مقتل البغدادي ينشّط سوق المؤامرة

2019.11.03 | 13:49 دمشق

image.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن الأحد الأخير من شهر تشرين الأول الفائت يوماً عابراً لدى الكثيرين في أنحاء مختلفة من العالم، وفي سوريا خصوصاً، عند جمهور ثورتها بالتحديد. ففي الليلة الطويلة السابقة أخذت التسريبات تتوالى عن عمل كبير أنجزته قوات أميركية خاصة في قرية باريشا بريف إدلب. ولم يكد الصباح يثبّت حضوره حتى كان الخبر شبه معروف، وهو قتل أبي بكر البغدادي، زعيم «الدولة الإسلامية» (داعش). وإن ظل الأمر بانتظار التأكيد النهائي الذي احتكره الرئيس الأميركي دونالد ترمب بطريقته الاستعراضية المعهودة.

لم تأتِ أهمية الخبر من شدة تأثيره على مجريات الأحداث، بعد أن أصبحت «الدولة» أثراً بعد عين، وانهارت مقوماتها، وقُتل جنودها أو أصيبوا و/أو سجنوا، وبعدما باتت مسألة الوصول إلى رؤوسها قضية وقت. بل جاء الاهتمام للخبر من طرف سوريين، ليسوا مؤثرين في الواقع كذلك، بسبب أنه يفتح باباً واسعاً لممارسة هواية عريقة ومتجددة هي «التحليل السياسي» في يوم العطلة الطويل، بعدما ضبطت الحياة في الملاجئ الأوربية والمهجر التركي حياة الملايين منهم وفق هذا الإيقاع، فضلاً عن ملايين أخرى في المناطق المحررة تعيش، في مدن وقرى ومخيمات الشمال السوري، ما يشبه عطلة دائمة بانتظار المجهول.

لنفتح الموبايل إذاً، ولنحضّر دلاءنا لنسهم بحصتنا مع الخائضين على وسائل التواصل الاجتماعي.

«مسرحية مكشوفة»

وهي أسرع ردات الفعل وأكثرها انتشاراً على الإطلاق. «أميركا تكذب». هكذا ببساطة، أما لماذا وكيف فهذا ليس مهماً! ومن هي «أميركا» التي تكذب؟ بعدما تبين لهؤلاء المعلّقين أنفسهم مدى تعدد وتضارب الأجهزة الأميركية خلال مناسبات سورية عديدة، واختلاف الرأي بينها حول الكثير من المسائل أثناء إدارة ترمب. يجب أن نمشي خطوة إلى الأمام لا يهتم بها معلّقونا، وهي البحث عن الآلية التي يمكن أن يجري عليها هذا «الكذب». هل يراسل البيت الأبيض وزارة الدفاع الأميركية ووكالة مخابراتها المركزية بعنوان «سري للغاية: حول مسرحية قتل البغدادي»؟ هل يجلس كبار المسؤولين هؤلاء، في الصورة التي نُشرت لاحقاً وهم يراقبون العملية، أمام شاشة فارغة على سبيل الخداع؟ ماذا عن مئات المشاركين في العملية؛ على الأرض وبالدعم اللوجستي والأعمال المكتبية؟ هل هم داخلون في الكذبة أيضاً أم مخدوعون مثلنا؟ ما الذي سيبقى من وثائق الموضوع في هذه المؤسسات بعد أن يتقاعد موظفوها الكبار هؤلاء بعد سنوات؟ وكيف يمكن إقناع أجيال ستخلفهم بالحفاظ على «السر»؟!

أليس الاقتناع بأن دولة عظمى تمكنت من القضاء على زعيم إرهابي لتنظيم متآكل، بعد تتبعه لأعوام، أكثر سهولة؟!

اللافت أن روسيا، بدافع مناكفة أميركا ومماحكتها على الأرجح، لم تستفد من هذا «العرض» الذي قدّمه الرئيس «التاجر» ترمب

إمعاناً في الغرابة سيسلّم معظم المنكرين والمشككين والمتذاكين بمقتل البغدادي، بعد أيام، عند بث تسجيل صوتي منسوب إلى داعش، يعترف بموت «الخليفة» ويعلن تنصيب آخر، رغم أن تزوير بيان كهذا، صدر بلسان مجهولٍ بعد أن لحق ناطق «الدولة» الرسمي بأميره بعد أيام، أمرٌ في غاية اليسر قياساً باختراع العملية من أصلها في الولايات المتحدة! تغيب القدرات «التحليلية» التآمرية هنا فجأة، ويُعتمد البيان بشكل نهائي!

«لماذا الآن؟»

وهو سؤال «تاريخي» آخر يصاحب كل خيالاتنا وهواماتنا عن أي مؤامرة تسوّلها لنا أنفسنا. وقد علّم «التحليل السياسي» الرث، الذي تعمّمه الفضائيات، جمهورها أجوبة نمطية مريحة تنفع للاستخدام في أي مناسبة مشابهة؛ مثل أن رئيس الدولة الفلانية «يهرب من مشاكله الداخلية» بافتعال أزمة في الخارج أو حلها، أو أنه يريد رفع مستوى التأييد له بعد أن انخفض بنسبة 0,04 بالمائة خلال الأشهر الستة الماضية. وإن كان أميركياً فهو يخطط للفوز بولاية رئاسية جديدة حتى لو لم تكن الانتخابات على الأبواب. وهو ما حصل في حالتنا هذه بالضبط؛ أصبح الجميع خبراء في سير إجراءات إقالة ترمب التي دفعته، بحسب الزعم، إلى الإعلان عن هذه العملية. لن ينفع الخبر الذي انتشر منذ أيام قليلة، وبعد مقتل البغدادي، عن تصويت مجلس النواب الأميركي على المضيّ في إجراءات عزل الرئيس، في تبديد الوهم الذي يتجاهل الوقائع التي تنغّص عليه حياته.

«لماذا هنا؟»

حسناً! ربما تكون أميركا قتلت البغدادي، ولكن لماذا «اختارت» إدلب المهددة بالغزو الأسدي الروسي «مسرحاً» لهذه العملية؟! مرة أخرى لا قيمة، لدى هؤلاء المعلّقين، للمعلَن عن القضية وعن تسلسل متابعة «بطلها». المهم هو «الخفايا». فجأة يصبح وصول البغدادي إلى إحدى قرى إدلب أمراً عسيراً يحتاج إلى التفسير رغم ما يعرفه الجميع عن الفوضى هناك، وعن سهولة تزوير الوثائق، وعن تأثير المال على الحواجز البدائية.

وهكذا يجنح «العقل» التآمري إلى اختيار ما يهوى من افتراضات؛ فسواء قُتل البغدادي في وقت سابق ومكان آخر، أو أن الأمر كله «مسرحية مفضوحة»، فإن الزعم بأنه قتل في إدلب يصبّ في إطار توافقات سرية غامضة بين الدولتين الكبيرتين، تتكفل بموجبه أميركا بتوفير المبرر لروسيا لاستئناف عملياتها للسيطرة على إدلب بوصفها محضناً مؤكداً للإرهاب العالمي، مما يعطي الأمر قبولاً وتغطية دوليين.

ربما تكون أميركا قتلت البغدادي، ولكن لماذا «اختارت» إدلب المهددة بالغزو الأسدي الروسي «مسرحاً» لهذه العملية؟!!

اللافت أن روسيا، بدافع مناكفة أميركا ومماحكتها على الأرجح، لم تستفد من هذا «العرض» الذي قدّمه الرئيس «التاجر» ترمب، وأنكرت حدوث أي عملية عسكرية في ريف إدلب تلك الليلة!

مرّة أخرى لن يأبه معلّقونا... وستستمر الفرضية رغم انهيار دليلها!

ولكن من هم؟

يوحي العرض السابق أن معتنقي هذه الأوهام ومروجيها هم مجرّد لاهين متسلّين بالكتابة على فيسبوك وواتساب، في وقت مستقطع ما بين قراءة نكتة وإرسال صورة وردة. هذا صحيح إلى حد كبير، لكن مصابنا أكبر على الرغم من ذلك. فمن يراقب الفضائيات والصحف العربية الأسبوع الماضي سيسمع ويقرأ الكثير مما أوردناه من «آراء» بأقلام «محللين» معتمدين وعلى ألسنة «سياسيين» فاعلين.

لقد أفسد فضاء حزب البعث عقول السوريين أكثر مما نعتقد، سواء بسلطته القمعية التي أبعدتهم عن فهم أبسط مفاتيح السياسة وأدوات تحليلها، أو بحَوَله الأيديولوجي في النظر إلى الغرب والعالم. ومن هنا لن نستغرب أن بشار الأسد نفسه، رأس هرم سلطة القمع وكبير حراس الحوَل معاً، قال، مبتسماً، في لقائه الأخير: «لا نعرف إذا كانت العملية حقاً حصلت أم لا... هل يا ترى هو فعلاً قُتل؟ هل يا ترى قُتل ولكن بطريقة مختلفة، طريقة عادية جداً؟ أو أنه اختُطف؟ أو أنه أُخفي؟ أو أنه استُبدل بعملية تجميل؟ الله أعلم! يعني بالنسبة للسياسة الأميركية لا تختلف عن هوليوود»!