مقارنات سورية مع الحرب الأوكرانية

2022.03.07 | 06:13 دمشق

1238826293.jpeg
+A
حجم الخط
-A

يحصل أن يستخدم سوريون معارضون تعبير «سوء الحظ» ليلخصوا المسيرة المعقدة المتعثرة لثورتهم واستعصاءها الحالي بعد أكثر من عقد. كما أن الأيام القليلة الماضية شهدت مقارنات بين ردة فعل الغرب على الحرب الروسية على أوكرانيا وعلى التدخل العسكري الروسي في سوريا. ففي حين انهالت الأسلحة لدعم الحكومة الأوكرانية بشكل فوري؛ فإن الطائرات الروسية التي تقصف مناطق المعارضة السورية دخلت عامها السابع من دون محاسبة. وقد تجاوزت المقارنات موضوع سوء الحظ لتصل إلى الموازنة بين الضحية السمراء وتلك البيضاء، ولتتهم العالم بالكذب في ادعائه احترام حقوق الإنسان. لا سيما بعدما توسع الحصار الأميركي الأوروبي لروسيا ليشمل شركات ومصارف وأنظمة عالمية ورياضات...

وإن كان من الوارد استقراء بعض معالم الحظ العاثر الذي واجهته احتجاجات السوريين بالفعل، فالمصادفات السيئة جزء من التاريخ كذلك؛ فإن أغلب ما يتم اختزاله عادة تحت هذه الكلمة القدرية العريضة «الحظ» هو مما يمكن تفكيكه إلى معطيات قابلة للتعقل والفهم ولو بعد قدْر من التأمل.

مبادرة الغرب إلى الدفاع عن أوكرانيا بأشد الوسائل الممكنة، وبشكل غير مسبوق، هي دفاع عن دولة موالية وجزء شبه عضوي منه. أما السوريون فهم متفقون على مزاج معاد للغرب على العموم

فقد أصبح من المعروف، حتى لمتابعي التحليلات التلفزيونية السريعة، أن الحرب الروسية الأوكرانية قامت على فالق بين شرق بوتيني متغطرس، يمزج الستالينية بالأرثوذكسية، وبين غرب كانت أوكرانيا تتحرك باتجاه أن تكون قلعته المتقدمة على حدود روسيا، بسعيها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الناتو. ومن هنا فإن مبادرة الغرب إلى الدفاع عن أوكرانيا بأشد الوسائل الممكنة، وبشكل غير مسبوق، هي دفاع عن دولة موالية وجزء شبه عضوي منه. أما السوريون فهم متفقون على مزاج معاد للغرب على العموم، يتشابه في هذا مؤيدو النظام وجمهور الثورة. سوى أن الأخيرين مروا بأشهر قصيرة من التعويل على الغرب لإنقاذهم من المقتلة الأسدية، في أواخر 2011 ومطلع 2012، قبل أن يفقدوا الأمل بسرعة ويرتكسوا إلى خطابهم العام المألوف في انتقاد الغرب، والمؤصّل عبر الضخ الآيديولوجي لمختلف التيارات المؤثرة تاريخياً فيهم؛ الإسلامية والقومية والماركسية، وتعلن أغنيتهم الثورية «حنّا ما نحتاج النيتو».

لكن الأعمق من ذلك هو ما لم تحمله الأهازيج المعتدة، بل جملة مفتاحية وردت في الكلمة الأولى التي خاطب بها أبو محمد الجولاني السوريين، في الإصدار الذي أعلن عن ولادة «جبهة النصرة لأهل الشام»، في كانون الثاني 2012، وهي أن تداعي «المجاهدين» للتدخل في سوريا إنما جاء، بعد «نزيف الدم الهائل»، لمنافسة طلب سوري للتدخل الخارجي مما هو، في رأيه عندئذ «استعانة بالعدو الغربي للخلاص من العدو البعثي، وهي دعوة شاذة ضالة وجريمة كبرى ومصيبة عظمى لا يغفرها الله ولن يرحم أصحابَها التاريخُ». ومن هنا جاء تأسيس الجبهة لتكون «سلاح هذه الأمة في هذه الأرض، وتغني الناس بعد الله عن استنصار الغرباء القتلة».

لا يعني هذا إلقاء اللوم على متهم وحيد هو «جبهة النصرة». فالمشكلة أن الجبهة لم تصبح بطة سوداء بين القوى العسكرية المعارضة المتشكلة في ذلك الوقت، بل أصبحت «المنارة البيضاء» التي جذبت «الساحة» إلى خطابها. ومن الصعب هنا استعراض أبرز معالم هذا التأثير المتنوع على فصائل الجيش الحر الآخذة بالتأسلم، حتى ظهور داعش من قلب «النصرة» وتجاوزها بخطاب معاد كلياً للعالم، لم يمر من دون أتباع وتأثير. وقد جرى كل ذلك في وقت كان الغرب فيه يدرج هذه التنظيمات وقادتها على قوائم الإرهاب، في حين نحن نطالبه بالسلاح الذي قد يقع بسهولة في مخازن حركات معادية له بوضوح، بغرف عمليات علنية، أو شراكات سرية، طوعية وقسرية، مع فصائل من الجيش الحر، أو بالاعتداء عليها لسلبها الدعم الذي وصل إليها من الخارج.

ولا يعني هذا أننا المسؤولون الوحيدون عن سوء حظنا، وأن أحداً كان متحمساً للتدخل العسكري لصالحنا أصلاً. وقد قيل كثير عن تلكؤ الأوبامية وتقاعسها ونتائجه الكارثية. غير أن الغرب نفسه يصرّح اليوم أنه لن يتدخل مباشرة، مع إغداق الأسلحة والذخائر لسلطات يعرف أنها لن تدير ببندقيتها باتجاهه. في حين مرّت سنوات على الثورة السورية تراجع فيها علمها الأخضر وارتفعت راية العُقاب، المعتمدة لدى «القاعدة»، وإن بتدرجات مختلفة. وصار الفصيل الذي يوصف بأنه «علماني» هو البطة السوداء حقيقة، في ظل تشكيك بمشروعه و«شرعيته» وارتباطاته ونيّاته وعناصره «المفحوصين» غربياً.

طلبنا العون من «العالم» أشبه باتصالٍ آمرٍ بمطعم للوجبات السريعة، دون أن نتعهد حتى بتسديد أي ثمن

وقد أسهم ذلك، بالإضافة إلى تعدد مريع في الفصائل المعارضة، واعتداد كل ذي جعبة بطلقته، إلى استخفاف المسلحين بالمعارضين السياسيين، في المجلس الوطني ثم الائتلاف، مما أضعف موقف هؤلاء التمثيلي أمام العالم وأشاع الاستهانة بهم حتى وصلت إلى المستوى الراهن. في حين تقود أوكرانيا سلطة منتخبة تسيطر على الجبهات عبر وزارة دفاع حقيقية، ولا تبدو في أعلى هرمها معالم الشقاق كما في معارضتنا السياسية.

لقد ردد الجميع أن الدول ليست «جمعيات خيرية»، وأنها لا ترسل جيوشها لأجل «سواد عيون» أحد. لكننا لم ندرج هذه العبارات في وعينا الفاعل، وظل طلبنا العون من «العالم» أشبه باتصالٍ آمرٍ بمطعم للوجبات السريعة، دون أن نتعهد حتى بتسديد أي ثمن، مهددين في كل مرة أننا سنفضح «نفاق» الغرب وسياسته في «الكيل بمكيالين» إن لم يصل الطلب في الوقت المحدد، حاراً.

بالتأكيد هناك مؤشرات متناثرة على انحياز أبيض، حضاري وثقافي، في الغرب، غير أن ذلك لا يصنع الحروب اليوم. فالدول الغربية لا تتدخل، أيضاً، لأجل زرقة عيون أحد أو خضرتها. وهي تخوض معركتها الخاصة حين تدعم أوكرانيا بكل السبل.