ملاحظات حول الطروحات الإصلاحيّة في الشبكات الاجتماعيّة

2019.12.02 | 18:29 دمشق

20190316_amp001_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

مناسبة هذا المقال هو الجدل، القديم /الجديد، حول نشاط شريحة من السوريين في فيسبوك وغيره من الشبكات، والذين يقدمون أنفسهم كإصلاحيين ودعاة للتغيير الاجتماعيّ، من خلال الخوض في قضايا الموروث الدينيّ والاجتماعيّ أو الحريات العامة والفرديّة وخاصّة ما يتعلّق منها بحرية المرأة. بدايةً، من الضروري التأكيد على أنّ الفكر الحرّ النقديّ والأصيل هو عماد تطوّر المجتمعات ونهوضها، وإنّ غياب هكذا فكر سيؤدي بالضرورة إلى التصحّر والجمود.

كما نعرف جميعاً، إنّ اعتماد الشبكات الاجتماعيّة كمجال عام للنشاط لم يكنْ خياراً بالنسبة لهؤلاء الناشطين، بل هو خيار شبه إجباري -كما هو الحال في مجال النشاط السياسيّ- بسبب استمرار احتكار السلطة في سوريا للمجال العام وإقفاله بوجه الجميع، وكذلك استغلالاً مشروعاً للحضور الطاغي لهذه الشبكات في حياة السوريين أينما كانوا منذ عام 2011.

سأحاول طرح الأفكار في ملاحظات متتالية، والتي قد تأخذ أحياناً شكل تساؤلات هدفها تحفيز النقاش والتفاعل بشكل أساسي، أكثر منه تقديم نقد ونصائح مجانية لتجارب هؤلاء الناشطين وطروحاتهم، وذلك رغبة في الابتعاد قدر المستطاع عن موجات الاستقطاب (مع أو ضد) التي تستأثر بالنقاشات من هذا النوع:

الملاحظة الأولى، تتعلّق باعتماد أسلوب الصدمة في الطرح، أو "كسر المحرمات" كأداة لتنبيه أفراد المجتمع وحثّهم على التغيير والإصلاح. من المهم الإشارة هنا إلى أن هذه الملاحظة لا ترتبط بموضوع الحرية الشخصية وخيارات الفرد بالتعبير الحر عما يريده بالطريقة التي يراها مناسبة، بالرغم من أنه موضوع يثير الشهيّة للكتابة في ضوء ما منحته الشبكات الاجتماعيّة لمستخدميها من مجال مفتوح دون ضوابط كافية، للتعبير عن ذواتهم بطريقة انهارت فيها الكثير من قيّم وأخلاقيات التواصل تحت يافطات الحريات الفردية وحرية التعبير. وإنّما الملاحظة متعلقة بنجاعة أسلوب الصدمة وفعاليته في سياق الدعوات للتغيير في المجتمع؟

اللجوء إلى هذا التكتيك الإعلاميّ فيما يخص القضايا الاجتماعيّة والدينيّة الموروثة والمترسخة عبر أجيال متعاقبة، هو أمر في غاية الحساسيّة، أشبه بالسير في حقل من الألغام، وغالباً ما يؤدي تكراره والإفراط فيه إلى نتائج معكوسة

صحيح أنّ اعتماد أسلوب الجذب والإثارة للفت الانتباه نحو موضوع أو قضية ما، أصبح وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها في عالم الشبكات الاجتماعيّة، بحكم لا محدودية العرض من حيث تنوّع الشبكات والمواضيع والقضايا المطروحة. إلا أن اللجوء إلى هذا التكتيك الإعلاميّ فيما يخص القضايا الاجتماعيّة والدينيّة الموروثة والمترسخة عبر أجيال متعاقبة، هو أمر في غاية الحساسيّة، أشبه بالسير في حقل من الألغام، وغالباً ما يؤدي تكراره والإفراط فيه إلى نتائج معكوسة. ويتعلق الموضوع هنا بأمرين مهمين لا يتم الانتباه لهما غالباً من قبل أصحاب الطروحات الإصلاحيّة: تنوع الجمهور المتلقي، وعتبة الاستقطاب الحادة القائمة مسبقاً في المجتمع حول القضايا الاجتماعيّة والدينيّة.

إنّ تنوّع الجمهور المتلقي في الشبكات الاجتماعيّة لا يمكن أبداً مقارنته بجمهور قراء الكتب أو الصحف المطبوعة أو الإلكترونية، ولا حتى بجمهور الراديو والتلفزيون. فنحن في الشبكات أمام كثافة وتنوّع حادّ في الجمهور (العمر، الجنس، المكان، الظروف الاجتماعية وغيرها)، وهو أيضا جمهور توّاق لتأكيد ذاته والتعبير عنها. لذلك فإن التفاعل مع أيّ محتوى سيكون بالضرورة تفاعلاً متنوّعاً وغيرَ منضبط، فما بالك إذا كان هذا المحتوى يمسّ خطوطاً حمراء اجتماعيّة مثل (الإلحاد، ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج، الحجاب، المقدسات الخ..). فالسؤال المفترض أنْ يجيب عنه أصحاب الطروحات الإصلاحيّة في المجتمع قبل الشروع بطرح أفكارهم هو: ما الغاية المرجوّة من وراء الفعل أو الخطاب الصادم؟  فإذا كانت هي شدّ الانتباه حول قضية ما وتحريض الجمهور على فتح نقاشات مفتوحة حولها، فهنا من المهمّ، ومن باب أولى، أنّ يكون صاحب الطرح ذا خبرة ومعرفة بالقضيّة المطروحة ومستعداً للخوض فيها بنفس طويل، وجاهزاً، نفسياً ومعنوياً لامتصاص الضربات التي ستوجه له تباعاً. بكلمات أخرى أكثر تبسيطاً، إذا كانت الصدمة هي مجرد تكتيك إعلامي، فمن المهم أن يكون ظهرها محميّاً بذخيرة معرفية وخبرة تواصلية تأخذ بعين الاعتبار التنوّع الحاد في عينة الجمهور المتلقي من جهة، وشبكة الدلالات والرموز الاجتماعيّة من جهة أخرى.

إذا كانت الصدمة هي مجرد تكتيك إعلامي، فمن المهم أن يكون ظهرها محميّاً بذخيرة معرفية وخبرة تواصلية تأخذ بعين الاعتبار التنوّع الحاد في عينة الجمهور المتلقي من جهة، وشبكة الدلالات والرموز الاجتماعيّة من جهة أخرى

أما إذا كان الطرح الصادم يشكل بحدّ ذاته استراتيجية التغيير، فهذا سيقود في أغلب الأحيان إلى تحفيز حالة الاستقطاب المشتعلة مسبقاً، ومنذ زمن طويل، حول هذه القضايا الحساسة. وسيضاف إليها في عالم الشبكات الاجتماعيّة عامل الشخصنة، حيث يصبح صاحب الطرح نفسه محطّ استقطاب، بين شد وجذب، يطغى غالباً على الموضوع المطروح. وهذا سيؤدي بالنتيجة إلى أنّ رفع عتبة الصدمة وتكرارها سيزيد من بناء الجدران والتمترس، دون إحراز أيّ خلّخلة أو تفكيك للبنى الاجتماعيّة المقصودة.

يبدو أنه من الحكمة الاقتصاد في اللجوء لأسلوب الصدمة والإثارة، والالتفات أكثر نحو خلق نوع من المناخات الملائمة للنقاشات والتبادلات الهادئة والعقلانية حول هذه القضايا.

الملاحظة الثانية، وهي مرتبطة بشكل وثيق بسابقتها، ومتعلّقة بخاصيتيّن أساسيتيّن من خصائص التواصل في الشبكات الاجتماعيّة: السرعة الهائلة، وكسر الحواجز الجغرافية. وقد تمّ استثمار هاتين الخاصيتين إلى أبعد حدّ في الاتصال السياسيّ (الترويج للمرشحين، كسب الناخبين، تشويه صورة الخصوم الخ..)، وفي التسويق التجاريّ وآخر تجلياته ما يُعرف بالمؤثرين Influncers، الذين يروجون لسلع وماركات عبْر الشبكات الاجتماعيّة، رأسمالهم في ذلك هو عدد المتابعين لهم، نتيجة لكاريزمة أو شهرة أو مكانة اجتماعيّة أو غيرها. في كلا الحالتين، يتم الاعتماد على الضوضاء البصرية والسمعية، الإبهار، التشويق، الإثارة والصدمة بحثا عن تغيير سريع وآنيّ في سلوك الجمهور المستهدف.

يبدو أن هاتيّن الخاصيتيّن (السرعة وتطويع المسافات) للتواصل في الشبكات الاجتماعيّة أعطت انطباعاً مزيفاً بأنّ المجتمعات أيضاً تتغير بنفس السرعة والديناميّة، وأنّ البنى التقليديّة ممكن أنْ تتهشّم وتتفتت بمجرد تعرضها لبعض الصدمات في المجال الافتراضي. ولكن، واقع الأمر وتجارب الشعوب تؤكد أنّ التغيير الاجتماعيّ هو عمليّة أكثر تعقيداً وتشعّباً، وتأتي بطريقة تراكميّة وبطيئة ونتيجة لتضافر جهود جماعيّة، وتحتاج قبل كل شيء إلى مناخات سياسيّة وظروف اقتصاديّة ملائمة.

وهذا ينقلنا إلى الملاحظة الثالثة، والمرتبطة بالفصل بين ما هو اجتماعيّ وما هو سياسيّ، بمعنى أنّ دعوات التحرر والتغيير هذه تركز غالباً على القضايا الاجتماعيّة والحريات الفرديّة دون الأخذ بعين الاعتبار استعصاء ملف الاصلاح السياسيّ في سوريا. فهل من الممكن حقاً النهوض بعملية إصلاح اجتماعيّ على نطاقات واسعة بصرف النظر عن المنظومة السياسيّة القائمة وآثارها، السابقة واللاحقة، على المجتمع؟ أليس هناك نوع من التلازم الشرطي بين الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ على حدّ سواء؟

فهل من الممكن حقاً النهوض بعملية إصلاح اجتماعيّ على نطاقات واسعة بصرف النظر عن المنظومة السياسيّة القائمة وآثارها، السابقة واللاحقة، على المجتمع؟ أليس هناك نوع من التلازم الشرطي بين الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ على حدّ سواء؟

ما أؤدّ التأكيد عليه هنا: هو أنّ المنظومة السياسيّة القمعيّة ليست ذات اتجاه واحد (قمع السلطة للمواطنين) بلْ هي منظومة متعديّة (أو مرض معدي)، يمارس فيها الجميع القمع كلُّ حسب موقعه ودوره (الأب، الأم، الأخ، عنصر الأمن، رب العمل، المدرس، رجل الدين الخ..). لذلك يغدو من الصعب تفكيك هذه المنظومة القمعيّة من خلال التركيز فقط على المسار الاجتماعيّ أو حتى الاقتصاديّ، وإهمال المسار السياسيّ. ورأينا كيف فشلت التجارب السابقة، إنْ كان في سوريا أو في بلدان عربيّة أخرى (كمصر وتونس) والتي روّجت فيها الأنظمة القائمة لفكرة أنّ المشكلة الأساسيّة في بلدانها هي ذات طابع اجتماعيّ/ثقافيّ واقتصاديّ، محاولة التعمية على القضيّة الأهمّ المتعلقة بالإصلاح السياسيّ وهدم المنظومة القمعية. وقد نجح حقاً هذا الطرح بفرض نفسه بشكل أوسع بعد أنّ تبنته غالبية الدول في الغرب من زاوية مصلحيّة صرفة (معادلة: استقرار سياسيّ + لبرلة اقتصاديّة= ديمقراطيّة). ولكن ما هي النتيجة النهائية لهذه المعادلة؟ ألم تنحدر هذه الدول نحو مزيد من القمع والفساد والفقر؟

وبالعودة إلى الواقع الآن في سوريا، حيث السلطة القائمة تستثمر من جديد في المقولات "الثقافوية؛ التي تعيد مآلات الحال اليوم إلى بنية المجتمع وثقافته المتخلّفة فقط، متناسية مسؤوليتها ودورها الأساسيّ في دوام هذا الحال. أمام هذا الواقع، تبرز أهميّة معرفة وجهة نظر وموقف أصحاب الطروحات الإصلاحيّة في المجتمع (وهم أصلاً من المنتفضين ضد المنظومة السياسيّة أولاً) من الاستغلال الحالي والمستقبلي لطروحاتهم في خدمة بروباغندا السلطة القائمة؟ يبدو أنه بقدر ما يحتويه هذا التساؤل من سخرية قدرية مفرطة، بقدر ما يمكننا الخوض فيه والإجابة عنه، من التماس أهميّة تكامل مسارات الإصلاح جميعها، وعلى رأسها المسار السياسيّ.

أخيراً، أختم بتساؤلين منبثقين من معاينة غالبية (وليس كل) طروحات التغيير الاجتماعيّ الشبكات الرقميّة:

ألا يوجد هناك نوع من الانتقائيّة والاصطفاء في اختيار القضايا وطريقة تناولها ؟ بمعنى آخر، ألا يبدو أنّ هناك في نفس الوقت تركيزاً وإهمالاً، إبرازاً وإخفاءً لقضايا اجتماعيّة بعينها على حساب قضايا أخرى؟

ألسنا في بعض الأحيان أمام شكلٍ مبالغٍ فيه من أشكال جلد الذات، الذي ينعكس غالباً من خلال تقديم صورة قاتمة وسوداء لمجتمعاتنا، مقابل المبالغة في الانبهار والإعلاء من شأن بعض المجتمعات الأخرى؟

كلمات مفتاحية