مضادات اجتماعية أم بؤر وبائية

2020.03.23 | 23:06 دمشق

kwrwna_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

"المنعزلون اجتماعياً بإرادتهم تجنبا لنقل العدوى، يبتدعون مضادات اجتماعية وذلك عن طريق تبادل الشرائط المصورة أو الرسوم الفكاهية حول الحياة في العزل. وبالتالي، فالعزل يحرّض على إقامة مجموعة بشرية تربطها الفكاهة".

ما سبق إيراده، وعلى بساطة تعبيراته، ليس تصريحاً لفنان مشهور سطحي الثقافة أو لاعب كرة قدم جاهل تجلب له قدمه الملايين. وهو ليس نقلاً لتصور إنسان عادي للوضع القائم في العديد من البلدان حول العالم، والتي يلتزم أهلوها بالانعزال المنزلي تفادياً لإصابة الآخرين أو الإصابة هم أنفسهم بفيروس وباء الكورونا. إنها تغريدة لمن يمكن اعتباره عميد الفلاسفة، الفرنسي إدغار موران، والبالغ من العمر 99 عاماً والمحافظ على ذهن وقّاد ونشاط فكري وبحثي يحسده عليه من هم في عمر أحفاده، حيث نشر منذ أشهر قليلة كتاباً مفتاحياً حول توجهات التعليم المدرسي في فرنسا المعاصرة. 

وفي ملاحظته الدقيقة هذه، يركّز موران على الجانب الإيجابي الذي تُحرّضه مرحلة الانعزال أو العزلة المفروضة على مئات الملايين من البشر حول العالم في ظاهرة نادرة ويمكن اعتبارها الأولى من نوعها في التاريخ. ومع تدفق الأخبار القاسية والصور المؤلمة والأرقام المرعبة المرتبطة بالنتائج الكارثية لتفشي الوباء في مختلف دول العالم والذي وجد حالياً، على الأقل إعلامياً، مركزه الكوني في القارة الأوروبية، فإن النفس البشرية تطوّر مضادات ذاتية للحماية من الوقوع ضحية الرهاب الناجم عن الخوف الحقيقي أو المتخيل، أو القلق المزمن المرافق للسيء من الأخبار المنهمرة عن طريق مختلف وسائل التواصل، أو التفكير المرتبط بنظرية المؤامرة والمهيمن على بعض العقول ضعيفة التطور أو ضحلة التعليم، وإلى آخره من مركّبات سلبية يمكن أن تزحف لدى الإنسان لتكون أحياناً أكثر فتكاً من الوباء ذاته.

كثيرون، عربياً وغربياً، صاروا يعتمدون وسائل التواصل لنشر الكاذب من الأخبار، المقلقة والمرعبة

لكن السؤال الذي يمكن أن يُطرح على ادغار موران، والذي سيجيب عليه حتما باختصار وبحكمة، فهو عن الوسيلة الأنجع في مجابهة ما ورد في التعابير الأخيرة من طاقات وأمواج وظنون سلبية مدمرة. خصوصاً المنتشر منها بكثافة في نفس المساحة الافتراضية التي أشار إليها من خلال حديثه عن المضادات الاجتماعية التي يمكن أيضاً أن تتطور إيجاباً من خلالها. فكثيرون، عربياً وغربياً، صاروا يعتمدون وسائل التواصل لنشر الكاذب من الأخبار، المقلقة والمرعبة، كما في تفريغ شحنات هائلة من الحقد الشخصي أو المذهبي أو الطبقي (...) على الآخر، مهما كان الآخر بمجرد أن يكون مختلفاً في طريقة التفكير. وقد صار البعض أيضاً يعتمد وسائل التواصل لتعزيز نظرية المؤامرة المرتبطة بأصل وفصل الفيروس المجرم القابع على صدورنا منذ نهاية العام المنصرم. 

وعوضاً عن الاستفادة من هذه التكنولوجيا السحرية التي تسمح، إن رغب الانسان، في تعزيز المناعة النفسية وفي تعزيز ثقافة حوارية بناءة وفي نشر نوع من التوعية المبسطة، وفي هذا الظرف تحديداً، لتفادي ما هو أعظم وبائياً وأظلم إنسانياً، فإنها تستعمل بكثرة لنشر الأخبار المغلوطة والخبرات الكاذبة من كل حدب وصوب. ومن أكثر الأكاذيب الموصوفة انتشاراً، شريط مصوّر باللغة الفرنسية لشخص مجهول يتحدث من خلاله عن امتلاكه لوثائق تثبت إنتاج مخابر معهد باستور الباريسي لفيروس كورونا. مكتفياً في هذا الإطار بإبراز وثيقة تُبيّن طلب المعهد تسجيل "وثيقة" يسميها المتحدث "براءة اختراع" جرى تقديمها، منذ عدة سنوات، إلى الجهة المختصة بتسجيل البراءات في الاتحاد الأوروبي. والهدف كما يرد في الشريط، هو تحقيق الأرباح باختراع مصل له في وقت لاحق. 

جال هذا الشريط على الملايين من البشر، وهذا ما تشهد له منصة الشرائط بأرقامها المعلنة، كما جرت ترجمته إلى لغات عدة ومنها العربية. وصار الشاطر منا يتداوله وينشره كالنار في الهشيم ليؤكّد ما سبق وهرف به عن نظرية المؤامرة المضحكة والمستهزئة بالعقل وبالمنطق. ولم يُكلّف أحدهم النفس بما أوتيت به من رصانة ممكنة أو من تفكير في حدوده الدنيا بالتفكير وبالتمحيص. فالمعهد المذكور حكومي لا ربحي، والوثيقة المبرزة في الشريطة صحيحة وهي كلام حق يُراد به باطلاً لأنها تطلب "براءة اكتشاف" وليس "اختراع" كون هذا المخبر الجاد استطاع اكتشاف فيروس كورونا في نسخته الأولى سنة 2004.

الخبر الكاذب والذي يُدغدغ احتياجات البعض في تصديق ما لا يُصدّق وفي إيهام الذات والآخرين بما لا يُعقل، ينتشر بسرعة ويؤثر بقوة. أما النفي العلمي الهادئ، وإن انتشر بنفس الوسائط، إلا أنه لن يُلاقي من يلتفت إليه وسيمر مرور الكرام. وهذه قاعدة في علم التواصل ولا علاقة لها بهذا الوباء بذاته. فعقب وقوع عمل إجرامي في مكان ما في الغرب، يكفي أن يذكر أحدهم بأنه سمع الجاني يتلفظ بعبارة عربية ليُصار فوراً إلى نسب العمل إلى مجموعة إرهابية عربية. وسيبقى الأمر مهيمناً على الوعي وحتى لو عرف القاصي والداني لاحقاً بأن ما جرى كان مختلف الانتساب وغريب الانتماء عما تم ذكره في الخبر الأصل.

ويبقى السؤال هو عن المسار الأفضل لكي يتم الاعتماد أكثر فأكثر عما تحدث عنه ادغار موران لننتج مضادات اجتماعية/ إنسانية فعالة ونجنب أنفسنا الوقوع في جحيم وباء السلبية؟  

كلمات مفتاحية