ملاحظات أساسية حول كارثة مرفأ بيروت

2020.08.15 | 00:13 دمشق

unnamed.png
+A
حجم الخط
-A

لا يمكن منهجياً مقاربة كارثة مرفأ بيروت كما التطورات والمستجدات في لبنان بشكل عام دون التطرق إلى محددات أساسية تساعد على فهم أو على الأقل وضع الأحداث في سياقاتها التاريخية السياسية الفكرية وحتى الواقعية الصحيحة بما فيها طبعاً كارثة أو مأساة الميناء.

أول المحددات يتمثل بقتل منظومة الاستبداد العربية للنموذج الديموقراطي اللبناني مع الضغط الذي خلقته التجربة الناصرية عربياً ولبنانياً، طبعاً بما فيها الوحدة - الصحيحة كفكرة - مع سوريا التي أجهضت التجربة الديموقراطية المحلية الوليدة مع دستور- 1950 - مدني ديموقراطي موصوف بعد الاستقلال، ومهدت للنظام الاستبداد البعثي، ثم الأسدي وخلقت ضغوطا هائلة على الجار اللبناني الديموقراطي أيضاً للتساوق مع الشعارات التي رفعها النظام الناصري وأنظمة الاستبداد العربية المتماهية معه.

فشل منظومة الاستبداد العربية في إزالة آثار النكبة الأولى 1948، بل وتسببهم بنكبة ثانية 1967، أدى إلى تغييرات استراتيجة منها إلقاء عبء تحرير فلسطين على لبنان البلد الصغير والديموقراطي عبر اتفاق القاهرة – 1969 - وتشريع وجود المقاومة الفلسطينية فيه، وهو ما أدى مباشرة إلى الحرب الأهلية – 1975 - التي استمرت لعقد ونصف وتم إنهاؤها رسمياً من خلال اتفاق الطائف – 1990 - الذي انقلب عليه نظام الأسد الأب صباح اليوم التالي، لكن مع توازنات معقدة ومركبة سعت للاحتفاظ بالطابع الديموقراطي العام للبنان وتوازناته الطائفية والسياسية، وانفتاحه على العالم الخارجي، غير أن سياسات الأسد الابن الكارثية المتراكمة من قبيل التمديد للجنرال إميل لحود – 2004 - إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم عسكرة حزب الله وتحويله إلى جيش بالمعنى الدقيق للكلمة أدت إلى انهيار شبه تام للنظام الديمقراطي، كما كسرت التوازنات الطائفية والسياسية مهيئة الظروف أمام الاحتلال الإيراني للبلد.

ثاني المحددات يتمثل إذن بخضوع لبنان للاحتلال الإيراني، والذي كان بمنزلة رد على إخراج نظام الأسد الأب وإنهاء وصايته على البلد بعد اغتيال الرئيس الحريري – 2005 - هذه الحقيقة لا يمكن إنكارها أو الهروب منها كون الوقائع تؤكدها على الأرض من خلال هيمنة ذراع إيران "حزب الله" الكاملة والصارخة على مفاصل السلطة وإفراغ النظام المؤسساتي الديموقراطي من محتواه، إضافة إلى التصريحات الإيرانية المتبجحة التي تعتبر بيروت واحدة من العواصم العربية المحتلة من قبل إمبراطورية الدم والوهم الفارسية، مع إشادات إيرانية علنية بنجاح حزب الله على عكس ما فعل ويفعل نظراؤه في الحشد الشعبي بالعراق، كما قال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف حرفياً.

المحدد الثالث والمهم جداً لفهم وتحليل كارثة المرفأ تحديداً يتمثل بالصفقة التي أوصلت ميشال عون إلى الرئاسة، والتي تضمنت تضحيته بروح لبنان وطبيعته الديموقراطية الليبرالية المنفتحة، والقبول بسيطرة حزب الله على البلد مقابل ترؤس الجسد أو الإطار الفارغ والمجوف للدولة الللبنانية. يبدو عون هنا أقرب إلى رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي منه إلى حيدر العبادي، وحتى إلى عادل عبد المهدي، وهو أي عون قبل ما رفضه الرئيس العراقي برهم صالح لجهة تعيين رئيس وزراء ضد إرادة الجماهير الغاضبة الثائرة والمنتفضة في الشارع.

عون وصل إلى السلطة-2016- بعد فراغ سلطوي امتد لسنتين تحت ضغط حزب الله وسلاحه وفرضه بالقوة القهرية معادلة عون أو لا أحد في إجهاض صريح للروح الديموقراطية والاصطفافات الوطنية الحرة لاختيار الرئيس، وخلال هذه الفترة تحديداً تمت مصادرة السفينة - الكارثة التي حملت شحنة نترات الأمونيا - وتخزينها في المرفأ دون الحد الأدنى من إجراءات السلامة مع تعرضها للسرقة طيلة السنوات الماضية، كما قال تقرير رسمي لجهاز أمن الدولة.

الآن فيما يتعلق بكارثة المرفأ وبناء على المحددات السابقة فقد دخلت المواد الخطرة القابلة للاشتعال والانفجار زمن الفراغ السلطوي وخزّنت في المرفأ الخاضع تماماً لسيطرة حزب الله، كما المطار والمعابر الحدودية الأخرى، وتمت سرقتها طيلة الوقت واستخدامها في جرائم الحرب بسوريا حماية لنظام الأسد، كما في عمليات الحزب الخارجية في قبرص وبريطانيا وتايلاند، والتي تندرج ضمن سياق هروب جنوني إلى الأمام بحجة المقاومة ومواجهة إسرائيل للتغطية على سلاحه وهيمنته الداخلية، وانخراطه في حروب إيران الخارجية.

في تناول كارثة المرفأ لا يمكن الحديث عن الإهمال والفساد بشكل عام وضبابي كونهما نتاجا طبيعيا لانهيار البلد وفقدان هيبته وتحوله إلى دولة فاشلة، كما قال وزير الخارجية المستقيل ناصيف حتّي، وهذا ناتج مباشرة عن سيطرة حزب الله بشكل غير ديموقراطي وغير شرعي، وهو فوق السلطات التشريعية والتنفيذية، كما قال عن حق الشيخ صبحي الطفيلي، علماً أنه هيمن كذلك على السلطتين الثالثة والرابعة عبر تحكمه التام بالقضاء وأحكامه وترقياته وتضييقه المستمر على الحريات، والتنكيل المعنوي بكل معارضيه مع التهديد حتى بالإيذاء الجسدي "تحسسووا رقابكم" كما خاطبهم ذات مرة أحد الناطقين الإعلاميين باسم الحزب والمعطيات السابقة كلها تبدت في حملات التخوين والقمع النفسي والجسدي تجاه المتظاهرين الثائرين ضد الواقع البائس الذي أوصل الحزب البلد إليه وعلى كل المستويات لدرجة أنه بات دولة مفلسة معزولة ومنبوذة تقريباً.

فيما يخص الحزب أيضاً كان لافتاً رفض اتهام إسرائيل يالمسؤولية عن الكارثة، رغم أن عديدين فعلوا ذلك في إسرائيل وخارجها، بل حتى بدا الحزب وكأنه سيخرج عن طوره لتبرئتها. هذا مريب ويثير الشك ويتناقض مع كل دعاية الحزب وشعاراته، خاصة مع شهادات سكان منطقة المرفأ عن سماع انفجار وتحليق طائرات في الجو قبل الكارثة، وحتى الشهادات العلمية عن استحالة أن يكون كل هذا الدمار فقط بسبب نترات الأمونيوم خاصة مع سرقتها طيلة السنين وتبقّي جزء بسيط منها وإنما نتيجة انفجار مستودع أسلحة وصواريخ للحزب سواء نتيجة سوء التخزين أو انفجار مجهول معلوم على الطريقة الإيرانية أو حتى قصف إسرائيلي مباشر.

نفي اتهام إسرائيل يأتي طبعاً لمنع النقاش الجدي عن الأسباب الحقيقية للانفجار، وتحميل الحزب المسؤولية مباشرة أو غير مباشرة، ناهيك عن الإحراج والعجز عن الرد على الهجمات الإسرائيلية رغم الحملة الدعائية الصاخبة للحزب وحشده الإعلامي.

الحزب وحلفاؤه رفضوا كذلك التحقيق الدولي ما يعني أن لديهم ما يخفونه، وبالتأكيد فإن الطبقة السياسية التي خلقت البيئة المناسبة للكارثة شكلاً ومضموناً لن تكون قادرة على التحقيق النزيه والجدي فيها.

فيما يتعلق بالكارثة بدا لافتاً الموقف الفرنسي الانتهازي والمنافق، حيث سعى الرئيس إيمانويل ماكرون لتجيير الكارثة لصالحه وإعادة نفوذه وفرض ما تشبه الوصاية حتى مع بقاء الطبقة السياسية نفسها أسيرة ورهينة حزب الله، ووصلت الوقاحة الفرنسية إلى حد الضغط لرفع العقوبات عن حزب الله المتسبب الرئيسي في الكارثة، وحتى عن مشغليه في إيران نفسها علماً أن ماكرون يبدو مهووساً بمعاداة الحضور التركي، ويسعى لتجييش حلفاء إيران إلى جانب فرنسا في لبنان، كما هو حاصل فعلاً في ليبيا وسوريا والمنطقة بشكل عام. الكارثة كانت مناسبة لتأجيج الغضب الشعبي ضد الحزب والطبقة الرهينة وخريطة الطريق التي طرحها الثائرون المنتفضون هي الصحيحة والناجعة والواقعية، وتحقق البند الأول منها باستقالة حكومة الدمية حسان دياب، ولا بد من الإصرار على تنفيذ بقية البنود عبر تشكيل حكومة تكنوقراط من شخصيات مستقلة كفؤة ونزيهة تشرف على وضع قانون انتخابي عصري لا طائفي بدلاً من القانون الأعور الذي فرضه حزب الله بالقوة أيضاً، والذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة على طريق إزاحة الرئيس الكهل القابع في قصر بعبدا، الناتج عن البيئة السياسية التي أوجدها حزب الله تمهيداً لإزالتها نهائياً.

عموماً لا يمكن تجاوز الكارثة التي دمرت نصف بيروت مع مئات الشهداء وآلاف الجرحى وخسائر بمليارات الدولارت في دولة مفلسة وفاشلة أصلاً. الجماهير الثائرة ستفرض إرادتها ولو بعد حين، وستنهي سيطرة حزب الله على البلد رغم ترسانة سلاحه الهائلة التي يستخدمها "خدمة لمشغليه" ضد الشعوب الثائرة في سوريا ولبنان والعراق واليمن، كما قال عن حق نائب الأمين العام السابق الحزب الشيخ صبحي الطفيلي، ورغم النفاق الفرنسي الساعي إلى إعادة الوصاية الاستعمارية بإصلاحات تجميلية مع بقاء الطبقة السياسية المسؤولة عن الانفجار، كما انهيار وإفلاس البلد.