معارك الزيت المدعوم وإقامة اللبنانيين الجبرية في الإرهاب

2021.04.16 | 06:53 دمشق

ybylb.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعود الرمزية الأبرز التي يفرزها الوضع اللبناني حالياً إلى مشهديّة حروب الحصول على الزيت المدعوم في السوبر ماركات، والتي تقدم بروفات مصغرة ومكثفة عن مصير البلد ومستقبله.

يؤكّد من عايشوا الحرب الأهلية وخبروا أهوالها أن هذا المشهد جديد بالكامل وليس له سابق، ولكن جدته لم تتسبّب في وضعه خارج مألوف القراءة والتحليل، بل بقيت النظرة إليه تقتصر على وصفه بأنه نتاج درجة متقدمة من سوء الأحوال.

ولكن سوء الأحوال الذي تمادى إلى حدود سقوط قتيل في أحد السوبر ماركات يتزامن مع حفلات توزيع بالجملة للبضائع المدعومة ومن ضمنها الزيت على المحاسيب والمؤيدين، يقوم بها حزب الله على رؤوس الأشهاد مستهزئًا بالناس وساخرًا من معاركهم.

ولكن إذا كان يمكن اعتبار مثل هذا المشهد نوعًا من إفرازات سطوة السلاح ومفاعيلها، يبقى الأخطر أن الناس باتت تتمثل هذه السطوة بوصفها قدراً ومصيراً لا فكاك منهما، وتركن إلى ممارسة حياتها اليومية ومقاربتها على أنها الفائض الذي تسمح به هذه السطوة ولا شيء سوى ذلك.

لم تندلع احتجاجات غاضبة على سرقة الحق في البضائع المدعومة، بل هجم الناس على السوبر ماركات لمحاولة الحصول على ما تركه السلاح لهم.

لم تندلع احتجاجات غاضبة على سرقة الحق في البضائع المدعومة، بل هجم الناس على السوبر ماركات لمحاولة الحصول على ما تركه السلاح لهم

 لم يتورّع أحد عن التعارك مع من يماثله في الوضع وفي الوهن وتردي الحال من أجل انتزاع أفضليّة الحصول على قنينة زيت، باتت من الضروريات الملحّة، وبات الحصول عليها خارج الدعم مكلفاً للغاية بعد أن وصلت أسعارها إلى ما يوازي نصف راتب الجندي في الجيش.

وضعية اليأس التي يغرق فيها الناس تشي بإحساس عارم بوصول التفاوت في القوة والقدرات بينهم وبين سلطة حزب الله إلى حد لا يمكن قياسه، وتالياً فإن ما يبقى لهم يقتصر على الإعلان عن وجودهم بالأجساد المتحفزة للقتال.

في تفسير لجوء التيارات المتطرفة إلى مواجهة أميركا بالعمليات الانتحارية، يحضر بقوة عامل الفارق الخيالي في القوّة. يبرز القتال بالموت أو الإعلان عن الوجود بتفجير الجسد بوصفه السلاح الذي يؤمن حداً أدنى من التوازن بنظر من يقدمون عليه.

لا يحقق الموت بتفجير الجسد توازناً مع التكنولوجيا الفائقة وإمكانياتها، بل يتحول في واقع الأمر إلى إعلان تلتقطه وتوظفه في سبيل توسيع سلطاتها، وتحتفظ بالحق في تأويله وتحديد معناه وطريقة الرد المناسبة عليه، والتي لا تقف عن حدود.

ما يعنينا في هذا الصدد هو أن مثل هذا الإحساس بالفارق الأسطوري في القوة قد بدأ يتبلور في لبنان ويعيد ترسيم كل شيء فيه من أمن، وسياسة، ومشاعر، وسلوكيّات.

بدأت الناس بالتذابح مع بعضها البعض من أجل بضاعة ترتبط بوظيفة البقاء على قيد الحياة. عند هذا الحد يمكن القول إن الأمور ما زالت في طور الواقعية التراجيدية إذا صح التعبير، ولكن هذه الدرجة من الأزمة ليست ثابتة بل مرشحة للتّمادي، وحينذاك قد ينفجر الناس في وجه السلطة الفعلية المتمثلة في حزب الله.

طبيعة الانفجار المتوقعة قد تكون شاملة لأن قدرة الحزب الإلهي على إطعام جماهيره عبر سرقة المواد المدعومة وغيرها تبقى محدودة للغاية.

لا يشك كثيرون في وجاهة مثل هذا السيناريو، ولكن المشكلة تكمن في أن أحداً لم يحدد طبيعة الانفجار، وما إذا كان قادراً على إنتاج مشروع سياسي إنقاذي عقلاني، أو أنه سيكون عبارة عن موجة تسونامي عارمة تدمّر كل شيء بما فيه نفسها.

في الحقيقة لا شيء يوحي بأن أي انفجار عام مرشح للحدوث في بلاد الأرز والجنرالات يمكن أن ينضج خارج البنية الانتحارية.

فارق القوى الهائل بين الناس والحزب المسلح وقدرته على استعمال قسم من الطائفة الشيعية كقتلة حتى النهاية، يتيح له امتياز التفوق على كل محاولات الإطاحة الشعبية به، وتحويل أي محاولة من هذا النوع إلى مجزرة من طرف واحد.

وبذلك فإن الناس لا يملكون سوى أجسادهم التي باتت تختزن السّمات الموصوفة للإرهاب وطرق القتال التي يتبناها للمواجهة، وهذا ما كان يجتهد حزب الله منذ زمن طويل في رسم معالمه وتحويلها إلى صفة يطلقها على خصومه.

ومع استفحال الأزمة يحاول فلش هذا التوصيف على عموم اللبنانيين الذين باتوا بفضله حشدا من إرهابيي الزيت المدعوم، ولاحقا سيتحولون إلى إرهابيين وحسب.

المشكلة تكمن في أن أحداً لم يحدد طبيعة الانفجار، وما إذا كان قادراً على إنتاج مشروع سياسي إنقاذي عقلاني، أو أنه سيكون عبارة عن موجة تسونامي عارمة تدمّر كل شيء بما فيه نفسها

وبما أنّه وحده ما زال قادرا على التقاط الصور العامة والإمساك بتأويلاتها وفرضها، فإن هذا المسار المتراكم لا يبدو اعتباطياً على الإطلاق، فبالرغم من كل رسائل التأنيب التي ترسلها الدول الأوروبية إلى القيادات اللبنانية والأحاديث الأميركية عن ضرورة لجم إيران وميليشياتها، لم تبرز أي آلية لإخراج الشعب اللبناني من دائرة التمويت التي يغرقه فيها الحزب يوماً بعد يوم، والتي تهدد بتحويل الناس إلى قنابل موقوتة.

ربما الأجدر بنا ألا نشك كثيرا في اقتراب التوصيف النهائي للبنان كبؤرة إرهاب عامة، لا مجال للتّمييز فيها بين حزب الله وعناصره المسلحة وبين عموم اللبنانيين، الذين يرجح أن يصير العنف الخارج على كل الحدود وسيلتهم الوحيدة للتخاطب.

البلد الإرهابي لا أهل له، ولا يحق لأبنائه امتلاك أي شيء فيه ولا إدارته، وإذا بقيت له وظيفة ما فلا بأس أن تنجز بعد فناء الحزب والشعب اللبناني في آن واحد.

عملية تفريغ البلد من الموارد بدأت مع تغطية روسيا لسرقة النفط اللبناني، كما بدأت عملية السحب الكامل للشرعية عن أي عمل ضد إسرائيل ينطلق من لبنان مع تأكيد الأسد على عدم لبنانية مزارع شبعا.

يضاف إلى ذلك طرح ألمانيا لمشروع إعادة إعمار المرفأ واستثمار المنطقة المحيطة به، وبروز اهتمام أميركي بالإمكانيات الاقتصادية في طرابلس.

لا تستقيم أي من هذه المشاريع مع بقاء السلاح، وكذلك فإننا نعلم أن حزب الله لن يسلمه لأنه على يقين أن اليوم التالي على تسليمه هو يوم خروجه من تاريخ البلد ومستقبلها.

من هنا لا نشك أن الانتحارية تمثل روح موقفه، ولذا فإنه يدفع البلد بأسره للإقامة الجبرية فيها عبر الدفع بالأحوال إلى درجة قصوى من التردي تعمم الروح الانتحارية بما تكرسه من توصيف عام للبلد يربطه بالإرهاب.

السيطرة على مؤسسات القضاء سمحت بإدراج كل فعل احتجاجي تحت قائمة الفعل الإرهابي، ما يعني أن أي انفجار عام مهما كان ضخماً لن يملك القدرة على تصنيف نفسه.

تالياً فإن اللبنانيّين المحاصرين داخليا بالسلاح وخارجيا بالتجاهل ومحاولات التوظيف الإجرامية، لن يبقى أمامهم سوى أن يكونوا إرهابيين رغماً عنهم، وأن يفجروا أجسادهم بيأس، لا طائل من ورائه، في السوبر ماركات أو في وجه سلطة مسلحة تتأله على الناس، يشكل الإيمان بالمجازر صلب عقيدتها وقلب مشروعها.