مع خالد الأسعد حامي آثار تدمر

2020.03.21 | 23:03 دمشق

149751526957b8be2c1b94bfe202a4ee144eff5d29.jpg
+A
حجم الخط
-A

في "15" من آب من سنة "2015" قتلت عناصر من داعش، عالم الآثار "خالد الأسعد" حارس آثار تدمر الأمين، ومدير المتاحف فيها.

وبالطبع انبرت أجهزة إعلام النظام السوري، في كيل الاتهامات يميناً وشمالاً، واعتبرته ضحيةً من ضحايا داعش، في قتالها مع النظام السوري.

لكن الحقيقة التي لا تريد أجهزة النظام كشفها، أنَّ قتله جرى في صفقةٍ تمت بين قيادات داعشية، وقيادات من الصف الأول في نظام الأسد، تلك القيادات التي تشرف بالشراكة مع داعش، على نهب وتهريب الآثار السورية عامةً، والتدمرية منها على وجه الخصوص، إلى الخارج حيث يتولى أمرها شركاء دوليون، والتي حصدوا من بيعها أرصدةً فلكيةً، تصل إلى ملايين الدولارات.

 لم يكن "الأسعد" ليقبل بنهب هذه الثروات مهما كان الثمن، ولأنه كان العقبة الأكبر، كان لا بد من قتله.

سأكتشف تالياً أن هذه المعرفة والمعاينة تنشىء رابطةً عميقةً، بين الزائر المهتم والمكان موضع الزيارة، فالشرح يمنح للمكان هويةً في ذات السامع، كما يعزز الصلة بالمكان.

في يوم مقتله رجعت بي الذاكرة إلى عام "1998" حين التقيت به لأول مرة، فبعد خروجي من المعتقل بأشهر قليلة، أي في مطلع عام "1993" تعرفت إلى جمعية تراثية تعنى بالآثار وتعقد الندوات على مدار العام للتعريف بتراث سوريا عموماً وتراث حلب على وجه أخص.

وكان من دأبها تنظيم رحلاتٍ دوريةٍ، إلى مواقع أثرية، وبصحبة خبراء بهذه المناطق، فنتملى من جمالها، ونغتذى من شروحهم.

وسأكتشف تالياً أن هذه المعرفة والمعاينة تنشىء رابطةً عميقةً، بين الزائر المهتم والمكان موضع الزيارة، فالشرح يمنح للمكان هويةً في ذات السامع، كما يعزز الصلة بالمكان، شأنه في هذا شأن التعارف، الذي يحصل بين إنسانين، وبقدر ما يتعرف كل طرفٍ إلى الآخر، بقدر ما تتمتَّن الصلاة وتتعزز الأواصر.

وكانت من أحب الزيارات إلى قلبي، زيارتهم السنوية إلى مدينة تدمر، حيث يمضي الزائرون ثلاثة أيامٍ، يزورون كل أوابد المدينة الأثرية، ويتعرفون إلى حياة المدينة في بواكير تاريخها، وفي حالها المعاصر.

وتشمل تلك الزيارات، المعابد والصروح، والشارع الطويل وقلعة فخر الدين المعني الثاني، التي تطل على المدينة من علٍ.

وكعادته الجميلة، يستقبلنا مدير المتاحف في تدمر، في متحفها الكبير كلَّ عامٍ، ويغمر ضيوفه بالحفاوة اللائقة، والشرح المستفيض.

كانت رحلتنا في نهاية عام 1998، إلى تدمر ومتحفها الكبير، وبرفقتي صديقي "نادر" الذي كانت تجمعني به صحبةٌ عتيقةٌ، خلال سنيِّ السجن المديدة، وخلال تجوالنا الطويل بين الآثار، استطعنا أن ننتحي بالمدير "خالد الأسعد" جانباً، وكان لا يتردد في الإجابة عن أي سؤال، سألناه قليلاً عن أعمدة "زنوبيا"، وعن قلعة "فخر الدين المعني الثاني"، ولم نكن ننتظر الإجابة منه، كان غرضنا أن نُحدِثَ بعض الإلفة، من خلال الحديث معه، علَّنا نصل إلى شاطئٍ مختلفٍ من ضفاف الحديث،  وكان ذلك يسيراً جداً، فقد كان طبعه ليناً، يحمل تواضع العلماء، فلم نتردد في الحديث إليه عن حياتنا، في هذه المدينة الساحرة، التي عشنا فيها قرابةَ ثماني سنوات، دون أن نمشي في شوارعها خطوةً واحدة!

عَجبَ لحديثنا معه، لفرادته وغرابته، ولجرأتنا على مبادرته بالحديث عن أحد أهم المحرّمات في هذه المدينة، مع أن الجميع هنا شهدَ وسمعَ أصواتَ تعذيبنا، وأصواتَ حفلات الإعدام الصباحية. وكانت أجهزةُ الأمن تداهم البيوت القريبة من السجن كلَّ حين، فتبالغ في تفتيشها وتهديد أهلها، إن هم تكلّموا ببضع كلمةٍ حول ما يسمعونه.

قصّ علينا كيف كانوا يُمضون أمسياتهم، وهم يصغون بألمٍ كبيرٍ إلى أصواتنا ونحن نُجْلد ونُقتل، وكيف اعتادوا أن يستيقظوا في كثيرٍ من الأيام على أصوات أعواد المشانق.

وحين سكنت نفسُه إلينا، بكى من حرقةٍ، وطولِ صمتٍ، وعجز يشف عنه وجهه الحزين، لما حصل ويحصل في هذه المدينة، وقصّ علينا كيف كانوا يُمضون أمسياتهم، وهم يصغون بألمٍ كبيرٍ إلى أصواتنا ونحن نُجْلد ونُقتل، وكيف اعتادوا أن يستيقظوا في كثيرٍ من الأيام على أصوات أعواد المشانق، وصيحات الرجال الذين يملؤون الفضاء بتكبيرِهم، وأرواحُهم تصعد إلى السماء.

حدثنا طويلاً عن الفساد، الذي أشاعه عناصر السجن، في هذه البلدة الوادعة، وكيف تم تجنيد الأخ ضد أخيه، وكيف سيق عشرات الرجال بتقارير كيدية لا أصل لصحة اتهاماتها، لكن النظام يعرف هذا ويريد له أن يكون سيفاً من الرعب مسلطاً على رؤوس التدمريين.

كفكف دموعه، ومسح ما رشح منها على وجهه المغضن، وربت على أكتافنا بود وحنو، وقال سيعلم الظالمون يوماً، أن السوريين شأنهم شأن هذه الأوابد، عصيون على الفناء، ينهزمون ويعذبون، لكنهم وحدهم الباقون، والمجرمون إلى زوال، أكمل حديثه بصوتٍ مرتفع، عن المصلَّبة ذات الأعمدة الغرانيتية، التي نقلتها زنوبيا من مصر، وانضم إلينا جمع ممن شاركونا رحلتنا تلك.

مضينا أنا وصديقي نادر، وفي عيوننا سؤال ملحّ، ماذا ستقول زنوبيا ملكة تدمر، لو أنها نظرت إلى هؤلاء الأقزام، يحكمون مملكتها التي تحدت روما يوماً ما.