معالم الحياة في الثورة.. موت النظام

2020.03.18 | 23:00 دمشق

ldm_lfsd.jpg
+A
حجم الخط
-A

بين آذار وآذار، يطول الانتظار. يقسو الوقت ويستبد الزمن. قسوة الأيام وسخرية القدر، تشاء أن تسيّر الدوريات التركية الروسية المشتركة في إدلب يوم الخامس عشر من آذار، ذكرى اندلاع ثورة الاستقلال والتحرر في سوريا. إمعاناً في اغتصاب الثورة، التي بدأت بقصيدة، وتحولت إلى أغنية وأهازيج، أبت الانزواء في حالات الطوارئ، وثارت منتفضة بوجه الرصاص الذي أطلق على الصدور والأفكار.

فجّرت ثورة الشعب السوري لغة السوريين. قبلها كانت سوريا عاصمة الصمت. في بداية صراخ الحناجر "حرّية" كان الانقلاب على الرطانة الإنشائية الحاكمة، والفارضة للصمت المطبق. بدأ الشعب السوري اختراع لغته، ألف باء الحراك، كان "الشعب السوري ما بينذل" واللي بيقتل شعبه خاين". هي اللغة الأولى خارج الإنشائيات السائدة، والتي تفاعلت مع فيديوهات حيّة وأغان. كانت هذه الرمزيات تشكّل باكورة ثقافية جديدة، تحت عنوان "أنا إنسان وليس حيوان". كان ذلك الفعل الثوري الأول لانتفاضة العام 2011.

من اللغة الخطابية والكلامية في الفعل الأول للانتفاضة، تحددت لسانيات الثورة في الفعل الثاني، كانت مشاهد السوريين في الحارات والشوارع، كانت احتفالات ليلية، عبّرت عن لغة الجسد السوري، صفوف بشرية متراصة، تتكاتف متراقصة، في حركات جماعية تصفيقاً وهتافاً وتلحيناً. كان السوريون يستعيدون أجزاء من تراثهم، في تجليات نوستالجيا لحقبة ما قبل البعث. جاءت الهتافات والأنغام من حقبة الخمسينيات والستينيات، ترافق ذلك مع إعادة

مدهشة كانت إنتاجات الثورة الثقافية، والموسيقية، مقابل عجز تام للنظام عن الخروج على أدبياته السائدة منذ السبعينيات

اكتشاف العلم السوري. هكذا بدأ الشعب السوري يشكّل هويته السياسية، بمشهد متخيّل ومتكامل منفصل عن سوريا النظام، أو سوريا الأسد.

مدهشة كانت إنتاجات الثورة الثقافية، والموسيقية، مقابل عجز تام للنظام عن الخروج على أدبياته السائدة منذ السبعينيات. كانت المواجهة بين سوريا المتخيّلة، وسوريا الأسد القائمة على نظرية المؤامرة وثقافة التخوين. سوريا المتخيّلة كانت انقلابا على جمهورية الخوف، والفروع الأمنية وحجب الشمس بالمدافع.

بدأت الثورة من الريف، من الأحياء المهمشة، أو الناس من الأصول الريفية داخل المدن، وسريعاً دخلت بعض المدن، حمص، حماه، وأحياء في اللاذقية، ودرعا، دمشق، الحسكة ودير الزور والرقة، بدأت شمولية الثورة، وتمددها. اندفعت المدن الأولى إلى الثورة، بفعل الضغينة على ما عانوه طوال سنوات، ردّاً على مجازر الثمانينيات في جسر الشغور، حلب، وحماه.

لم يغيّر النظام أسلوبه، بقي في تحجره وداخل أقبية أسره العقلي، أول أهدافه، كان الناشطون المدنيون، في السنة الأولى، اعتقل حوالي ألفا من هؤلاء الناشطين، منهم من قتل ومنهم من نفي، كانت استراتيجية النظام في القضاء على هؤلاء لصالح عسكرة الثورة وأسلمتها، قطع أيدي الرسامين، وانتزع حناجر المغنّين والشعراء. زج بالسياسيين في السجون والمعتقلات، وأطلق سراح المتطرفين والإرهابيين، الذين كان مشروعهم يخدم مشروعه الخبيث في تأبيد بقائه بذريعة مواجهة الإرهاب، ولم يكن الإرهاب إلا صنيعته.

وصلت الثورة السورية إلى مصاف النكبات الكبرى. تتخطى نكبة فلسطين، المشروع الإسرائيلي الذي كان يدّعي النظام السوري مواجهته، هو مشروع استعماري، نجح في تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، لكنه فشل في إنكار وجود الشعب الفلسطيني، منذ تلك اللحظة إلى اليوم تواجه إسرائيل مأزقاً وجودياً، يتمثل بوجود شعب حيّ يطالب بحقوقه، ما يجبر الإسرائيلي على الذهاب إلى حل الدولتين عاجلاً أم آجلاً، وسيسقط صفقة القرن.

بينما النكبة السورية مختلفة، أقسى وأجرم، فهي لا تواجه مشروعاً استعمارياً ولم تبدأ كحرب أهلية، هي عبارة عن جرح تاريخي لم يندمل، يصل وصف ما تعرّض له السوريون إلى حرب إبادة، فيما عمل النظام على سنّ قوانين تشبه القوانين الإسرائيلية في إدارة أملاك الغير. في فلسطين كان الصراع بين شعبين، أما في سوريا فالشعب كان يتعرض لإبادة من داخله. كان المشروع الأساسي للنظام هو منع وجود أي حياة سياسية في سوريا.

انتهى مفهوم الدولة الوطنية في كل المنطقة العربية لصالح الدويلات والفوضى، فبقيت المجتمعات معلّقة بلا أي صيغة وطنية مقنعة أو واضحة للمستقبل. ولكن رغم كل الخيبات، يقول الواقع السوري إن هذه الدولة انتقلت من مرحلة النظام المستبد إلى الدولة المحتلة، ولا بدّ بعد كل احتلال أن يأتي التحرير والاستقلال، خاصة أن مبررات الثورة لا تزال حاضرة، وعلى الرغم من كل ما أتيح للنظام من دعم فهو عاجز عن الحفاظ على نفسه وبقائه.