طُويت حقبة كاملة من تاريخ سوريا في ظل نظام الأسد، وبقي السوريون أمام ملفات كثيرة تركها الأسد عالقة خلفه، وعلى رأسها ملف المعتقلين والمفقودين الذي ظلّ غصة حاضرة حتى خلال احتفالات السوريين بلحظة انتظروها لأكثر من 50 عامًا.
منذ بدء عملية "ردع العدوان" ومع نبأ السيطرة على كل مدينة سورية تصدرت قضية المعتقلين المُحررين الشاشات، وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بصور ومقاطع مصورة تُظهر عمليات الإفراج عن المعتقلين وتفاصيل من مختلف مراكز الاحتجاز.
رافق ذلك مشاهد تُظهر حالة من التيه تعيشها مئات العائلات السورية داخل وخارج سوريا، أمام الكم الهائل من القوائم العشوائية والأنباء المتضاربة خصوصا فيما يخصّ أبرز السجون السورية، سجن صيدنايا أو كما يُطلق عليه "المسلخ البشري".
تضارب بالأرقام، عمليات بحث عشوائية، معلومات غير متكاملة وتضارب بتقديرات أعداد المعتقلين وأعداد الناجين، تبعها العثور على جثث في مستشفى "حرستا العسكري" وأخرى في مستشفى "التل العسكري" يُقال إنها تعود لمعتقلين سابقين.
يُناقش موقع تلفزيون سوريا في هذا التقرير مع خبراء ومختصين آخر التطورات التي طرأت على ملف المعتقلين والمفقودين في سجون النظام السوري، أهمية الحفاظ على الأدلة ودور المنظمات والجهات المحلية والدولية في هذا الملف في المرحلة المقبلة.
أمل "زائف"
"هي أصعب من كل السنين الماضية بعدما صار عنا أمل نلاقي علاء اليوم ما عم نعرف إذا هاد الأمل حقيقي أو زائف"، عبارة قالتها والدة المعتقل علاء الدين الأصبح بنبرة خائبة لتصف حالها وحال آلاف العائلات السورية.
اعتُقل علاء الدين قبل 12 عاما، وظلّت عائلته تتلقى أخبارا متضاربة خلال السنوات الماضية حول أماكن وجوده حتى عام 2020 حين أخبرهم أحد الناجين من سجن "صيدنايا" بأن علاء الدين ما زال معتقلًا في "صيدنايا الأحمر"، وفق ما قالته والدته، ابتسام الجزار لموقع تلفزيون سوريا.
"نحن ضلينا قاعدين قريب من السجن ومع كل خبر بيجينا بتلاقي كل العائلات عم تركض على أمل يكون في باب جديد انكشف"، أضافت ابتسام الجزار.
رغم النفي الرسمي الصادر عن "رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا" حول وجود مزيد من الطوابق المخفية تحت الأرض في "صيدنايا" والتأكيد على الإفراج عن جميع المعتقلين في 8 من كانون الأول الحالي، لم يتوقف تداول أنباء عشوائية عن أبواب وأقبية سرية.
وعقب مناشدات عديدة أرسل "الدفاع المدني السوري/الخوذ البيضاء" خمسة فرق طوارئ ضمّت فريق بحث وإنقاذ وفريقًا لنقب الجدران وفريقًا لفتح الأبواب الحديدية وفريق كلاب مدربة، وفريق إسعاف.
وانتهت عمليات البحث في 10 من كانون الأول بإعلان "الخوذ البيضاء" عن عدم وجود أي دليل يؤكد وجود أقبية سرية أو سراديب غير مكتشفة.
وحذّرت العديد من المنظمات وعلى رأسها "رابطة معتقلي صيدنايا" من أثر استمرار تداول أخبار غير موثوقة على آلاف العائلات التي تعيش على أمل العثور على أحبابها.
فوضى وعشوائية تُهيمن على المشهد
عقب سنوات طويلة من العيش في انتظار لا تُعرف نهايته، وفي دوامة التساؤلات حول مصير أكثر من 100 ألف معتقل ومختفٍ قسريا والمطالبات المستمرة بتقديم حل لملف المفقودين والمختفين قسرا، كانت المعتقلات والأقبية وجهة السوريين الأولى خلال عمليات التحرير.
واستطاع السوريون فتح أبواب مراكز الاعتقال بأيديهم وتحرير آلاف المعتقلين وإجراء عمليات البحث عن مزيد من المفقودين.
أوراق مبعثرة يُقال إنها تعود لديوان "صيدنايا"، محاولات حفر بأدوات بسيطة بحثًا عن أقبية سرية، وتجمع لمئات العائلات رغم التحذيرات المتكررة من وجود ألغام حول السجن، جميعها عكس حالة من الفوضى أكدتها عشرات المقاطع المصورة المتداولة من السجن.
"كان المشهد كأننا بالمحشر" هكذا وصفت والدة المعتقل علاء الدين الأصبح تجمّع عائلات المعتقلين والمختفين قسرا أمام أبواب سجن "صيدنايا".
ولم تقتصر حالة الفوضى تلك على سجن "صيدنايا"، إذ تداول سوريون عبر مواقع التواصل الاجتماعي صور ومقاطع مصورة من سجون أخرى ظهرت فيها ملفات وأوراق ملقاة على الأرض.
وطالت حالة الفوضى المعتقلين المُفرج عنهم، إذ تتوالى الأخبار حول وجود مئات المعتقلين عاجزين عن الوصول لعائلاتهم نتيجة فقدان التواصل معهم أو التعرض لصدمات نفسية.
وبعد الإعلان عن وجود جثث تظهر عليها آثار التعذيب في مشفى "التل العسكري" ومشفى "حرستا العسكري"، تكررت حالة الفوضى مع توافد الإعلاميين والأهالي بشكل غير منظم إلى أماكن توجد الجثث.
من جهته أرجع المنسق السابق في "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، محمد منير الفقير، في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، إلى صعوبة ضبط حالة الفوضى التي ظهرت في السجون عند التعامل مع عائلات تبحث عن مفقوديها المغيبين منذ سنوات طويلة.
أنباء متضاربة.. الدقة غائبة
لم تصدر حتى لحظة نشر هذا التقرير أنباء دقيقة حول عدد الناجين، واقتصرت المعلومات المتداولة على قوائم لا يُعرف مدى موثوقيتها، وأرقام قدّرتها المنظمات المعنية.
خليل الحاج صالح، العضو في مجموعة ميثاق الحقيقة والعدالة التي ناصرت لإطلاق المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين (IIMP) ومسؤول الأبحاث والمناصرة في رابطة "عائلات مسار"، قال لموقع تلفزيون سوريا، إن عدد الذين خرجوا من السجون أقل بكثير من العدد المأمول من جانب مجتمع الضحايا في سوريا.
ورغم احتمالية وجود مزيد من المعتقلين على قيد الحياة في معتقلات وسجون "سرية" لا توجد أي معلومات دقيقة تؤكد أو تنفي ذلك، وفق ما قاله الحاج صالح.
وبلغ عدد المختفين قسريًا في سوريا منذ آذار 2011 حتى آب 2024، 113 ألفًا و218 شخصًا. ويعد النظام السوري مسؤولًا عن 85% من عمليات الاختفاء، بينما لم تتجاوز تقديرات أعداد المفرج عنهم 50 ألفًا، وفق "الشبكة السورية لحقوق الإنسان".
فوضى تهدد الأدلة
المحامي ومستشار القانون وحقوق الإنسان أويس الدبش، قال لموقع تلفزيون سوريا، إن عمليات البحث العشوائي والفوضى التي شاهدناها تؤثر بشكلٍ كبيرعلى الأدلة وقيمتها.
وحذّر الدبش من استمرارية دخول الإعلاميين والمدنيين إلى مراكز الاعتقال إذ إن كل الأدلة الموجودة يجب حفظها بأسلوب قضائي دقيق موضحًا أن آلية حفظ الأدلة معقدة وعدم وجود مختصين يمكن أن يتسبب بتدمير تلك الأدلة خصوصًا بوجود عمليات حفر وتكسير وعشوائية.
كما أن تداول الأدلة ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي تُقلل من قيمتها بشكل كبير.
ومن الضروري الحد من الدخول العشوائي لتلك المواقع إذ إن الضرر لا يقتصر على مسار العدالة مسبقًا وحسب بل يمكن أن يهدد أمان عائلات المفقودين في ظل احتمالية وجود الألغام في مختلف مراكز الاحتجاز.
وأطلقت العديد من المنظمات السورية المعنية بشؤون المعتقلين ومسار العدالة والمحاسبة تحذيرات حول ضرورة الحدّ من حالة الفوضى وتبعات ضياع الأدلة على مسار العدالة والمحاسبة.
"الجهود العفوية في البحث وفي دفن رفاة الشهداء يمكن أن يعقد عمليات تحديد هويات الضحايا كما يمكن أن يُعطل مسارات المحاسبة والمُساءلة". (خليل الحاج صالح العضو في مجموعة ميثاق الحقيقة والعدالة التي ناصرت لإطلاق "IIMP" ومسؤول الأبحاث والمناصرة في رابطة علائلات "مسار".)
"اليوم التالي غير متوقع"
وخلال المرحلة الماضية، ظهر توجه عربي ودولي لإعادة تعويم رئيس النظام المخلوع، بشار الأسد، وهو ما وضع السوريين أمام خيبات متتالية جعلت احتمالية وصولهم ليوم سقوط الأسد حلمًا بعيدًا.
وأرجع خليل الحاج صالح حالة الفوضى التي نشهدها الآن خصوصًا في ملف المعتقلين إلى أن معظم الأطراف السورية لم تتصور أن يأتي "اليوم التالي" على سوريا بهذه السرعة وبحسم عسكري خصوصًا بعد عمليات إعادة التعويم تلك.
وأضاف الحاج صالح، أن المجتمع المدني مُرتبك وضعيف وغير قادر على التأثير على الأرض، والأطراف السياسية السورية مُشتته ومرتبكة بفعل التحولات على الأرض، كما أن الـ"IIMP" لم تبدأ مرحلتها التشغيلية بعد.
لضبط الفوضى وحفظ الأدلة.. ما الحلول؟
تتوالى الدعوات لضبط الفوضى والحد من ضياع الأدلة لكنّ تعدد الجهات العاملة في ملف المعتقلين والمختفين قسرًا وحالة التيه التي يعيشها الأهالي إلى جانب غياب الجهات المسؤولة عن ضبط هذا الملف بشكل كامل يعرقل الالتزام بتلك الدعوات.
المحامي ومستشار القانون وحقوق الإنسان أويس الدبش، يرى أنه من المهم وجود إدارة مدنية تشرف على مراكز الاحتجاز ومواقع ارتكاب الانتهاكات لحين وجود هيئات دولية وخبراء.
وأضاف لموقع تلفزيون سوريا أن الأقبية مهمة لإثبات جريمة التعذيب والمعاملة اللا إنسانية القاسية، وهي من أبرز الجرائم التي ستُركز عليها المنظمات الحقوقية بسياق المعتقلين والسجون والأقبية السرية.
وستسهم الأدلة في هذه المراكز مثل عدم وجود إضاءة ومنافذ تهوية والظروف اللا إنسانية بدعم مسار العدالة وتعزيز الشهادات المقدمة في المحاكم الأوروبية سابقًا والتي ستقدم لاحقًا في المحاكمات.
جهود محلية
عضو مجلس إدارة الدفاع المدني السوري عمار السلمو، في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، قال إن المنظمة لديها مشروع لحفظ جثث مجهولي الهوية وتوثيقهم بشكل جيد ودفنهم لاحقًا.
وتُعد عملية تسلم الجثة معقدة إذ تقوم فرق "الدفاع المدني" بأخذ معلومات الشخص الذي بلغ عن وجود الجثة وموقع العثور عليها وتلتقط صور للجثة من عدة اتجاهات، بالإضافة إلى توثيق العلامات المميزة مثل الملابس وشكل الأسنان وإعطاء رقم مرجعي للجثة وحفظ موقع دفنها، وفق ما ذكره السلمو.
وأرجع عدم تفعيل هذه الآلية بشكل كامل إلى أن "الدفاع المدني" لم يدخل كافة المدن السوري حتى الآن، واقتصر دخوله إلى بعض المناطق على توفير فرق إسعاف وإطفاء.
من جهته يرى المنسق السابق في "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، محمد منير الفقير، أن دور روابط المعتقلين والمنظمات السورية في الوقت الراهن هو الكشف عن سجون سرية من خلال شهادات الناجين أو شهادات المنشقين والموظفين السابقين بالأمن أو من خلال الوثائق المسربة.
وتلعب تلك الجهات دورًا أساسيًا رعاية الناجين وتأمين وصولهم لعائلاتهم بالإضافة إلى حفظ الوثائق لمحاسبة كل شخص متورط بارتكاب تلك الانتهاكات ومنعه من أن يكون له دور في مستقبل سوريا.
وأوصى المحامي ومستشار القانون وحقوق الإنسان أويس الدبش، هيئة الطب الشرعي في سوريا بتوثيق الجثث التي يتم العثور عليها وإجراء كشف شرعي وأخذ عينات ثم دفنها مع أرقام تعريفية، مؤكدًا على ضرورة الحد من تصوير الجثث ونشرها على الإعلام.
ويرى الدبش أن في سوريا خبرات جيدة في مجال الطب الشرعي في سوريا، لافتًا إلى أن هناك تخوفا من أن يعمل بعض العاملين في الطب الشرعي على إخفاء الأدلة عوضًا عن حفظها لتتقاطع لاحقًا مع أدلة أخرى.
"نأمل أن يوسع "الدفاع المدني" السوري نطاقات عمله بسرعة وأن يتولى بمفرده عمليات الدفن وأخذ العينات لأن المعلومات تُشير أنه الجهة الوحيدة على الأرض في سوريا التي تعمل بمنهجية علمية منظمة في الوقت الراهن". (خليل الحاج صالح العضو في مجموعة ميثاق الحقيقة والعدالة).
المسؤولية الدولية
تفرض الظروف الحالية وجود لجان دولية لضبط الفوضى ودعم الجهود المحلية في ظل محدودية الخبرات المحلية وفق ما يراه الدبش.
ومن أبرز الجهات الدولية التي يُتوقع أن يكون لها دور خلال الفترة المقبلة، "لجنة التحقيق الدولية"، ولجان من الآليّة الدوليّة المحايدة والمستقلة (IIIM).
ومن الضروري وجود لجان من محكمة الجهات الدولية في حال وقعت الحكومة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي لم توقع عليه سوريا بعد، بحسب ما ذكره الدبش.
بدوره أوصى خليل الحاج صالح العضو في مجموعة ميثاق الحقيقة والعدالة التي ناصرت لإطلاق "IIMP" ضرورة حصول المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين على اعتراف حكومة سورية توافقية من أجل أن تبدأ العمل الفعلي على الأرض، بالإضافة إلى التوقيع على نظام روما الأساسي.
كما أوصى كافة الجهات المعنية بالتعاون مع "IIMP" من أجل أن تكون استجابتها متوافقة ومنسجمة.
وتابع أن المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين (IIMP) ستعمل على توثيق المفقودين وتلقي البلاغات من قبل الأسر والروابط والمنظمات ذات الصلة لتبدأ عمليات البحث في السجون والمعتقلات وتستعين بسجلات الأجهزة الأمنية من أجل تتبع مصائر المخفيين قسرًا.
كما سيكون للمؤسسة ولاية على المقابر الجماعية، وهذا يشمل رسم الخرائط وحمايتها ثم الانتقال إلى استخراج الجثث وأخذ عينات منها ومن أقارب المفقودين ثم إجراء المُطابقات. "خليل الحاج صالح العضو في مجموعة ميثاق الحقيقة والعدالة"، وفقا لتصريحات خليل الحاج صالح العضو في مجموعة ميثاق الحقيقة والعدالة.