً

والأصولية السنّية في لبنان، إلا أن مساهمتهم في ليبيا كانت مهمة جداً، في منع انهيار الجبهة الليبية.

ورث حزب الله كل هذا المسار ليستكمله على نهجه ووجهته، بل وجعله أكثر وضوحاً استراتيجياً. ولم يعد الأمر استجابة لأزمات أو تطوعاً لمساندة أو انحيازاً لطرف في حرب ما. إذ بات هو بذاته حزباً متجاوزاً للحدود، يؤسس ويرعى ميليشيات محلية على مثاله، ويُنشئ فرقاً ثابتة متفرغة ومتخصصة في كل بلد يجد تدخله فيه أمراً لا بد منه، بالإضافة إلى شبكة لوجيستية ومخابراتية على امتداد خريطة شاسعة من طرق السودان عبر البحر الأحمر إلى سيناء وغزة، ومن البحرين إلى صعدة وصنعاء اختراقاً للجزيرة العربية، ومن قلب طهران إلى بغداد والبصرة، ومن معبر البوكمال إلى حلب فدمشق وبيروت.

وهو افتتح علنية انتشاره على نحو مكشوف وميداني منذ أواخر العام 2011 ومطلع العام 2012، إثر إرساله آلاف المقاتلين إلى كل الجبهات السورية، ومشاركته الفعالة في تنظيم وتأطير وتدريب وقيادة الميليشيات الموازية التي بدأت بالظهور مع تعبئة عشرات آلاف "المتطوعين" الشيعة من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان، بمؤازرة الميليشيات الإيرانية و"الحرس الثوري". وكان لهؤلاء الدور الحاسم في منع انهيار نظام الأسد، قبل التدخل الروسي الذي قلب موازين القوى نهائياً. كما كان لهؤلاء الدور الكبير في التحول العسكري والسياسي في العراق، وفي بروز "الحشد الشعبي" كنموذج شبيه جداً بحزب الله في لبنان، حوّل الانتصار على داعش إلى مكسب سياسي استراتيجي للسيطرة على الدولة العراقية.

في العام 1991، باشرت الميليشيات اللبنانية، وتنفيذاً لقرارات اتفاق "الطائف" الذي أنهى الحرب، بتسليم أسلحتها وحل نفسها. في تلك اللحظة، اندلعت حروب يوغوسلافيا إيذاناً بتمزقها دولاً: البوسنة والهرسك، سلوفينيا، صربيا (والجبل الأسود) وكرواتيا. كانت فرصة لا تُعوض لبعض الميليشيات اللبنانية لعقد الصفقة المجزية: بيع أسلحتها للمتحاربين، لا تسليمها مجاناً للدولة اللبنانية. لكن أيضاً كانت فرصة لـ"محترفي" الحروب من اللبنانيين للتطوع في الصراع البوسني الصربي، خصوصاً منهم المقاتلين المسلمين (الشيعة والسنّة). وهناك تصريح لحسن نصرالله، في معرض إنكاره لأي تعصب شيعي، يفتخر فيه بمساعدته العسكرية وإرساله لبعض "خبرائه" إلى البوسنة، ومشاركتهم في معركة ساراييفو.

فوق ما سردناه آنفاً، هناك الكثير من "المساهمات" (اللبنانية والفلسطينية) في صراعات الخارج، كإرث وكنتيجة مستمرة لما أفضت إليه مجتمعات الحروب المديدة في لبنان.

نقول هذا ونحن على يقين، أن الميليشيات العراقية (الحشد الشعبي وبقايا داعش والقاعدة والبعث..) كما الميليشيات السورية والكردية (بمعظم تلاوينها وتعدد راياتها، بما فيها الأسدية)، التي باتت لا تعرف العيش إلا وفق ما احترفته على امتداد تسع سنوات، هي مؤهلة اليوم لأن تكرر التجربة اللبنانية الفلسطينية وربما على نطاق مماثل أو مضاد للنطاق الذي رسمه لنفسه دوراً وطموحاً المقتول قاسم سليماني المتجول ما بين أفغانستان وباب المندب في اليمن، مروراً بالمشرق العربي كله، خراباً ودماء ونكبات متوالية.