من أجل المسرّة

2020.05.09 | 00:47 دمشق

dmshq.jpg
+A
حجم الخط
-A

أستيقظ كل صباح على أصوات زقزقة العصافير التي تنتقل بين أغصان الشجار المزروعة أمام منزلي. أتناول فطوري وأنا أستمع إلى صوت فيروز عبر إذاعة الشباب، وينشرح صدري للنصائح التي تبثها الإذاعة للشباب بين الأغنيات.

أخرج إلى الشارع لأستقل سيارتي فأجد الحارة نظيفة فتنشط روحي وأزداد بهجة وأنا ألاحظ السيارة والمارة، كلّ يمشي بهدوء الواثق. حتى البائع الجوال يحرص على الهدوء والنظافة، فعربة الخضار لديه مغطاة بقفص زجاجي، وفي مقدمة العربة لافتة تضم لائحة الخضار التي يبيعها بمحاذاة أسعارها، تغنيه عن أي نداء.

في أحد شوارع الفرعية التي أجوبها يومياً لفتت نظري حفرة أكبر من ثمرة البطيخ بقليل، وقف أمامها شرطي المرور محذراً بعصاه الفوسفورية بعد أن طوّق محيط الحفرة بأوراق فوسفورية كتب على كل منها: (آسفين للإزعاج).

حين أصل إلى مقر عملي أركن السيارة في المكان المخصص لي برقم يحمل اسم سيارتي، مثل كل الموظفين.

في المصعد، يحييني عامل المصعد ويسأل عن أحوالي ويسرد لي أنواع الخضراوات المتوافرة في السوق كي أختار نوع الطعام الذي أريد تناوله على الغداء من غير عناء.

أحياناً لا يخطر في بالي المرور بغرفة المدير الذي يحرص على الدوام قبلنا جميعاً بنصف ساعة، فأفاجأ بمروره إلى غرفتي أثناء الدوام سائلاً عن أحوالي ومطمئنّاً على حالتي النفسية خشية أن أكون ضجراً أو مكتئباً ما جعلني لا أحتسي القهوة عنده صباحا مع بقية الزملاء. ويعرض عليّ أن آخذ إجازة استجمام لتجديد النشاط.

أما بقية الزملاء فإنهم يتداعون لإظهار الحميمية الخالصة بينهم ويتسابقون كي يدفعوا عنهم فواتير العام في النافذة الواحدة التي تتربع في مدخل مبنى المؤسسة.

أعزائي القراء ... عذراً إذا كنت قطعت عليكم حبال الكذب، وما ذاك إلاّ لأنني سمعتكم تقولون: (حاجة علاك).. أصوات آلات التسجيل المرتفعة التي تصدر عن الجيران هي التي توقظك بـ (بعيق) المغنين الجدد، أو إنك تستيقظ على أصوات قرقعة طناجر الجيران أو على روائح المقالي الصباحية. هذا إذا لم تكن قد استيقظت مثلهم على أصوات بائعي الغاز والمازوت وأصحاب عربات الخضار بمكبرات الصوت المذهلة التي يستخدمونها في الصباح الباكر. وإذا كنت من ذوي النوم الثقيل فإنك لا شك ستستيقظ على أصوات أبواق السيارات أو صراخ (أصاب البيع)..

ترتدي ثيابك على عجل وتركض فوق الحفر المنتشرة في كل مكان في أنحاء المدينة وكأنك تجتاز الوديان في صحراء نيفادا.

تحشر نفسك في ممر الباص أو السيرفيس المزدحم وأنت تستمع إلى أغنية (السح الدح انبو ..) وسواها من الأغنيات الهابطة.

تصعد درج الوظيفة حتى الطابق الرابع وأنت تلهث.. تحمد الله لأن المدير لا يداوم حتى العاشرة، ولكنك تفاجأ بنسيانك عندما يطلبك المدير كي يؤنبك لأنك تأخرت ربع ساعة، فتتذكر أن المدير الغائب يخلّف وراءه - دائماً – كبير الأذّان المتسلّط الذي يدور على الغرف ويكتب التقارير بالمتأخرين.

أعزائي القراء.. نعم.. كل ما تقولونه صحيح، ولكنني -في الواقع – أقف حائراً أمامكم. كثيرون منكم يلومونني لأنني لا أكتب إلا عن المشكلات التي نواجهها في السجل العقاري والبلدية ومصارف التسليف والقروض، وسواها من الدوائر معقدة الإجراءات، وكذلك المآسي التي تحدث في سوريا نتيجة قصف الطائرات وقذف البراميل؛ وكأن الحياة مأساة.

ولقد قال لي بعضكم غير مرة أن منظاري أسود للأمور، ولهذا أردت أن أضع نظارة سوداء سميكة على عينيّ بحيث لا أرى شيئاً، وأصف ما أريد أن يكون، من أجل المسرّة، ومن أجل أن أعبّر عن الجانب المشرق من الحياة. فتفاجئوني بقولكم: (حاجة علاك). وهكذا تجنون على أنفسكم في كتاباتي التالية، لأنني أتحمّل صفة السوداوي أكثر بكثير مما أتحمّل كلمة (علاّك).

وإنّما كتبت ما كتبت، هذه المرّة فقط، من أجل المسرّة، فلماذا تتجرّؤون عليّ، وتباركون من يخبركم، كل يوم، أنّكم بخير، وأنتم تعلمون تماماً أنكم في لجج الهمّ تتخبّطون؟‍!..