منطقة آمنة أم حقل ألغام؟

2019.10.13 | 03:14 دمشق

20191012_2_38709065_48423660.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس من المنطقي، ولا من المعقول، أن يكون الرئيس التركي قد اتخذ قرار التدخل العسكري في منطقة الجزيرة السورية من دون تنسيق مع القوى الموجودة في تلك المنطقة، ومع أطراف أخرى قد لا يكون لها حضور مادي معلن كإسرائيل- وبالتأكيد، إن قسد ليست من تلك القوى التي أقصد- إن هذا الافتراض لا يحتاج إلى كثير من الاجتهاد، خصوصاً أنه على اتصال وتنسيق دائمين مع هذه الأطراف، إما مباشرة أو بالنيابة (الروس نيابة عن بشار الأسد مثلاً). 

وليس من المنطقي، ولا من المعقول، أن تتوافق هذه الأطراف جميعها على هذا التدخل العسكري المباشر، دون أن تتفق على ضوابط وحدود هذا التدخل، ودون أن تتفق أيضاً على مصالح تشترطها هذه الأطراف. 

وليس من المنطقي، ولا من المعقول، أن يكون الإعلام وحده بوصلتنا لقراءة ما يحدث، سيما وأن وقائع كثيرة، لا تزال ساخنة في ذاكرتنا، تخبرنا: أن ما يقال، وما يصرح به، مهما كانت نبرته عالية، قد يكون عكس ما هو متفق عليه، فلا تزال قصة احتلال صدام للكويت حاضرة في ذاكرتنا، ولا يزال احتلال العراق أيضاً، ولا تزال مسرحية إيران وسفن النفط ماثلة...إلخ. 

إن الموقف الروسي لا يحتاج فهمه إلى عناء كبير؛ فهو يكاد أن يكون معلناً، إضافة إلى أن روسيا قد مارسته علناً منذ أن انفجرت الثورة السورية؛ فروسيا تحاول- بكل الوسائل- إعادة بسط سلطة تابعها "بشار الأسد" على أكبر مساحة ممكنة، وتحاول إعادة تدوير نظامه بتجميله وإعادة تسويقه إقليمياً ودولياً. 

أما موقف إسرائيل الذي بدا غاضباً من هذا التدخل، والذي دفع رئيس وزرائها إلى إطلاق مصطلح (المحافظات الكردية) على قسم من الأرض السورية، فلا يفسره الادعاء: أن إسرائيل فوجئت بما حدث؛ فما من أحد يتحرك في الجغرافيا السورية دون تنسيق مباشر أو غير مباشر معها. ولا يفسره زعم: أنها مغلوبة على أمرها، وأنها وجدت نفسها أمام حقيقة على الأرض، علمت بها، لكنها ترفضها. قد يمكن الركون إلى تفسير مقبول إلى حد ما، وهو: أن إسرائيل تعلن موقفاً مغايراً لموقفها الحقيقي، حرصاً منها على علاقة اشتغلت عليها- منذ زمن طويل- وتحاول ترسيخها مع الكرد في العراق وسوريا، وهي لا تريد الظهور بمظهر من يتخلى عن هذه العلاقة. 

إن إسرائيل تعلن موقفاً مغايراً لموقفها الحقيقي، حرصاً منها على علاقة اشتغلت عليها- منذ زمن طويل- وتحاول ترسيخها مع الكرد في العراق وسوريا، وهي لا تريد الظهور بمظهر من يتخلى عن هذه العلاقة

أما الحديث عن "داعش"، ومكافحة الإرهاب، وكل هذا الدجل الإعلامي الذي يصطنع بتواطؤ الجميع، والذي ارتكبت باسمه أفظع الجرائم والسياسات القذرة، فما هو إلا "الجوكر" الذي يستعمل من قبل الجميع عند الحاجة، وهو وسيلة عند الجميع، وليس هدفاً لأحد.

بعد هذا، لعل الموقف الأمريكي هو الأجدر بالقراءة والتحليل، وهو ما يبدو ملتبساً، سيما أن ترمب- لا يزال منذ ترشحه لانتخابات الرئاسة الأمريكية وفوزه بها، وحتى اللحظة- يمارس السياسة مثل بهلوان؛ إذ لا تهمه معايير السياسة الكلاسيكية كثيراً، ولا تهمه تقاليدها، ولا أساليبها الناعمة، ولا أعرافها. فهو يشهر قوة بلاده، ويلوح بها، وبفهمه النفعي المادي لهذه القوة، فيندفع إلى فرض ما يريد مثل مقامر. مع ذلك، إن ترمب- هذا الواصل إلى موقع الرئاسة الأمريكية- يصطدم بمجموعة حقائق يعرفها جيداً، فهو يعرف حضور إسرائيل داخل مواقع القرار الأمريكية وقوتها فيها، وهو يعرف جيداً الألاعيب التي مارسها للوصول إلى موقع الرئاسة، ويعرف أن هذه الألاعيب التي لا تنسجم مع كلاسيكيات المدرسة الأمريكية، لابد أن يستعملها خصومه ضده، وهو يعرف أنها قد تودي به، لكنه مادام يمارس السياسة كما مارس أعماله الاقتصادية؛ فإنه مقتنع بقدرته على إيجاد حل لأي مشكلة، قد تنفجر فجأة في وجهه. على هذا، يمكن تلخيص المبدأ الأساس لمعركة ترمب ضد خصومه داخل البيت الأمريكي بجملة واحدة: كسب الناخب الأمريكي، ومن أجل كسب هذا الناخب؛ فهو يعمل باتجاهين رئيسين:

1- استنهاض النزعة الأمريكية الاستعلائية التي وصلت إلى حد العنصرية في مواقف كثيرة أعلنها مراراً، مع ما يعنيه هذا من تخليق ناخب عصبوي يصعب سحبه من قوة جذب هذه العصبوية.

إن موافقة ترمب على دخول الجيش التركي إلى الأراضي السورية، قد أعطيت في ضوء ثلاث حيثيات بالغة الأهمية: 1- التقارب الروسي التركي. 2- العلاقة الأمريكية مع قوات "قسد". 3- محاولات عزله.

2- إغراء الناخب الأمريكي بالمال؛ أي: بالتشبيح عالمياً، من أجل زيادة دخل المواطن الأمريكي بغض النظر عن مصدر هذه الزيادة.

ولهذا، كان واضحاً أن ترمب قد أعطى ضوءاً أخضر لأردوغان، وكان واضحاً أن أوامر ترمب إلى جنوده بالانسحاب من بعض مواقعها في الأراضي السورية، قد كانت هي الإشارة الممنوحة لأردوغان للتدخل، غير أن هذه الإشارة قد حررت ذريعة داخل المؤسسات السياسية والقضائية الأمريكية لمواجهة ترمب وفضحه وإضعافه فمحاولة عزله. وباختصار، إن موافقة ترمب على دخول الجيش التركي إلى الأراضي السورية، قد أعطيت في ضوء ثلاث حيثيات بالغة الأهمية:

 1- التقارب الروسي التركي.

2- العلاقة الأمريكية مع قوات "قسد".

3- محاولات عزله.

هكذا يبدو لي، أن من غير المعقول، أن يكون ترمب قد أعطى موافقته دون موافقة إسرائيل؛ فهو لن يغامر أبداً- في هذه اللحظة الحرجة- بتأليب لوبي إسرائيل داخل أمريكا ضده، وبالتالي: إن الموقف الإسرائيلي الصاخب، هو موقف إعلامي لا أكثر ولا أبعد.

وأيضاً، هو قد أعطى موافقته بعد اتفاق أمريكي روسي تركي، وبالتالي: إن حدود هذا التدخل وتفاصيله متفق عليها، ولن يجرؤ الجيش التركي على تجاوزها؛ لأن أي تجاوز قد يؤدي إلى كوارث عسكرية وسياسية لن يتحملها أردوغان. وعلى هذا، إن التهديدات التي أطلقها ترمب بمحو الاقتصاد التركي، وبقلب الطاولة، لها هدفان، فهي: أولاً رسالة إلى الداخل الأمريكي لتعزيز موقعه في وجه من يحاولون عزله، وتؤسس سيناريو الإدارة الأمريكية للتعامل مع أردوغان ثانياً. إذاً، ما الذي يريده ترمب من موافقته على الحملة العسكرية التركية؟ لعل هدف ترمب الأساس من هذه الموافقة، هو كسر التقارب الروسي التركي، وعودة تركيا إلى تبعيتها لأمريكا، لكن هناك احتمالان لسيناريو هذا الكسر، فقد تكون الموافقة المجردة مرضية لتركيا وكافية لعودة العلاقات إلى سابق عهدها وهو السيناريو الأول، أما السيناريو الثاني فهو كارثي بكل معنى الكلمة، وهو دفع تركيا إلى مستنقع استنزاف سياسي وعسكري لن تستطيع تركيا تحمله، وبالتالي انهيار البنية السياسية التركية التي بدأت تتصدع في السنوات الأخيرة، وقد يؤدي هذا إلى انقلاب عسكري تركي يعيد تركيا إلى صيغتها السابقة، صيغة الدولة بواجهتها العلمانية وبقيادة العسكر من وراء الكواليس. السيناريو الثاني سيدفع بالمنطقة إلى دورة عنف قد تكون الأقسى، وقد تتوسع الأطراف التي ستزج مرغمة في أتون هذا الصراع، ولن تخسر أمريكا شيئاً فهي من سيحصد أخيراً. أما المأساة المهزلة، فهي أننا- نحن السوريين بكل تصنيفاتنا- من دفع الثمن الباهظ، ومن يدفعه، ومن سيدفعه.