منبج بين اتفاق (4 حزيران) والمماطلة الأميركية

2018.11.30 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تنظر تركيا إلى اتفاق الرابع من حزيران 2018، والذي عُقد بين الجانبين التركي والأمريكي بخصوص مدينة منبج، على أنه إحدى أوراقها القوية على المستوى الدبلوماسي، والتي يمكن توظيفها في عملية طرد قوات حماية الشعب من كامل منطقة غرب الفرات. وجدير بالذكر أن الاتفاق المذكور يقضي بانسحاب قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على منبج منذ آب 2016، وإعادة المدينة إلى أبنائها من خلال تشكيل إدارة مدنية تشرف على تسيير شؤون المواطنين تحت إشراف مشترك، تركي – أمريكي.

وكان قد اتفق الطرفان الموقعان على أن يتم تنفيذ بنود الاتفاق خلال تسعين يوماً، تنسحب بموجبها وحدات حماية الشعب انسحاباً تدريجياً، وذلك بالتوازي مع تشكيل إدارة مدنية لتسيير شؤون المواطنين بإشراف مشترك تركي أمريكي.

وبعد انقضاء ما يقارب الخمسة أشهر على تاريخ توقيع اتفاق حزيران، لم يُنفّذ مما تم الاتفاق عليه سوى الجزء الرمزي، والرمزي جداً، وأعني الدوريات المشتركة على حدود التماس بين مناطق سيطرة قوات الحماية وقوات درع الفرات. الأمر الذي أكّد لتركيا سعياً أمريكياً مقصوداً إلى المماطلة والتلكؤ بتطبيق خارطة طريق منبج. وكان الردّ التركي على المماطلة الأمريكية هو القيام باستهداف قوات الحماية الكردية، في نهاية شهر تشرين الأول وأوائل تشرين الثاني الجاري، في مناطق

الإشارات الأمريكية المتكررة إلى الدوريات المشتركة مع الجانب التركي لم تعد مقنعةً لحكومة أنقرة، التي باتت على يقين من أن الولايات المتحدة الأمريكية تراهن على عامل الوقت

شرق الفرات، وكان الواضح من هذا الاستهداف التركي هو توجيه رسائل قوية للجانب الأمريكي تتضمن إصرار تركيا وسعيها الجدي لتجريف أي كيان كردي على حدودها مع سوريا، باعتبار هذه العملية من أوليات الأمن القومي التركي.

ومن جديد تعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى اعتماد استراتيجية (الاحتواء المزدوج) حيال الطرفين المتخاصمين، فهي من جهة، لا تريد التخلّي عن حليفها التنفيذي المتمثل بقوات سوريا الديمقراطية، وذلك في ضوء الرغبة الأمريكية بالبقاء إلى أمد غير محدد في سوريا، ومن جهة أخرى تسعى إلى احتواء الموقف التركي الساخط، من خلال التصريحات التي يطلقها المسؤولون الأمريكيون بين الفترة والفترة، والتي تؤكد على التزام الجانب الأمريكي باتفاق حزيران. ولعل الإشارات الأمريكية المتكررة إلى الدوريات المشتركة مع الجانب التركي لم تعد مقنعةً لحكومة أنقرة، التي باتت على يقين من أن الولايات المتحدة الأمريكية تراهن على عامل الوقت، وتتخذ من الإجراءات الشكلية لاتفاق حزيران وسيلة للتهرّب من المستحقّات الجوهرية للاتفاق المذكور.

ما يعزز شكوك أنقرة وارتيابها هو الاستنفار العسكري الكامل لقوات سوريا الديمقراطية في كافة المناطق التي تسيطر عليها، أي من القامشلي وحتى منبج، والمتمثل بحفر الأنفاق، وحملات التجنيد الإجباري التي تهدف من ورائها إلى تجنيد أبناء تلك المناطق وزجهم في حروبها التي تخوضها بالوكالة. إضافة إلى قيام الجانب الأمريكي بإبرام عدة اتفاقيات مع قسد، تفضي إلى قيام واشنطن بتدريب الآلاف من قوات سوريا الديمقراطية، يشمل التدريب جانبين اثنين، قتالي عسكري، واستخباراتي، فضلاً عن رواج أنباء شبه مؤكدة بقدوم قوات خليجية (إماراتية – سعودية) ودخولها إلى مناطق سيطرة قسد، لتكون جزءاً من تلك القوات، ما يعني دخول السعودية والإمارات في حرب مُحتملة ضدّ تركيا.

وحيال الوصول إلى هذه الحالة من التأزم بين أنقرة وواشنطن، تبدو سياسة خلط الأوراق، بالنسبة للأمريكان هي الوسيلة الأنجع لمعالجة المواقف المُحرِجة أو الإشكالية في مناطق الشرق الأوسط عموماً، وفي سوريا على وجه الخصوص، ذلك أن القدرة على استعادة خطر (داعش)، باتت أمراً ميسوراً، طالما أن داعش مازالت تحافظ على جيوب لها في منطقة ريف دير الزور الشرقي، وكذلك على الحدود السورية العراقية، تمتد هذه الجيوب أحياناً لتصل إلى مسافة بطول(100 كم)، ولا نعتقد أن هجوم

تؤكد واشنطن أن بقاءها في سوريا مقرون بمقاومة النفوذ الإيراني، وهي لهذا الهدف، تسعى إلى إنشاء قوة محلية تحارب النفوذ الإيراني، بالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية

تنظيم داعش على بلدة (هجين)، وكذلك قيامه بعدة هجمات ارتدادية تجاه قسد، إلّا جزءاً من الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى إبقاء خطر داعش قائماً، طالما أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها بحاجة إلى استثمار هذا الخطر.

وفي مسعى موازي، تؤكد واشنطن أن بقاءها في سوريا مقرون بمقاومة النفوذ الإيراني، وهي لهذا الهدف، تسعى إلى إنشاء قوة محلية تحارب النفوذ الإيراني، بالوكالة عن الولايات المتحدة الامريكية، وهذه القوة، بحسب إدارة ترامب، تتكوّن من قوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى قوى من مكونات عشائرية أخرى، إلّا أن المفارقة الكامنة في الرؤية الأمريكية تتجسّد في إتاحة المجال واسعاً لقوات الحشد الشعبي الطائفية التي تتحكم بالمعابر بين سورية والعراق، والتي (هي وليس سواها) من يشرف على كل الترتيبات اللوجستية لدخول الميلشيات الإيرانية إلى سوريا، وفي الوقت ذاته ترفع (أمريكا) شعار محاربتهم في سوريا، ولا تحاربهم بجنودها، بل بقوات محلية تعمل بالوكالة.

ما هو مؤكَّد، هو أن الإدارة الأمريكية قبل سواها، تدرك أن النفوذ الإيراني في سوريا إنما يرتبط بالمشكلة الجذرية وهي وجود نظام الأسد في السلطة، والسعي لحل الإشكالية دون المرور بجذر المشكلة، يبقى ملامسةً خجولة لأعراض المشكلة وليس لأسبابها الحقيقية.

وفي ضوء ذلك، تصبح عملية خلط الأوراق، واستحداث جبهات جديدة يمكن تسميتها ب (وظيفية) هي الأسلوب الضامن والمُجرَّب – بالنسبة لأمريكا – بغية خلق مسارات جديدة للصراع، صالحة للاستثمار السياسي والإعلامي معاً. ووفقاً لذلك، ليس من المستبعد أبداً، أن تجهر إدارة ترامب، في المدى القريب، بالتنصّل العلني من اتفاق الرابع من حزيران، تحت ذرائع متعددة، لعل أبرزها استمرار خطر داعش، ومقاومة النفوذ الإيراني في سوريا، ما يجعل حاجتها إلى قوات سوريا الديمقراطية، كأداة تنفيذية حليفة، أمراً ضرورياً.