ملهاة مسار أستانا

2021.02.22 | 00:04 دمشق

20210217_2_46921774_62615609.jpg
+A
حجم الخط
-A

من جديد تؤكد جولات مسار "أستانا" المتتالية أن أهمية عقدها تأتي توضيحاً باستمرار التفاهمات التركية-الروسية في سوريا؛ ليس إلا، وما دون ذلك من ملفات متعلقة بالشأن السوري تبقى تفاصيل؛ تعالجها تلك التفاهمات في وقتها المناسب.

بيانات ختامية تنسخ بنودها الدول الضامنة للمسار (روسيا، إيران، تركيا) في كل جولة جديدة عن سابقتها من الجولات، ولكن السؤال الذي يدور في رأس كثيرين من السوريين يتمحور حول منجزات جولات "أستانا" للحل السياسي في سوريا.

عملياً قدّم مسار "أستانا" المكاسب العديدة للنظام السوري، فأنتج "مناطق خفض تصعيد" أعادت السيطرة للأخير على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية لم يكن يستطع وحده الطيران الروسي استعادتها، ومن ثم ساهم في صناعة "اللجنة الدستورية" التي تؤدي على ما يبدو مهمتها التي رسمتها موسكو ودمشق في تضييع الوقت وتمييع فرص المحافظة على أسس حل سياسي حقيقي وكامل في سوريا.

في المقابل فإن آلية "أستانا" المختصة بالمعتقلين كانت ذريعة تتلطى وراءها كل من موسكو ودمشق ادعاءً باهتمامها بملف المعتقلين السوريين أمام المجتمع الدولي، في الوقت الذي أضاع المسار بوصلة قضية المعتقلين بالكامل من حل جذري؛ إلى استجداءات ومطالبات لا قيمة لها ولا أي صوت مسموع.

لقد أمعن مسار "أستانا" في إذلال المعارضين السوريين بحجة "خفض التصعيد" وتهجيرهم والتأسيس لتغيير ديمغرافية مناطقهم، مقابل تمرير صفقات سياسية وعسكرية

عبر "أستانا" كانت مسؤولية فصائل المعارضة في وسط البلاد وجنوبها قبل تسليم مناطقهم من خلال اتفاقات التسوية والتهجير شمالاً، التوقيع على تضمين اشتراط أساسي بالإفراج الكامل عن المعتقلين في المناطق السورية، وهو الأمر الذي لم يحدث؛ إلا من استثنتهم الظروف الخاصة وبعض من الضغوط المحلية النادرة الحدوث. لقد أمعن مسار "أستانا" في إذلال المعارضين السوريين بحجة "خفض التصعيد" وتهجيرهم والتأسيس لتغيير ديمغرافية مناطقهم، مقابل تمرير صفقات سياسية وعسكرية.

صرّح عضو في وفد المعارضة لأستانا، خلال مقابلات صحفية عدة بعد انتهاء الجولة الـ 15، أن إيران وروسيا لن تقوما بأي هجوم عسكري على ما تبقى من منطقة خفض التصعيد الأخيرة (إدلب)، مستشهدا بأحد بنود البيان الختامي الذي أكد على الاستمرار بآلية وقف إطلاق النار في الشمال الغربي من سوريا ما يعني استمرارا لتمديد التهدئة هناك والمحافظة على الاتفاق الموقّع بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في آذار 2020، وهو ما قد ينسجم بشكل أو بآخر مع بعض التسريبات الصادرة بعد الجولة الأخيرة كانت أشارت إلى تثبيت مناطق النفوذ القائمة خلال الفترة الحالية بمعنى عدم رجوع قوات النظام السوري وراء الخطوط التي كان يطالب فيها الجانب التركي.

كذلك فإن الادعاء باستحالة التصعيد العسكري لاحقاً، وكأن الجولتين 13 (آب 2019) و14 (كانون الأول 2019) لم تحويا البند ذاته في المضمون الذي استند عليه عضو الوفد، في حين أن الأيام التي تلت تاريخ عقد تلك الجولتين كانت شاهدة على التصعيد العسكري لكل من قوات النظام وحلفائها الروس والإيرانيين، وهو ما أتاح لهم قضم مناطق استراتيجية للمعارضة في آخر المناطق المُسيطر عليها في أرياف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، والسيطرة؛ التامة على الطريق M5 (حلب دمشق الدولي)، والمعقولة على الطريق  M4 (حلب اللاذقية الدولي).

الرسالة الأولى تشير إلى مركزية التفاهمات الروسية-التركية في الملف السوري، ومدى توافقها المحتمل استمراره خلال فترة رئاسة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن

بالعودة إلى تأكيد "أستانا" على التفاهمات الروسية-التركية في سوريا، فإن الجانب الروسي على وجه الخصوص والذي أسس لهذا المسار ويواجه من خلاله دور الولايات المتحدة في سوريا، أراد توجيه رسائل عدة إلى واشنطن من خلال توقيت عقد هذه الجولة ودواعيها، فكانت الرسالة الأولى تشير إلى مركزية التفاهمات الروسية-التركية في الملف السوري، ومدى توافقها المحتمل استمراره خلال فترة رئاسة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، بخاصة وأن الأخير يبدي سلبية معلنة من دور روسيا، وفي الوقت ذاته تشير القراءات إلى أن سلبية أقل قد تكون مع الجانب التركي بخاصة إذا ما استمرت الخلافات حول ملفات إشكالية بين الطرفين، منها بعض القوى الكردية في سوريا والذين تعتبرهم أنقرة امتدادا لـ "حزب العمال الكردستاني" الموضوع على قوائم الإرهاب لديها، فضلا عن ملف منظومة الدفاع الجوي الروسية "اس-400" ومساعي واشنطن لمنع تشغيلها في تركيا.

من الرسائل الأخرى التي توجهها موسكو، تتمثل في التلويح بـ "قُدرة" الضامن الثلاثي (روسيا، تركيا، إيران) المحافظة على مسار العملية السياسية، بخاصة أن "اللجنة الدستورية" كانت مُنتَجاً أستانياً، لذا فإن هذا الضامن محور مهم لاستمرار تلك العملية وإعادة إحيائها بتأثيره وتفاهماته، طالما أن تلك اللجنة باتت برعاية أممية، بخاصة وأن الولايات المتحدة وفي آخر أيام إدارة الرئيس الأسبق دونالد ترامب هددت بدفن مسار "أستانا" (جاء ذلك على لسان المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا سابقاً جيمس جيفري)، وستستمر هذه السياسة على ما يبدو مع إدارة بايدن التي أعلنتها صراحة بتوافقها التام مع مسار حل سياسي في سوريا مستند فقط على القرار الدولي 2254، وتجدد الإعلان عن هذه السياسة وفق تصريحات مسؤول أميركي أشار فيها ضمنياً بعد انتهاء الجولة الـ 15 من "أستانا" إلى أن الولايات المتحدة لا تعول على هذا المسار وأن الحل لا يمكن أن يأتي إلا عبر جنيف والمظلة الأممية من البداية إلى النهاية.