مفهوم الحرية والحقبة الحضارية

2021.11.07 | 05:13 دمشق

eb1fe2f6-52eb-472b-8de2-e7539caffd97.jpeg
+A
حجم الخط
-A

لمحاولة تعقب مفهوم (الحريّة) لا بد من المرور، كل مرة، على الشرط التاريخي المحايث، لما له من تأثير في صياغة المفهوم العائد إلى حقبة زمنية بعينها من تاريخ البشرية. لذلك سنحاول، خلال هذه المقالة، توخي أثر الحقبة التاريخية، وأثر المستبد في صياغة مفهوم الحريّة لدى النموذج المقاوم.

وربّما يجدر بنا، في مثل هذا المسعى، أن نبدأ من الثورة الفرنسية لزعمنا أنها كانت تخماً فاصلاً بين حقبتين مفاهيميتين، إذ انطلقت 1789-1799 متأثرةً بأفكار فلاسفة وأدباء عصر التنوير: كجون لوك، وهوبز، وفولتير، وغيرهم، فشهدت حراكاً ثقافياً، وآخر سياسيّاً، أسفرا في نهاية المطاف عن إسقاط منظومة حكم مَلَكي، لصالح منظومة حكم جمهوريّ، فكانت بذلك رائدة الحركات الإنسانية في العصر الحديث، اهتماما بمسألة الحريّة.

وفي حين كان الاستبداد متمثلا في نموذج:

 (الحق المقدّس / الملك وحده صاحب الحق / الملك وحده يملك).

تمثلت إرادة الحريّة -مقاومة المستبد- في نموذج:

 الحق الطبيعي-الوضعي / كل فرد -إنسان- مواطن يمتلك الحق/ كل إنسان يحق له أن يملك).

من خلال الاستقراء السابق يمكننا ملاحظة أن طبيعة النموذج المستبد تركت أثرها في تشكيل مفهوم الحريّة فمتلازمة:

(الملك وحده يملك، بحسب الحق المقدّس= مَلَكيّة).

كانت عتبة أوليّة لشكل المقاومة: (كل إنسان حر (يمتلك الحق)، بحسب الحق الطبيعي= الجمهوريّة).

ومن ثم فإن ارتباط الحريّة بـ (حق المُلكِية الفردية) كان له مبرراته ضمن النسق المفاهيمي لتلك الفترة التاريخية، فجسّدَت: (حريّة الفرد/المواطن) في أن يملك مقاومةَ احتكار الملك منفردا لهذا الحق، وقد أكدت الثورة الفرنسية هذا المفهوم في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن الصادرة في: 26 آب 1789 مشيرة إلى أن: (المواطن/ الإنسان) يمتلك بطبيعته سلّة حقوقيّة كاملة وعلى رأس تلك الحقوق: حق الملكيّة.

شهد عام 1792 سقوط المَلَكية في فرنسا، وشهد القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سقوط حقبة مفاهيمية كاملة كانت تنتمي إلى العصر الوسيط (الإمبراطوري)

ثمّ وبعد نحو قرن ونصف تم تبني هذا النهج الحقوقي في وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادرة عن الأمم المتحدة من باريس عام 1948 والتي تتضمن المادة (17) منها:

( 1- لكلِّ فرد حقٌّ في التملُّك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره.

2- لا يجوز تجريدُ أحدٍ من مُلكه تعسُّفًا...).

شهد عام 1792 سقوط المَلَكية في فرنسا، وشهد القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سقوط حقبة مفاهيمية كاملة كانت تنتمي إلى العصر الوسيط (الإمبراطوري)، وفي خضم ذلك انهارت، في الشرق، السلطنة العثمانية مفاهيمياً وسياسيّاً بين عامي 1909 و 1922، ودخلت منطقتنا في الشرق الأوسط عصر الحداثة.

بدورها أنتجت الحداثة السياسية، نموذجين مفاهيميين اثنين، تمثل الأول منهما تصور الفيلسوف الألماني (هيغل) عن الحداثة، فأنتج هذا التيار المثالي الفكرَ القومي، الذي قادته حركات قومية ثوريّة محلّيّة، خاضت حراكاً سياسيّاً وثقافياً، فتركت آداباً وفنوناً، اعتمدت إحياء التاريخ القومي، والديني ضمنا، للبلاد، وتمجيد قيم الحريّة القومية، في شكل إعلاء من شأن النضال القومي لدحر المستعمر (الغربي غالبا)، فارتبط مفهوم الحريّة مرة أخرى، بطبيعة المستبد:

حيث يظهر المستبد في صورة: غريب، محتل..

 يقابله بطبيعة الحال: قريب (ابن العِرق غالبا) في صيغة مناضل، يقارع المستعمر وينشد (الحرية) المرهونة بطرد الغريب على وجه الخصوص، لذلك فإن معنى من مثل قول شاعر قومي عربي كـ عمر أبو ريشة:

(لا تطيق السادة الأحرار أطواق الحديد

إن عيش الذل والإرهاب أولى بالعبيد...)

حيث قوم الشاعر هم السّادة الذين يستحقون الحريّة، فيما يستحق آخرون العبودية، بل إن العبوديّة تليق بهم.!، يمكن فهمه ضمن السياق الثقافي للحقبة الحضاريّة وقتها، فالشاعر هنا لا يناقش موضوعة الحريّة من حيث هي جوهر مستقل، بل يتحدث عنها متجسدة في نموذج مقاوم هو: قومه بالذات، وليس عسيرا على الباحث أن يجد مثل هذا المعنى منتشراً في آداب القوميّات الأخرى، فهذا شاعر القومية التركية محمد عاكف أرصوي يقول في الأشطر (9-10) (17-18) من نشيد الاستقلال:

كنتُ حراً منذُ الأزلِ وأحيا حراً

أيُّ أرعنٍ يقيدُني بالسلاسلِ، ما أعجبه أمراً!..

يا صاحبي، إياكَ أن تجعلَ الوطنَ عرضةً للأدنياءْ

كن سداً منيعاً أمامَ الغزوِ السافرِ كالأقوياءْ.

إذ ثمة آخر هو: غريبٌ (الغرب غالباً)، أرعن، ودونيٌّ وغازٍ.. والحريّة في أن يطرده: صاحبي، ابن عرقي، ابن أمتي/ مِلتي التي تشير إلى التاريخ الديني والقومي معا.

حيث تتكرّر سيرورة العلاقة بين السادة الذين هم قوم الشاعر، وبين آخرين غرباء ليس من حقّهم السيادة.. تماهيا، ربما، مع نظريّة السيد والعبد لدى (هيغل). وعلى غرار التصور الهيغلي الذي كان معجبا بنابليون، يمكن للباحث أن يلاحظ أيضا على الدوام توفر رمزٍ قوميٍّ لدى كل أمة على حدة، يمثّل هذا الرمز روح تفوق الأمة (نابليون لدى هيغل)، تنصبه الأمم في الساحات العامة، فارسا يعتلي ظهر حصان متوثب.  فنموذج الحريّة مرتبط هنا بالقوّة ذلك أن المستبد ذاته قويُّ، والحديث في مثل هذا النموذج الثقافي ليس في تناول مفهوم الحرية كظاهرة جوهرية بقدر تمثلها في نموذج مقاوم يجابه نموذجاً مستبدّاً.

إلى جانب هذا الوعي الهيغلي الجدلي المثالي، نما وعي يساري ماركسي لا يختلف من حيث أسّه الفلسفي عن سابقه، إلا أنه فضّل أن يبدأ من الواقع فقدّم المادة على الفكرة، وتبعا لتصوره عن الماديّة التاريخية فقد قدّم تصورا عن طبقات اقتصادية للمجتمع، حيث تتفاعل هذه الطبقات فيما بينها بناء على الوعي الجدلي المادي للحداثة، فتصارع كل طبقة جارتها، في ثورة مستمرة، ستنتهي، بحسب تصور، إلى حتميّة بلوغ النظام الاشتراكي وتحقيق المجتمع الشيوعي، لترتبط الحرية في نهاية المطاف بـ: تجاوز الشرط المادي.

المستبد: طبقة اقتصاديّة مستغِلة/ تتحكم برأس المال =رأسماليّة.

مقاومة الاستبداد: طبقة اقتصاديّة مُستغَلّة/ نضال العمال والفلاحين (البروليتاريا) لامتلاك رأس المال= شيوعيّة.

وربّما يجدر بنا ملاحظ أن مفهوم الحرية لدى كلا النموذجين السابقين: المثالي الهيغلي (القومي-الديني)، والمادي الماركسي (اليساري-الشيوعي)، مرهون بالانتصار على آخر وسلبه احتكاره للامتياز...لذلك سنتجرّأ على وصف هذا المفهوم بالتصور الجدلي لمفهوم الحريّة، تلك التي ينتزعها طرف إنساني، من طرف آخر بعد الانتصار عليه.

بدوره وبعد عودة المستعمر الأوروبي إلى أوروبا، وحاجته إلى السلام في ظل الرفاهية، منحته هذه الظروف وغيرها، ربما، دافعاً لمراجعة مآسي الحربين العالميتين وتلمّس الخلل بين مبادئ الحريّة من جهة، وبين ظهورات تلك المبادئ في المجالات الصناعية والسياسيّة من جهة أخرى، وعلاقة ذلك كلّه في خلق مبررات الصراع/ الحرب.

قد يتبنى شاعر أو مفكر، أو فنان موقفاً أممياً /إمبراطوريّاً في قالب ينتمي إلى زمن حديث، وقد يقدّم شاعر أو مفكر أو فنان آخر نموذجاً حداثيّاً في قالب قديم

الهدوء النسبي خلال النصف الثاني من القرن العشرين منح الغرب الحضاري الوقت اللازم لمراجعة مفاهيم الحداثة ودراسة أسباب الصراع، بل يمكننا اعتبار الأفكار التي قدمها كل من: أينشتاين - فرويد عام 1932 أي بين الحربين العالميتين إلى (عصبة الأمم المتحدة) وقتها، عن كيفية إيقاف الحروب.. إحدى الإرهاصات المبكّرة للرغبة في مراجعة الوعي الحداثي، وما تزال المراجعة مستمرة، ويمكن عنونة هذه المراجعة بـ حقبة: ما بعد الحداثة، التي هي بحسب زعم كاتب هذا المقال: موقف من الحداثة ذاتها، لم تتم صياغته بشكل نهائي بعد.

ربما يمكن للقراءة المفهوميّة أن تتخطى الظاهرة الشكلية أو التاريخيّة في تعيين ما هو حداثي في مقابل ما هو قبل أو بعد حداثي، فقد يتبنى شاعر أو مفكر، أو فنان موقفاً أممياً /إمبراطوريّاً في قالب ينتمي إلى زمن حديث، وقد يقدّم شاعر أو مفكر أو فنان آخر نموذجاً حداثيّاً في قالب قديم، وربّما تكون مراجعة التاريخ المفهومي أكثر دقة في تحديد الحقبة الحضاريّة للطرح الثقافي، ومن ثمّ مراجعة المفاهيم، ومفهوم الحريّة على وجه الخصوص، تبعاً للحقبة الحضاريّة التي ننتمي إليها.