نقرأ على الغلاف الخلفي لكتاب "كيف نُسقط ديكتاتوراً ونحن وحيدون، وصغار، وبدون سلاح" أن مؤلفه الصربي سردجا بوبوفيتش هو "المهندس السريّ لثورات الربيع العربيّ"، العبارة المثيرة للاستغراب، لا نعلم إن كانت من ابتداع المترجم فرانسوا بويو أو من قبل دار النشر، علماً أن الكتاب بلغته الأصلية (الإنكليزية) الصادر عام 2015 يحمل عنوان "مخطط لأجل ثورة"، ولا يحوي العبارة السابقة، نذكر ذلك لأن النص على الغلاف الخلفي يشيد بسادجا والنضال السلميّ الذي خاضه الشعب الصربي لإسقاط ميلوسوفيتش، الأهم هو كتاب موجه للناس العاديين، "للتفكير بشكل مبدع" لإسقاط الديكتاتور و تحقيق العدالة، بالتالي هل من الممكن لشخص واحد أن يهندس ثورات الملايين؟ وأليس في هذا تعميم مجحف؟.
ما يهمنا في الكتاب هو السيناريو المفترض الذي يقدمه بوبوفيتش لكيفية إسقاط نظام ديكتاتوريّ بصورة سلمية بوصفها ممارسة طويلة الأمد، تحافظ على مؤسسات الدولة في محاولة لتغيير الدفة من الداخل، وعزل "الديكتاتور" سياسياً وجغرافياً، بحيث يتحول إلى شخص فقط ليس قائد للمؤسسات والخاضعين له، نحن أمام استراتيجية تحوي تكتيكات طويلة الأمد، قد تصل إلى عشر سنوات، تمارس عبرها تكتيكات قصيرة الأمد لاسترجاع "الدولة" من الديكتاتور.
يخبرنا بوبوفيتش كيف التقى عام 2012 بناشطين سوريين من الداخل والخارج في تركيا، وكيف كانت ردود أفعال الناشطين الأولى التي تلخص بـ" أن ما حدث في صربيا لا يمكن أن يحدث في سوريا"، ونتلمس في الكتاب ملامح لسيناريو وتقنيات نضال سلمي ظهرت في سوريا تكشف طبيعة العمل ضد النظام السوري، خصوصاً في ظل الخوف المهيمن، وغياب الثقة، ففي سوريا "الكل يخاف من الكلّ"، لكن حسب بوبوفيتشيمكن تحريك كتلة الخوف هذه وتحريرها بالرغم من أن بشار الأسد يقتل الناس.
الثورة المتخيلة التي لو اتبعت استراتيجياتها حسب توصيات بوبوفيتش نراها في بدايات الثورة، إذ نقرأ كيف أوصى الناشطين، بملء مياه الساحات بالصباغ الأحمر، كذلك نصحهم بتوظيف "سبيكرات" الحريّة وكرات "البينج بونج"، إلى جانب التركيز على الجانب الأهم، "محاربة الرعب بالكوميديا"، ولا يقتصر على بضع نكات يتم تكرارها ونشرها، بل نحن أمام خيار استراتيجيّ ، لأن السخرية والكوميديا ستفقد الأسد أحد أهم عناصر قوته وهو رجاله، وقدرتهم على زرع الرعب في القلوب.
قلب القمع كفن
قراءة الكتاب الآن تحرك النوستالجيا المرتبطة ببداية الثورة، وأيضاً الرعب بسبب العنف الذي مارسه الأسد، فالنكات نفسها مثلاً كأسلوب لمحاربة الديكتاتور أو الاستخفاف به بالرغم من فعاليتها كخطوة تكتيكيّة، هي أيضاً سبب متكرر دوماً للاعتقال في سوريا، كثير من الحكايات والروايات تخبرنا عن أشخاص اعتقلوا بسبب نكتة ومنهم من اختفى، هذا الخوف يرى بوبوفيتش أنه قابل للكسر إن أدركنا بدقة كيف يعمل النظام، فالقاعدة تقول "أن نقلب القمع ضد ذاته أشبه بالفنّ، أو رياضة الجوجيتسو، فعلينا أن نلعب ضد الخصم ورقته الأقوى في لعبته ذاتها"، هذه اللعبة تفترض سيادة للقانون من نوع ما، ما يعني لجماً للعنف الاعتباطي، والذي لم يكن موجوداً في سوريا فمجرد تجمع الناس، أوصلهم حد القتل والإبادة، أما إنهاك رجال الأمن والشرطة، فقد يعني ببساطة اللجوء للعنف، لا محاولة إعادة التوازن إلى الفضاء العام عبر "تنظيفه" أو إزالة "أوساخ" المخربين.
تقنيات الاحتجاج السلمي السابقة والتي تشبه فنون الأداء تركز على جعل عناصر الشرطة والجيش أشبه بالمهرجين، عبر شغلهم بتجميع كرات البينج بونج، أو تنظيف الساحات، بينما يشاهدهم الناس ويستخفون بهم، والحجة التي تمنع رجال الأمن هي عدم إمكانيّة اعتقال الجميع، المقاربة التي لا نعلم مدى صحة تبنيها في سوريا، الأهم، يحاول بوبفبتش أن يخبرنا أن الحفاظ على مؤسسات الدولة جزء من الثورة السلمية وهي منفصلة عن الديكتاتور، الذي يستنزف في حربه ضد الشعب الموارد الاقتصادية، لدرجة أنه لا يوجد بنزين للدبابات ولا طعام للجنود، هذه التقنية كان من الممكن أن تنجح لو لم يستورد الأسد جنودا من الخارج، ويحول سوريا إلى مستعمرة روسيّة-إيرانيّة.
يشير بوبوفيتش أيضاً إلى عدم إمكانية التجمع والاكتظاظ في دول كسوريا ومصر، ويرى أن التنظيمات الأصغر هي الحل، إذ لا بد أن نكون "معاً"، كي يحصل التغيير، والأهم أن توحد الرسالة والهدف، ولكي ننجح لا بد من رحابة الصدر وطول البال، الأمر الذي ليس من السهل تحقيقه في ظل تصاعد وتيرة القتل، وما يفعل النوستالجيا هو أننا نجد صفحات الفيس بوك التي ما زالت قائمة إلى الآن، والتي كانت بداية الثورة تنصح و"تعلّم" الناشطين والناس على حد سواء كيفية تبني هذه التقنيات.
ثورة "كوول"
الأهم يجب على صورة الثورة أن تكون (Cool)، أي تحتوي الجميع وجذابة للجميع دون أن يستثني الاحتجاج وأشكاله أحدا، فالثورة تهاجم السلطة والديكتاتور لجمع ناس أكثر عبر الكوميديا ووحدة القضيّة، وبالرغم من الحرب على التجمعات والتجمهرات في الدول القمعية، لكن يجب على الجميع أن يكونوا معاً عقلاً و عاطفةً، أما الجسد، محط العنف الأول، فبالإمكان التلاعب بكيفية ظهوره للحفاظ على حياة الناس، أو إخراج الأجساد من سيطرة السلطة عبر الاستفادة من عددها، كحالة مياه النافورات الحمراء في دمشق، إذ لا يمكن اعتقال جميع المارة في تلك اللحظة، ما يعني أن الرسالة وصلت وأن أحداً لم يتعرض لأذى.
نتجرأ على القول، بأن هذه التقنيات كان من الممكن أن تنجح على المدى الطويل لو لم يكن هناك ربيع عربي، أي لو لم يكن هناك بوعزيزي، كان ممكنا خلال سنوات عشر ربما تغيير النظام في سوريا، لكن التهديد الذي أشعله الربيع العربي للديكتاتوريات في المنطقة، هدد السلميّة، لا بوصفها غير ناجحة، لكن تقنيات اللعب والكوميديا وفنون الأداء وغيرها من الأساليب تفقد قدرتها على توحيد الناس في ظل العنف الشديد والاعتباطي المطبق على الأفراد، خصوصاً أن "الوحدة" لم تتحقق بين الناس، سواء العاديين أو الناشطين ، فالجماهير في تجمعها الأول في تونس، لم تخف ابن علي فقط، بل كل من على الكراسي في العالم العربيّ، ما يجعلنا حين نقرأ الكتاب أمام ما يشبه سيناريو لإسقاط النظام ينتمي إلى زمن مختلف، كان ممكنا أن تتحقق فيه الثقة بين الناس لا على أساس النجاة والخوف، بل على أساس الرغبة الفردية لدى الجميع بالحرية وبحياة أفضل.
الأهم، في ظل تقنيات ما بعد الحقيقة، وحاجة المحتجين أن يكونوا غير مرئيين والخطر الشديد تبدو التقنيات السابقة ناجحة لفترة قصيرة، لكن ما يمكن أن نستفيد منه، بل وتمت الاستفادة منه هو التقنيات الإبداعية بداية لجمع الناس، وفهم خصائص السلطة والمكان الذي تعمل ضمنه، ليبدو الأمر وكأننا ننصب أفخاخاً للطاغية، لا يمكن له الفكاك منها لكونها تستخدم كل ما يثبت حكمه.