ملامح ترسم لشرق أوسط جديد

2023.04.02 | 06:15 دمشق

ملامح ترسم لشرق أوسط جديد
+A
حجم الخط
-A

لم يستطع الربيع العربي أن يضع حدا لمنظومة القمع والاستبداد العربية التي أثقلت كاهل الشعوب لسنوات وسنوات، وظلت الجدليات متفاوتة بين دولة وأخرى من الدول التي شهدت ثورات، لكن ثمة آثار واضحة وتغيرات لا تخفى على الناظر خلفتها الحقبة الماضية، وتركت بصمتها حتى على بعض الأنظمة والحكومات التي ظلت قائمة ولم تتأثر بموجة التغيير بشكل مباشر.

ولعل الأحداث التي شهدتها السنوات العشرة الماضية كانت لافتة للانتباه بشكل غير مسبوق، فالتحولات العسكرية والسياسية والصراعات المتباينة وظهور قوى وتراجع أخرى والاصطفافات الجديدة والتبدلات الاستراتيجية والتحالفات لم تكن في وراد الحديث عن الجغرافية السياسية في العالم على الأقل خلال نصف القرن الماضي، لتبدأ في نهاية المطاف إرهاصات حقبة جديدة لن تكون كما سبق، وعلى الرغم من عدم وضوحها بالكامل إلا أن مقدماتها تكتب يوما بعد يوم وتتشكل مع كل تطور وحدث سياسي أو عسكري تتطاير أخباره في العالم، وخاصة في بلدان الشرق الأوسط العربية منها وغير العربية.

كان لتركيا حضور لافت، فقد دخلت ولأول مرة منذ سقوط الدولة العثمانية المشهد عسكريا وسياسيا، واستطاعت أن تجد لنفسها موضع قدم في الخريطة السياسية والجغرافية والاقتصادية العالمية

وفي سردية سريعة لأبرز المستجدات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة كان ظهور إيران كدولة محورية وهيمنتها وتوسعها في أربع دول عربية، وتحولها إلى أمر واقع لا يبدو أن تجاوزها سيكون سهلا على بقية المنافسين، وبالتالي تحول آلية الصراع وسط عداء يتم الحديث عنه ويظهر على شكل رغبة إسرائيلية وأميركية في قص الأذرع الإيرانية وتقليص وجودها، وإن لم يكن إنهاءً له فعلى أقل اعتبار الحد منه ووضعه ضمن أطر وسياقات لا تشكل خطرا على إسرائيل وعلى المصالح الأميركية والغربية.

وبالتوازي مع الدور الإيراني المتواصل كان لتركيا حضور لافت، فقد دخلت ولأول مرة منذ سقوط الدولة العثمانية المشهد عسكريا وسياسيا، واستطاعت أن تجد لنفسها موضع قدم في الخريطة السياسية والجغرافية والاقتصادية العالمية، وأصبحت منافسا فعليا في العراق وسوريا وليبيا وبلدان أخرى، وهو ما من شأنه أن يغير من الحسابات ويؤسس لمشهد مغاير تماما لما كان عليه الحال قبل الربيع العربي.

وفي ظل هذه التطورات كانت الدول العربية بين محترق بلهيب الثورات ونيران الترسانات العسكرية والأنظمة الوحشية، وبين متفرج يحاول فهم السياقات القائمة باحثا عن تراتبية جديدة تبقيه بمأمن من عدوى الحراكات الشعبية، وهو الأمر الذي دفع بعض الأنظمة في نهاية المطاف لتبني نهج الثورات المضادة مؤذنا بنهاية مأساوية للربيع في بلاد العرب.

لكن أفول نجم الثورات وانحسارها لم يعد الأمور إلى سابق عهدها، بل كانت آثاره ممتدة وغير قابلة للاندثار، وكان لا بد من تغيير الحسابات من جهة وإعادة ترتيب الأوراق تارة أخرى ولا سيما بعد فترة من التشتت والعداء والقطيعة أفرزتها المواقف المتضاربة بين مؤيد وداعم لثورات الربيع العربي، وبين شريك بالقمع والجرائم والمقتلة التي ما زالت تبعاتها تتواصل حتى اليوم في بعض البلدان.

لكن يبدو أن حالة الصراع لم تورث إلا الخسارة ولم يخرج منها رابح ووسط محاولات لبعض الأنظمة العربية مواكبة التحولات الطارئة وظهور قوى جديدة على الساحة الدولية وضع شرق المتوسط أمام معادلات لم تعرف من قبل دفعت بالجميع للتفكير جديا بتصفير المشكلات، وإعادة رسم المشهد السياسي على صفحة بيضاء خالية من تبعات المواجهة والقطيعة بعد أن أدرك الجميع أن وضع قدم في مستقبل الخريطة السياسية التي ترسم في العالم لا يكون إلا بالتكتل والتجمع والاستفادة من القدرات والإمكانيات مجتمعة.

التطورات المتسارعة الأخيرة وضعت المنطقة اليوم أمام تقارب عربي تركي إيراني في خلطة تبدو غير متجانسة إنما الواقع ألجأ الجميع إليها طاويا بذلك سنوات من العداء

ملامح المرحلة الجديدة الشرق أوسطية انطلقت عبر مصالحة خليجية خليجية ثم خليجية تركية، والآن خليجية إيرانية، ثم تحول آخر أكثر أهمية في سياق البحث عن حلفاء جدد بعد أن فقدت المنطقة ثقتها بالديمقراطية الغربية الزائفة، وفي إطار محاولة الخروج من عباءة الولايات المتحدة التي فشلت خلال السنوات الأخيرة بمنع دول المنطقة من الدخول في شراكات نفطية، وكذلك لم تتمكن من إجبار الدول العربية على الانخراط في خطة السلام مع إسرائيل، وأخيرا لم تتمكن من قطع الطريق أمام التوغل الصيني في الشرق الأوسط وعقدها مجموعة من الاتفاقيات مع عدة دول من بينها السعودية أبرز حلفاء الولايات المتحدة.

التطورات المتسارعة الأخيرة وضعت المنطقة اليوم أمام تقارب عربي تركي إيراني في خلطة تبدو غير متجانسة إنما الواقع ألجأ الجميع إليها طاويا بذلك سنوات من العداء في محاولة لعبور واحدة من أكثر المراحل تعقيدا في العصر الحديث، ليعود مصطلح بريكس للظهور بشكل أقوى خارج السياق الاقتصادي الذي كان يشير إليه ويبدو أنه يخفي بعدا سياسيا أكبر وهدفا واضحا تجاه رسم نهاية للهيمنة الغربية وإعلان نهاية حقبة القطب الواحد.

ولعل تلك الخطوة تمهد لدول المنطقة ولا سيما العربية الطريق نحو مزيد من التوازن والاستقرار وخاصة دول الخليج في حال تمكنت من استعادة شيئا من قرارها ونجحت في تقريب المسافة بين السلطة والشعب عبر النموذج الصيني أو الروسي الذي يحتكر السياسية ويفتح الباب على مصراعيه أمام التجارة والاقتصاد وجميع الموارد.

وأمام تلك المعطيات والتطورات يمكن أن تعتبر القمة العربية القادمة في السعودية عنوانا أساسيا لمرحلة تغير حضاري وسياسي واقتصادي لشرق المتوسط، وربما يدعو ذلك حضورا تركيا وإيرانيا في إطار رسائل شديدة اللهجة تحمل تمردا على نهج سياسي غربي كبل المنطقة لأكثر من نصف قرن.