مقتل سليماني ليس جعجعةً بلا طحين

2020.01.21 | 23:13 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

رحل الرجل الذي توج الحقبة العشرية الأخيرة في سوريا والعراق. الرجل الذي تماهى مع ذكريات القتل الجماعي المجاني، لكل ما طال نفوذه ووسع صلاحياته وامتدت أياديه. رابوع الجرائم الشاملة، الذي كانت مسنناته ومفرمته البشرية تفرم كل شيء أمامه، مستخدمةً في ذلك نظام العراق ونظام الأسد، (اللذان يشبهان كل شيء إلا أن يوصفا بـ "النظام")، وميليشيات الحشد الشعبي وتنظيم "الدولة"، وبقية كوابيس تلك الأراضي والمدن، المتلطية خلف الحدود في اليمن ولبنان، كحزب الله والحوثيين.

قاسم سليماني ماكينة قتل وتدمير وإفناء. تعمل لصالح الأساطير الدينية والأوهام الإمبراطورية. ويشتغل تحت ذرائع تحرير القدس والوصول إليها. القدس التي تاهت خيوط الوصول إليها لدى سكان هذا الشرق الأوسط، وتحيّرت

ألقى الرجل باقتصاديات بلاده وسمعتها ومكانتها إلى التهلكة، وساعد طوال فترة صعوده، بكل راحة ضمير، في صناعة جيوش، لا وظيفة لها سوى قتل المدنيين المسالمين

أجيال متلاحقة؛ أين تقع هذه القدس؟ وماذا تعني؟ ومن أين يبدأ طريقها، وأين ينتهي الوصول إليها؟ وكم هي كلفتها النهائية من الحجر والبشر ولحوم القرابين الآدمية والضحايا.؟

ألقى الرجل باقتصاديات بلاده وسمعتها ومكانتها إلى التهلكة، وساعد طوال فترة صعوده، بكل راحة ضمير، في صناعة جيوش، لا وظيفة لها سوى قتل المدنيين المسالمين الأبرياء، وقتل بعضها لبعض. ليس أولها الميليشيات الطائفية في العراق وسوريا، ولا آخرها تنظيم الشيطان ـ داعش ـ في العراق وسوريا. ويكفينا أن نذكر ونتذكر حتى هذه اللحظة، بأن خسائر العراق بعد هجوم تنظيم "الدولة"، قد فاقت أكثر من 500 مليار دولار. وأنها سرقت، بتخطيط وغطاء من سليماني، وتسهيلات من صبيانه في العراق، وعلى رأسهم المالكي، أكثر من خمسين طناً من الذهب من البنوك العراقية. كما تم تدمير أكثر من 147 ألف منزل في العراق، (حسب بعض مراكز الأبحاث)، منها 40 ألفاً تم تدميرها بالكامل. وما ببعيد عن ذاكرتنا تسليم أربع فرق عسكرية لأسلحتها الثقيلة، لتنظيم "الدولة" في الموصل، وبأوامر مباشرة من المالكي، (واجهة قاسم سليماني في العراق).

وبحسب تقرير منظمة الفاو، فإن التنظيم دمر أكثر من 40% من زراعة العراق، وتعطلت الحياة الزراعية لحوالي 12 مليون عراقي. كما بلغت قيمة الأضرار في البنى التحتية للعراقيين، أكثر ما قيمته من 100 مليار دولار، وهي تشمل الأضرار في عدد من القطاعات، أهمها البنى الاقتصادية العامة والتعليم والصحة.

كان تنظيم "الدولة" يحتل حوالي 33 بئراً نفطياً رئيسياً في كامل العراق. عوائدها اليومية تصل إلى مليون دولار يومياً. وكانت تنقل هذا المخزون النفطي، وتبيعه جهاراً نهاراً وفي وضح النهار. وتحت سمع وبصر العالم، ومجاهر الرقابة الجوية، التي كانت تسطو على كل ما يتحرك على الأرض، وترصد وتصور كل شيء، والتي كان الأمريكان هم المتحكمون بها عبر الأقمار الصناعية، وطائرات المراقبة المختلفة.

وليس متاحاً لنا اليوم، أن نستعرض ما تعرضت له سوريا حتى هذه اللحظة، بسبب ميليشيات سليماني وتنظيم "الدولة". كما أنه يصعب أن نعيد رصد وتقييم الانحطاط العام، والآثار النفسية والمعنوية والفكرية، التي خلفتها الحرب أو خلفها سليماني أو كلاهما، عموماً بين البلدين سوريا والعراق، ولا مستويات الإبادة السياسية والمجتمعية التي تعرض لها الشعبان في كلا البلدين.

لم يعد ثمة ريب اليوم، بأن تفسير هذا الخراب الشامل، لا في سوريا والعراق فحسب، بل حتى في بلدان كثيرة في الشرق الأوسط، أكثرها قد لا تكون مرت بنفس ظروف التدمير الاقتصادي والتفتيت السياسي للدول المحيطة بإيران، توصلاً ومآلاً لصناعة دول فاشلة يحكمها الخراب العام؛ سياسياً واقتصادياً وبشرياً وحضارياً بالمعنى الشمولي. وبعثرة وتلاشي كل طاقتها المؤسِسة والممكنة، ومقتلة السكان وتهجيرهم كما حصل في سوريا والعراق، وإنما قد تكون الكوارث ـ في بلدان أخرى طالتها أنياب سليماني وأظافره، كاليمن ولبنان ـ موازية لما حصل في البلدين الأتعسين حظاً والأنكدين قدراً، ليس بأقل كارثية. وإن كانت تجري تلك الحروب بصمت، ودون انشداد اهتمام كما حصل في البلدين الجارين.

فحجم الانتكاس الاقتصادي، والفساد والتدهور الحاصل في بلدان مثل إيران والسعودية ومصر وليبيا ولبنان، قد لا يقل من حيث النتيجة عن البعثرة والتلاشي الذي شهده البلدان، وما يزال عداد الانهيار يسير منتظماً بتسارعه حتى اليوم. وفاتورة الشر التي كان يتحكم بها سليماني، يُتاح ويصح فيها، أن يُحصى منها ويُعدد بعضها، ويكاد يصعب أو يستحيل أن يحاط بها كلها.    

بعد كل هذا الانقسام في الرأي حول سليماني، يجدر القول بأن من لم يوحدهم

قلة قليلة اليوم تعد خاسرة من إزاحة هذا الإرهابي المتشدد قاسم سليماني، ومن تغييبه عن مشهد وملفات الشرق الأوسط المأساوية المحزنة

مقتله، لن يوحدهم دينٌ ولا دنيا، ولن توحدهم جغرافيا ولا تاريخ، ولن توحدهم أعراقٌ ولا أصول، ولا ضمائر ولا مصالح ولا سياسة. بل ويصح القول كذلك، بأن الضياء والنهار، يحتاجان إلى دليل، ما تباينت الآراء واختلفت حول دور هذا الرجل.

قلة قليلة اليوم تعد خاسرة من إزاحة هذا الإرهابي المتشدد قاسم سليماني، ومن تغييبه عن مشهد وملفات الشرق الأوسط المأساوية المحزنة. ولكن الكثرة سوف تكون مستفيدة من قتله بكل تأكيد. ليس أولهم ولا آخرهم التيار الإصلاحي في إيران الذي يتعاون سراً مع الإدارة الأمريكية الحالية، ويشجع إدارة ترمب على التشدد في كل الملفات، خاصة العقوبات الاقتصادية، تمهيداً وتلييناً لعظام هذا النظام، للتوصل إلى كسره وتحطيمه.
وليس أولهم ولا آخرهم الإدارة الحالية في البيت الأبيض، والتي بدأت تسعى لتحضير فوز مضمون للجمهوريين على الديمقراطيين، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، نهاية هذا العام. مستبقةً وسابقة في تصفية البغدادي، زعيم تنظيم "الدولة"، ولن يكون سليماني هو آخر تحضيرات مفاجآتها أو برامجها الانتخابية المقبلة خلال الشهور القادمة.

ولا كذلك سيكون أول المستفيدين أو آخرهم، محور العرب المتدخلين في كل شيء، كالسعودية وقطر والإمارات ومصر، والفاشلين بالطبع في كل المحاور التي تدخلوا فيها، وكل وطيس حاولوا أن يشعلوا ناره أو يطفئوها، فما أجدوا فتيلاً ولا انتصروا، ولا أفادوا ولا استفادوا، إلا اللهم في إهدار المال، في سبيل توسعة ومد رقعة التخريب والتفشيل في هذا الشرق الأوسط المشتعل، وإطالة عمرها والاعتناء بها في ريعان الفوضى الشاملة وشبابها.
لن أتجاهل استفادة بوتين وروسيا من قضية التخلص من سليماني. فقيصر روسيا الجديد يسعى بكل قواه للتمدد حيث يتقلص نفوذ إيران ومجانينها، وهو يعمل بدأب لتقليم أظفار رجالاتها، المحسوبين عليها في سوريا، وعلى رأسهم ماهر الأسد. كما تسعى روسيا إلى طي ملفات الحرب بطي صفحة أكبر الرؤوس العارفين بملفاتها القذرة، والضالعين شركة معها في تلك الملفات، عبر ميليشيات الحرس الثوري التي كان يقودها سليماني، وسوف يظل يقودها فترة من الزمن، حتى وهو تحت صفاح قبره كما أحسب.