مفهوم (المواجهة الكبرى) في الوعي السوري

2022.01.28 | 05:38 دمشق

791947966ead41ff934f3a13de13d2a8.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعل من أبرز معالم الفتوحات الثقافية لثورة السوريين هي اكتشافهم لزيف المعركة أو المواجهة الكبرى التي توجب عليهم – وفقاً لمنطق النظام الحاكم – أن يدفنوا جميع قضاياهم الأخرى وأن يسكتوا عن جميع ما من شأنه أن يشتت الاهتمام العام عن التركيز على القضية الأم)، بل ربما غدت أي محاولة أو مسعى، سواء أكان فرديا أم جماعياً، نحو قضايا مجتمعية أخرى، ضرباً من الخيانة وربما الغدر بالمسعى الكبير للأمة، ذلك المسعى الذي يتمثل بالتحضير للمواجهة الكبرى التي ستخوضها السلطة الحاكمة ضد أعتى قوى الشر في العالم متمثلةً بالصهيونية العالمية وجميع أدواتها في هذا الكون. وفي ظل سيادة القناعة بانتظار المعركة الحاسمة التي ستنقل السوريين من ضفة التخلف والضعف إلى ضفة التقدم والازدهار والتحرر، سكت السوريون طوال عقود - سواء بفعل الإكراه والقوة أو نتيجة قناعة ذاتية – عن الكثير مما نالهم من مهانة وإذلال وانتهاك للحريات، وحرمان  من أبسط الحقوق التي تقرّها الشرائع والمواثيق الإنسانية، ربما كان ذلك مُبرَّرا من جانب البعض، ممّن استقى وعيه وتنامى على ضخّ الإيديولوجيات التقليدية التي تؤكّد جميعها على أن بلوغ الغايات السامية للأمة – الأمم – إنما هو مشروط بالتنازل عن حاجات الأفراد مهما بدت ضرورية.

وربما ذهب كثيرون أيضاً إلى الاعتقاد بأن السكوت عن مثالب الحاكم أو السلطة مهما بدت مشينة، لهي أمر تبرّره بل يوجبه تنطّع هذا الحاكم أو السلطة ذاتها لتحقيق أهداف كبرى ذات مردود مباشر لصالح الشعب أو الأمة، ولنا في اصطفاف العديد من القوى اليسارية والقومية والإسلامية، إلى جانب نظام الأسد مثال على ذلك، وربما غدا هذا الضرب من التفكير أو القناعة الصيغة المثالية التي استثمرتها السلطة لتبرير مجمل سلوكها اللاإنساني بحق السوريين، وضمن هذا السياق الاستثماري يصبح اعتقال المواطنين لسنوات طويلة وتعذيبهم بل وتصفيتهم جسدياً، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الحياتية وإذلالهم وإخراس ألسنتهم وترويعهم وووو، يغدو جميع ذلك ضرورياً من أجل التحضير والاستعداد للمنازلة الكبرى التي سيخوضها نظام الحكم  مع إسرائيل وأمريكا والرجعية العالمية وخصوم الوحدة العربية، بل وجميع الذين يتآمرون على الحاكم الرمز للنيل من صموده وثباته.

ربما ذهب كثيرون أيضاً إلى الاعتقاد بأن السكوت عن مثالب الحاكم أو السلطة مهما بدت مشينة، لهي أمر تبرّره بل يوجبه تنطّع هذا الحاكم أو السلطة ذاتها لتحقيق أهداف كبرى

لعل أبرز ما أوضحته ثورة آذار 2011 من حقائق كاشفة للسوريين، هو أن (المعركة الأم أو المواجهة الكبرى) التي كانوا ينتظرونها، وسكتوا عن انسحاقهم طوال نصف قرن، من أجل انبثاق فجرها، لم تكن إلّا في مواجهتهم والإجهاز على ما تبقى لديهم من آمال وتطلعات ورغبة في حياة حرة كريمة، كما وجدوا أن العدو المُنتَظر الذي كانت تحشدهم السلطة لمواجهته بات الحليف الأقوى لنظام الحكم في مواجهة شعبه، ألم تكن إسرائيل الطرف الدولي الأكثر رفضاً ومقاومة لإزاحة الأسد عن السلطة؟ ما هو مؤكّد أن هذه المفارقات الصادمة لم تكن لتحصل نتيجة تبدّل في موازين القوى أو نتيجة مستجدّات جديدة دفعت السلطة إلى الاستقواء بالعدو التقليدي على عدوّ أشدّ خطورةً، بقدر ما يكمن الخلل في التفكير الذي ساق الكثيرين إلى الاعتقاد بأن فاقد الشيء يمكن أن يعطيه ثانيةً، وأن من يمارس كل أشكال الذل والهوان على المواطنين ويسلبهم أبسط حقوقهم الحياتية، يمكن أن يكون قائداً أو فاتحاً لسبل تحررهم واستعادة كرامتهم، أو أن الطريق إلى الحرية يوجب القبول بمزيد من الإذلال.

لعل الكشف الثقافي الذي أدركه السوريون، وتجسّد كملمح من ملامح الوعي الجديد للثورة، يواجه اليوم امتحاناً يبدو شديد الحساسية، إذ هل بمقدور السوريين ترجمة هذا الوعي إلى سلوك أو آليات عمل تسعفهم في استدراك الخراب الذي طال ثورتهم من جميع جوانبها؟ وفي هذا السياق لا بدّ من العودة إلى مفهوم (المعركة الأم أو المواجهة الكبرى) والتي يتفق جمهور الثورة على أنها لن تكون إلّا في مواجهة نظام الأسد (جذر المشكلة السورية) وحلفائه الدوليين، وهنا يعود الوعي الجديد إلى الانشطار مرة أخرى، فثمة من يرى أن الحفاظ على وحدة الهدف وتماسك الصف يوجب توحيد الجهود لدفع السفينة قدماً إلى الأمام، كما يوجب الابتعاد عن أي معاينة فاحصة أو نظرة إلى الخلف، بل ينبغي تجاهل أيّ نتوء في الطريق نحو الهدف مهما كان نابياً أو معيقاً، بل ربما لم يرَ أصحاب هذا الاتجاه في جميع معالم البؤس والخراب التي قوّضت ثورة السوريين سوى مظاهر عارضة لا توجب الوقوف، بل إن الوقوف عندها إنْ هو إلّا اختلاق لمعارك هامشية لا تؤدي إلّا إلى تمزيق الصف وتشتيت الهدف، ومشاغلة جمهور الثورة بمسائل لا ترقى إلى نبل مقصدهم. وفي موازاة هذا الاتجاه، ثمة من يرى أن السفينة التي تم حشرنا بداخلها قد تكاثرت خروقها، بل هي توشك على الغرق، وفي حال غرقها، سيهلك من فيها، سوى من كان يصرّ على قيادتها نحو الهلاك، إذ ربما قفز في اللحظات الأخيرة، وهرع كالبرق إلى وسائل الإعلام، ليتحدث بكل وقار ورزانة عن دور المؤامرة الكونية التي حاكها المجتمع الدولي، والتي أدّت إلى خرق السفينة وهلاكها.

ما من شك في أن مفهوم ( المواجهة الكبرى لبلوغ الهدف الأسمى) والذي يوجب – من الناحية الفكرية – إخفاء أو تجاهل مجمل التناقضات الفعلية التي تحول دون تحقّقه، إنما هو سليل منظومة الأفكار التي تنتمي إلى الطور الإيديولوجي الذي ظل تصوّره لمفهوم الدولة لا يغادر مفهوم (الإمبراطورية)، وما يزال يراوح دون الدخول إلى مفهوم الدولة الحديثة، ومن الناحية السياسية كان واحداً من المفاهيم التي استثمرتها السلطات الاستبدادية كوسيلةٍ لردع أي فكر أو سلوك يناهض مصالحها السلطوية، ومن الناحية الأمنية كان هذا المفهوم الغطاء الزائف لجميع الممارسات اللاإنسانية التي تمارسها أنظمة الحكم الشمولية بحق مواطنيها. وما من شك أيضاً في أنّ ما تشهده أوساط الثورة السورية من حراك رسمي وشعبي حول تجديد بنى الثورة وهياكلها السياسية والتمثيلية، إنما يجسّد في واقع الحال مواجهةً بين نمطين من التفكير، أحدهما يرى أن العملية الثورية تبدأ بإمساك السلطة وتنتهي بها أيضاً، ولديه استعداد دائم للاستقواء بأي جهة من شأنها تعزيز سلطته إذا ما داهمها خطر ما، وهو يدافع عن مصالحه السلطوية بخطاب يستمدّ ذخيرته من (المواجهة الكبرى لتحقيق الهدف الأسمى)، بينما لا يجد النمط الآخر في السلطة سوى أنها وسيلة للتغيير، فإن تسرّب إليها الخراب أو امتدّ إليها الفساد فيجب التوقّف عند مكامن الخلل، وإن تعذّر إصلاحه فلا بدّ من استئصاله، وغالباً ما يستمدّ هذا النمط من التفكير خطابه من مفردات حياتية تنبثق من احتياجات الناس وتلامس تطلعاتهم وتحاول مقاربة قلقهم على مستقبلهم ومصير قضيتهم.

ربما نجد الكثير – غير الذي ذُكِرَ آنفاً -  مما يقال ويجري تداوله في الوسط السوري حول الأسباب والوسائل والغايات التي تدعو إلى إعادة النظر في كيانات المعارضة السورية، ولكنها بالتأكيد، هي خارج اهتمامات هذه المقالة.