ملكة الفوعة.. تلميذ بنِّش رواية مفعمة بفيضها الإنساني

2019.11.13 | 16:00 دمشق

1cfae0c96fa947204476f04e.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا أذكر من قال: "إنك حين تقرأ رواية تعيش حياة جديدة إضافية..!" وهو قول حق إذ ينطوي على حقيقة واقعية، فقد أخذت الرواية في العقود الأخيرة تستميل أعداداً كثيرة من الكتاب، ومبدعي الأدب، ولا تزال دور النشر والمواقع الإلكترونية والمؤسسات الثقافية في أغلب دول العالم، إن لم أقل في جميعها تحتفي بهذا الجنس الأدبي الساحر، وتميِّزه عن غيره من الأجناس الأدبية، بما في ذلك الشعر. وتكرِّم المنابر الثقافية مبدعي الرواية، وتترجم الأعمال الروائية الشهيرة إلى لغاتها.. وها هي ذي المطابع تقذف إلى السوق يومياً بمئات الروايات، وربما آلافها، فسوق الأدب اليوم مهووسة بفن الرواية إلى درجة صرتَ ترى كل من أمسك بالقلم ذات يوم، أو كتب صفحة أو جملة على هاتفه الذكي أو على حاسوبه أخذ يفكر في امتطاء متن الرواية! ما يدفع إلى السؤال ألهذه الدرجة يمكن لحائط الرواية أن يكون واطئاً؟! أم إنها الرغبة في القص ومتعته التي لازمت حياة الإنسان، ولم تزل انطلاقاً من أنَّ الحياة، في نهاية المطاف، ليست أكثر من حكايا لا يكاد جنس أدبي أن يخلو منها على نحو أو آخر. الحقيقة، هي كذلك، فالحكاية في بداياتها كانت وسيلة تربوية، ومنها تؤخذ الحكمة والعظة، والقيمة السلوكية، في إطار من الجديد المدهش، إضافة إلى المتعة التي يوفرها الكاتب الماهر الذي يتقن تقديم حكاياه.. ومن هنا يقبل القراء على الرواية فما الذي يهم في الرواية؟!

ميزة الرواية أنها تتسع، عبر سردها الشيق، إلى مجالات الحياة وأنشطتها كافة، وسواء أخذت مجالاً حياتياً واحداً وتعمقت فيه، أو دمجت الكل في رواية واحدة.. ولعلَّ رواية شعبان عبود "ملكة الفوعة.. تلميذ بنش" من النوع الثاني إذ هي رواية حب، وحرب، وسياسة، ومجتمع، وتاريخ، وجغرافيا أيضاً! هي رواية واقعية بامتياز فلا مجال للعبة الخيال أو ما يعرف بالفانتازيا أو الغرائبية فما يجري في الواقع الذي تمتح منه الرواية غني جداً إلى درجة تفوقه على تلك الأساليب التي تتضاءل أمامه..

تجول الرواية في العالم متتبعة توزع الشعب السوري في السنوات الأخيرة.. ولعلَّ أهم ما يميزها، وهي التي تقرأ خلال ساعات فقط، سردها العفوي البسيط، ولغتها التي وإن اقتربت من لغة الصحافة اليومية، إلا أنها قادرة على أن تعكس عمق ما يجول في نفس أبطالها من انفعالات، وأن تصوَّر مفردات موضوعها بدقة، وهي أيضاً تجول في الزمان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بحرية دون أن تسبب للقارئ أية مشكلة في المتابعة.. والأهم من ذلك كله موضوعها الإنساني الذي لا يهم السوريين فحسب، بل كل من انتمى إلى المجتمع الإنساني، وعزَّ عليه بنوه..! وبإيجاز يمكن القول إنَّ الرواية تلبي حاجة أذواق القراء على اختلافهم وتعدد رؤاهم.. ولاشك في أن للنقاد آراء تتباين في مسألتي اللغة والأسلوب والبناء الروائي، وما يستحدث فيه على الدوام.. وثمة أمر مهم جداً في العمل الروائي بل في كلِّ جنس من الأجناس الأدبية، وأقصد حسن البدء، أو الاستهلال الذي يتوقف عليه أمر الإمساك بالقارئ، والأخذ بيده، متنقلاً في نواحي العمل الأدبي، إذ يكون التنقل من حدث إلى آخر بمتعة وشغف التي توفرها سلاسة السرد على قاعدة التوافق أو التلازم بين المبنى والمعنى التي تميز، في النهاية، العمل الجيد من سواه..

ترصد الرواية تحول الثورة إلى حرب أخذت تفعل فعلها الكارثي في المجتمع، وفي عموم العلاقات الإنسانية..!

إن موضوع الرواية هنا هو الثورة السورية، فهي رواية سياسية في عمقها، وهي اجتماعية في إطارها وحوادثها، وهي أيضاً عاطفية في روح بنيتها الداخلية، ترصد الرواية تحول الثورة إلى حرب أخذت تفعل فعلها الكارثي في المجتمع، وفي عموم العلاقات الإنسانية..!

تبدأ من عمق الأحزان بخيط آتٍ من عالم الراوي المخزَّن في ذاكرة روحه والممتد بفعل التداعي إلى حاضره، ومبعثه بهجة العيد الذي ابتلعت الغربةُ مفرداتِها..

"مهما فعلنا- نحن الغرباء- لنضخ الحياة في الأشياء والمناسبات نفشل، ونصاب بالخيبة، فثمة شيء مفقود، وثمة شيء ذهب ولن يعود، اليوم هو العيد، وها هي ذي الساعة العاشرة، ولم يطرق باب بيتنا أحد، ونحن لا نفكر بالذهاب لعند أحد" ص8

وتتوالى مفردات العيد وطقوسه المعهودة في ذاكرة بطل الرواية، لينتقل بنا عبر الزمن إلى بنش قريته وأهله، وذكريات الطفولة وتآلف الناس جواراً وأهل بلد.. ومع الحرب القائمة هناك يتبدل كل شيء..! وأولها بلادة الصحفي الذي يتقيد بواجبه، فتأخذه تقاريره نحو عمليات إحصاء عدد القتلى أو البيوت المهدَّمة، دون أن يذكر إذا ما كان القتيل قريبه أو أحد معارفه، ودون أن يشير إلى أنه قد جالس صاحب ذلك البيت المتهدم أو شرب عند أهله شاياً أو قهوة..!

"كان علينا، نحن الصحفيين السوريين المنتشرين في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، أن نحرر خبرنا على نحو مهني، فنقول بلغ عدد قتلى يوم أمس مئة وستة عشر شخصاً دون الإشارة إلى أن أحد هؤلاء القتلى كان جاراً لنا أو صديقاً أو رفيق عمر أو الفتاة التي سحرتنا عيناها ذات يوم، أو معلم المدرسة الذي تتلمذنا على يديه، أو الحلاق الذي كان يقص لنا شعرنا ويرشّنا بالعطر". ص7

يتأمل الراوي العالم من حوله فيندهش من حال القرية المجاورة لقريته وكيف اختار أهلها الوقوف إلى جانب نظام الاستبداد؟! وهو الذي بكى حين سمع بأول مظاهرة في درعا، وكذلك حين خرجت قريته بمظاهرة، ويتساءل في قرارة نفسه عن الأسباب الخفية التي دفعت تلك القرية لتنساق إلى صف الاستبداد، لأنها من الأقليات الشيعية، وتأثر أهلها بالتجييش الطائفي الذي قام به النظام ليحمي نفسه؟! ويتذكر أصدقاء الطفولة وزملاء الدراسة وبخاصة سلمى الصبية التي أحبها بصمت، ورغم غياب ذلك الحب ثلاثين سنة يعود ليستيقظ كما كان طفولياً بريئاً غامراً، وتلحُّ عليه الأسئلة.. أين هي؟! وما الذي جرى لها، هل تزوجت وأنجبت، وممن؟ ويبدأ رحلة البحث والتقصي عبر شبكات التواصل الاجتماعي آخذاً معه القارئ الذي تتولد لديه الرغبة أيضاً من خلال المفردات التي ينثرها بطل الرواية تشويقاً للقارئ ليعرف المزيد وهكذا..؟!

أما حين يصل الروائي بالقارئ إلى اللحظة التي ينتظرها، لحظة لقاء الحبيبين بعد سنين وتشويق ممتع امتد على مدى عشرات الصفحات تندلق الأحزان والآلام على لسان الحبيبة، سلمى المفجوعة بابنها البكر، وليفضح الروائي مأساة الحرب ومعاناتها، والغاية التي كتبت لأجلها الرواية..!

"في أغلب الأحيان كنت أستيقظ على رسائل صوتية منها، كانت تحدثني فيها وتبكي.. تبكي كثيراً، تحدثني عن نور الدين (ابنها الذي قتل في المعارك بين القريتين الجارتين) عن المواقف والذكريات معه، عن كل الذين تعرفهم وماتوا.. كنت أستيقظ وأسمع رواياتها عن الحوادث والقتلى وأهاليهم، عن ذلك الشاب الذي يعمل في المطحنة ثم قُتِل مع غالبية أفراد أسرته.. عن العروس التي ماتت بفستانها الأبيض ليلة زفافها، عن الحصار والجوع والقهر، عن معاناتها في الغربة بعيداً عن الفوعة وبيتها.." ص106 وتصف له لحظة التهجير ومدى ارتباط الإنسان بالأشياء التي تصاحبه في حياته لتشكل في النهاية وطنه..

"يوم خروجنا من الفوعة، في يومنا الأخير هناك، استيقظت بشكل طبيعي مثل أيِّ يوم عادي، قمت بشطف البيت بالماء، نظفته جيدا، رتبت الأثاث كما لو أن ضيوفاً سيصلون بيتنا بعد قليل، كان كل شيء في مكانه نظيفاً ولامعاً.. المهم أنَّ كل شيء في البيت كان يبدو كما لو أننا لن نغادره أبداً. حتى إنني طبخت للغداء وزرت المقبرة فيما كانت الباصات التي ستنقلنا تجول في الضيعة وكان الناس يتحلقون حولها.." "عندما اقترب موعد خروجنا في تلك الباصات، جلت في البيت، على جميع الغرف، وعلى المطبخ والحمام، صرت أنظر لكل شيء وأبكي، كنت أتذكر قصة كل قطعة أثاث اشتريناها، لقد كنت حريصة على اقتناء القطع والأشياء المميزة مهما كانت كلفتها". ص210

وبعد يحار القارئ حين يريد الحديث عن الرواية أي موقف يشير إليه وأية جملة يستشهد بها من تلك الجمل الغامرة بالحب الإنساني الذي هو فوق الصراعات والقتل والدم، وفوق الطوائف وألوان التقسيمات المجتمعية بألوانها كافة التي يتبعها بنو الإنسان لغاية السيطرة على الحياة وحرمان الآخر منها.. وإذا كان محتوى الرواية يفيض بالمحبة للحياة ولإنسانها وينبذ الاستبداد، وكل من أو ما يقف في وجه الحياة.. فإن شكل الرواية، كما أشرت، في البداية سهلاً بسيطاً يلامس حنايا روح القارئ بيسر ومتعة.. وإذا كان للأدب أن يستشرف المستقبل من خلال قراءة الواقع إنسانياً فإن هذه الرواية قالت لا لمن فجَّر هذه الأحداث التي باشرتها الرصاصة الأولى في درعا، وآذت أطفالها وكبارها وقادت إلى تدمير سورية وتهجير أهلها فلعلها كانت درساً بليغاً ومكلفاً.. لكنه درس سيذهب بالاستبداد وأركانه ومسبباته كافة فقد كانت نتائجه كارثية على الشعب والوطن وها هي ذي أحداث لبنان والعراق تذهب إلى رفض هذا النوع من الحكم مستفيدة من الدرس السوري ومؤثرة فيه، وسيكون لأهالي هذه المنطقة مجالاً رحباً للحب والحياة والأمن والسلام..!