"منحة" اللجوء السوري!

2019.02.23 | 23:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

منذ انفجار الخزان البشري في سوريا وانتشار شتاته في دول الجوار العربي ولاحقاً في دول أوروبا المتعطشة لضخّ دماء جديدة في عروقها "العجوز"، ظلّ اللجوء كحالة إنسانية ووصف قانوني يطارد السوريين الذين اضطروا إلى ترك بلدهم تحت وطأة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية، بحثاً عن أمل العيش بأمان، تحت سقف دولة مضيفة أياً تكن تلك الدولة.

محنة اللجوء التي حولت "السوري" إلى "كائن فضائي" يخشى الجميع وصوله إلى حدود بلاده و"الاقتيات" على مواد دولته، سببت من الآلام النفسية والتصدعات الاجتماعية ما لا يمكن بحال من الأحوال التقليل من خطورته وفداحته، بالإضافة إلى معاناته مما عاينه في رحلة اللجوء من مصاعب ومشاق، وما شاهده من قتل وتدمير وخراب.

لكن اللجوء بوصفه حالة إنسانية لا يمكن لمجتمع مهما بلغت درجة تقدمه وتحضره إلا أن يمر مواطنوه بها، خلال فترة زمنية ما، كان وقعه شديداً على السوريين، لا لما واجهوه من نبذ اجتماعي وسياسي من قبل المجتمعات المضيفة فحسب، بل لكون المجتمع السوري من أكثر الشعوب في المنطقة وربما في العالم، التي شرّعت أبوابها لكل موجات اللجوء التي مرت به، من دون أن يجد في ذلك أي غضاضة أو يمارس تجاه الشعوب الوافدة أي عنصرية أو فوقية أو استعلاء.

أينما حط اللاجئ السوري رحاله، عرف كيف تؤكل كتف الاندماج في المجتمعات الجديدة

محنة اللجوء استحالت مع اكتناه السوريين لمقومات شخصية معينة وخصوصية اجتماعية فريدة، إلى "منحة" لم يكونوا أنفسهم يتوقعونها. فأينما حط اللاجئ السوري رحاله، عرف كيف تؤكل كتف الاندماج في المجتمعات الجديدة، وشقّ طريقه إلى بداية حياة جديدة ومشروع فريد، يشحذ من طاقاته وحبه للحياة والعمل، مضيفاً إلى خبرته ومعرفته بعداً جديداً لم يكن يخطر له على بال من قبل!

ففي تركيا، على سبيل المثال، أصدر مركز أبحاث السياسات الاقتصادية التركية نهاية العام 2018؛ تقريراً أكد فيه أن السوريين أنشؤوا أكثر من 10 آلاف شركة في مختلف القطاعات منذ عام 2011 أي بمعدل 4 شركات يوميا. الأنشطة التجارية السورية في تركيا أغلبها قائمة على التصدير، 55.4% من الشركات السورية في تركيـا تقوم بتصدير منتجاتها إلى الخارج، وهي نسبة كبيـرة للغاية تتفوّق على الشركات التركية نفسها التي تتراوح نسبة اعتمادها على التصدير بنحو 30.9%.

وفي مصر، كشف تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، أن السوريين قاموا بتأسيس مشروعات تجارية مختلفة ما بين عامي 2012-2016 يصل إجمالي قيمتها الاستثمـارية إلى نحو 800 مليون دولار، وقاموا بتشغيل آلاف العمال المصريين في مشروعاتهم الاقتصادية، ويكفي أن تسأل أي مواطن مصري عن الوجود السوري في بلده، ليؤكد لك استغرابه من أسلوب تعامل بعض الدول مع السوريين كلاجئين فيما تحولوا إلى كتلة من النشاط الاقتصادي في مصر.

أما في الأردن، فقد ساهم الوجود السـوري خلال السنوات الماضية بما لا يقل عن 20% من إجمالي النمو الكلي للأردن الذي لا يتجاوز 2%، وهو ما دفع بعض المراكز البحثية إلى التحذير من التراجع الاقتصادي الذي سيصيب البلاد إذا بدأ السوريون في العودة لبلادهم بأعداد كبيرة قد تترك فراغا كبيرا يُشكّل أزمة لقطاعات عدة في الأردن.

أما في الجار "العزيز" لبنان، والذي لطالما اشتكى من آثار اللاجئين السوريين على مجتمعه، فيكفي أن نعلم أن ودائع السوريين في مصارفه قد زادت عن 20 مليار دولار عام 2017، بحسب صحيفة النهار اللبنانية، وأن نراجع تصريحات المسؤولين الأممين التي تؤكد أنه لولا اللاجئون السوريون في لبنان، لانهار اقتصاد هذا البلد بعد تراجع الدعم الدولي له.

تذكير السوريين أن محنة اللجوء التي يعانونها منذ نحو 8 سنوات، قد تحولت إلى "منحة"

ليست الغاية مما تقدم تزيين واقع اللجوء السوري أو المكابرة على جروحه العميقة في الشخصية السورية والمجتمع تالياً، لكن الغرض مما تقدم، تذكير السوريين أن محنة اللجوء التي يعانونها منذ نحو 8 سنوات، قد تحولت إلى "منحة" بفعل إصرارهم على الحياة وخوضهم هذه التجربة المريرة، فكم من قصة نجاح للاجئ في دول الجوار السوري أو أوروبا، أصبحت حديث وسائل الإعلام لمعرفة كيف تمكن هذا "الهارب" من ويلات الحرب في بلده من تحويل وضعه المأساوي إلى قصة نجاح تحتذى. وكم من لاجئ سوري كتب له أن يستلهم معاناته في طريق بلوغ النجاح الشخصي والعملي، بعد أن ظن أن الحياة قد انتهت إثر خسارته كل شي في بلده.

هي دعوة للتأمل في واقع اللجوء، والنظر إليه على أنه "فرصة" لخلق النجاح، فهل تظهر الإنجازات والنجاحات عادة إلا في أكثر الأزمات شدة وضيقاً؟!