مصير الحقيقة وثقافة الاعتذار

2020.02.17 | 23:06 دمشق

2018-05-22t152348z_2084169324_rc1e06ff2400_rtrmadp_3_mideast-crisis-syria.jpg
+A
حجم الخط
-A

هذي البلاد أكبر من الكراهية وأضيق من الحب. تصغر وتتقلص بالأنانية، وتكبر وتتوسع بالإيثار. فيها جزئية من الحقائق الأشد صلابة من كل ما مضى. وفيها جزئية من الخرافات والأوهام الأوهن والأوهى هشاشة من رغوة أيامها. فيها الشحناء والبأساء وفيها الصدقية والحميمية التي تجري من تحتها الأنهار.

أعتقد بأن مالم يجرِ بحثه في قضايا السوريين، وما أكثرها، وما لم يتم التوسع فيه كثيراً، هو ثقافة المراجعة في الشأن السياسي والاجتماعي والثقافي بالمعنى الشمولي. أعني بثقافة المراجعة، ثقافة النقد الذاتي، وفحص التجربة الشخصية والجماعية، ووزنَها بموازين العقل والمعرفة المتجردة والعلم. ثم وضع مجمل تلك التجارب والخبرات العامة والشخصية للأفراد والجماعات، على الطاولة؛ بكامل التجرد عن المؤثرات المسبقة القائمة على العاطفة والمصلحة. هذه الثقافة تكاد تكون معدومة في بلادنا، بل لعلها أقرب إلى المحرمات بنمطية شبه قاطعة.

من المدهش والمثير للانتباه، أن تجد نظاماً بلغ عمره خمسين عاماً من الفشل المتواصل، والتهافت كقطع الدومينو، نظاماً لم ينتصر يوماً إلا على مواطنيه وشعبه، ولم يكن له مأثرة وفخار إلا بقتل ناسه ومواطنيه، واستئصال وجودهم، لم يصدف يوماً أنه قال: "أخطأت يوماً في كذا."، فهو حتى بعد دمار الدولة، وتبخر شعبها وقضم جغرافيتها، بأسنان كل قوارض وكواسر الأرض القريبة والبعيدة، ما يزال يكرر بآلية كالروبوت، نفس الخطاب. ويلوك نفس الكلمات التي لم يعد حتى هو نفسه، أو محازبوه ومؤيدوه يوعبون ماذا تعني بالضبط.

ثقافة عدم المراجعة وبذل أية محاولة لاستعادة فحص التجربة المنصرمة المخفقة، ليس له إلا دلالة واحدة؛ وهو أن كل فعل له ثمن وله نتيجة محتمة

ومن المدهش كذلك، أن أكثرية معارضيه ومقاوميه، وكل من اصطف من أضداده وأغياره، سواءً كانوا ثواراً أو غير ذلك، يتبعون نفس المسلك المتصلب، والعناد القائم على "فكرة ثابتة" يصعب زعزتها، إلا في حالات وهوامش قليلة، وطفرات نادرة لا تكاد تُلمح أو تُسجَّل. فنحن غالباً ما ننسب كل قصور وفشل مرجوعاً إلى (قوة العدو)، أو (قلة الحيلة والدعم)، وإلى (تكاثر المؤامرات) و(شراسة الواقع) و(غدر أو قصور الأصدقاء والشركاء)، و(خيانة الوسط المحيط أو ضعفه وتهافته). وهذه كلها قد تكون جزءاً من الحقيقة، ولا نكران لها. بيد أنه لا يجب أن نذهل عن أن كل هذا التأويل، ينحو نحو ربط القصور بأسبابه الخارجية، للتغطية على عدم كشف المسوغات وأسباب القصور الداخلية والبنيوية الذاتية.

لكن تلك الأسباب الخارجية، بالقطع ليست هي رأس الأسباب، ولا هي مركز الدائرة، في التفسير الذي يستطيع أن يرد الأمور والنتائج إلى أسبابها الحقيقية. وجوهر المشكلة من حيث الوصف الظاهري لها، عادة ما تُنسَبُ نتائجُه النهائية، وتُعلق على إرادة "الحظ والقدر"، أو على مشجب "أعداء خارجيين"، هم أقوى وأكثر قدرة وفاعلية، بحيث لا يوجد تناسب بين سيرورة حركة التاريخ الصارمة، وبين صدمة الخارج المتربص.

كما يُعلل غالباً، كل انهيار وفشل جماعي كبير، وكل صفرية الارتدادات وعدمية النتائج إلى "خونة ومتآمرين"، وإلى طبيعة طوائف وقوميات وأحزاب وبنى عشائرية وبنى أقوامية بعينها. ويصبح للعبارات المتفاصلة أو المتفاهمة بين الأحزاب والجماعات المنظمة واتجاهات التفكير، كالإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية والعلمانية والتشدد والتطرف وعدم الانفتاح والتفهم، يصبح لكل هذه الذُرارة اللغوية، التي تشبه الملح والتوابل المضاف لتحسين نكهة الطعام، معنىً خاصاً، وتميل لاكتساب رغبة لا تقاوم من أجل نسبة الخراب العام إلى مجرد كلمات ومصطلحات، والأهم في الموضوع، أنها تعفي إعفاءً تاماً من مسؤولية كل ما حدث ويحدث. وهكذا لا يعود لأي اعتراف بالهزيمة أو مراجعة للفشل أي معنى، بحيث تغدو الحاجة إلى المراجعة، والتِماس مصير الحقيقة المجردة، نافلةً لا معنى لها. أو الأصدق هي واجب "الآخر" الذي كان المتسبب في حدوثها، وفي الوصول إليها وحصد نتائجها.

ثقافة عدم المراجعة وبذل أية محاولة لاستعادة فحص التجربة المنصرمة المخفقة، ليس له إلا دلالة واحدة؛ وهو أن كل فعل له ثمن وله نتيجة محتمة. إلا العقل الذي أنتج التجربة وصاغ تاريخها وحايث مساراتها، فهو طارئ ومجاني واعتباطي لا وزن له. مضافاً إلى كل ذلك، اعتبار الفشل والخطأ مجرد حادث، (مثل حادث السير مثلاً). حدث بالصدفة خارج العقل الكلي للمنطق، وبالتالي هو مما لا يحكمه قانون العقل. هكذا يصبح رد النتائج إلى أسبابها الموضوعية أمراً متعذراً، ويغدو منطق ربط القصور استتباعاً بالذاتوية البعيدة عن الموضوعية، نوعاً من استيهام الحلول السحرية المفسِّرة والمتأولة.

لو استقصينا عن موجبات مثل هذه الأسئلة، والأسباب المؤدية الى مثل هذا الرفض، والإنكار التام لأي اعتذار عن هذا القصور الذاتي والموضوعي، والمؤدي بالتالي إلى التوصل إلى مبدأ المراجعة العامة للسقوط الحضاري والهزيمة المجتمعية؛ ربما لأمكن أن نسجل بعض الملاحظات المفيدة في أسباب هذا الرفض المتمكن، وإجمال بعضها بالمعللات التالية:

إننا لم نستقلَّ ونتحرر كأفراد، لنا كينونة منفصلة وقائمة بذاتها، وإنما مازال وعينا متماهياً مندمجاً بالخلفية الجمعية، التي لا نشعر بالأمان إلا بعد التأكد من الارتباط بها، والاطمئنان بأننا ننطق باسمها، أو ننجز انتصاراً تحت سقفها، هذا ما يجعل الحماية الجمعية إطاراً كتيماً يوفر حماية أبدية، ويجعل للجماعة مظلتها الأكثر من ضرورية، لحمايتنا كأفراد بلا ضمانة ولا حماية ولا مرجعية.

ثقافة الاعتذار تحتاج إلى فائض نسبي من الانتماء إلى الذات؛ أي إلى ما هو فردي، متمايزاً عن انتمائه الجماعي. وهذا الشعور يؤصل، بكل تأكيد، شعور المرء بأنه كائن حر وشخصي. فهو ليس مجرد "واحد من مجموع". هذا الشعور العالي القدر والإحساس بالانتماء إلى الفردانية، وتمايز الشعور الشخصي بحريته، بعيداً عن الجماعة التي تُعَرِّف هويته، هو شعور مضمحل في الغالب، وفي غاية الهشاشة والتكوين المجتمعي. فالشخصي عادةً هو ما ينمي "ملكة تصحيح الخطأ"، ويرّوِّضُ التقوية على التعرف عليه؛ عارياً ومنعزلاً عن شروطه الجمعية المتماهية بعوامل مختلطة وكثيرة، ولديها فائض معقولية للتمويه والتعمية. وذلك على عكس الشعور بالانتماء إلى المجموع، وأحادية هذا الشعور الذي يساعد على تنمية ميزة و"فضيلة" إلقاء الأخطاء والتبعات دوماً على الآخرين.

ثقافة الاعتذار تحتاج إلى فائض نسبي من الانتماء إلى الذات؛ أي إلى ما هو فردي، متمايزاً عن انتمائه الجماعي

بذلك يصبح "الإصرار" متمكناً وقوياً، بالتوازي مع الخشية أو الخوف من أن عدم الإصرار، أو نقده، قد يوقع في محذور الخروج على الانتماء الجماعي. وأهم البدائل التي تُلَبِّس على الآخر، وتتيح للضمير استمراراً واستقراراً أخلاقياً مناسباً، هو الاستعاضة التعبيرية الإنشائية عن الـ "أنا" بالـ "نحن". وهكذا فإن تعبير "أخطأتُ" يتحول إلى "أخطأنا". و "تسببتُ" يتحول إلى "سبَّبنا لأنفسنا".

ومن أهم أسباب رفض المراجعة والاعتراف بالقصور أيضاً، ما يمكن أن يوصف بأنه العناد النفسي أو الطبيعي. والعناد قصور عُصابي مرضي، تتحكم فيه آليات التحفز الدائم والإصرار، بوصفها جزءاً مهماً من آليات الدفاع عن النفس (المعصوبة). وهو حالة من التحفيز التي تظل على استجابة مستديمة للتطرف في الموقف، بتطرف مقابل. حيث الحقد والشماتة والتشفي هي أشربة ثمينة، لا يجوز تعاطيها من قِبل أيٍ كان، وحيث الغيرة والمواقف التمييزية تغدو طقوساً مقدسة.

في المتداول كذلك، وجود ثقافة جمعية موروثة، تمجد الشخصية الكاملة المطلقة وتعتز وتفاخر بها، وتعتادها كنموذج يُحتذى ويُقاس عليه، مما لا يوفر للشخصية المراجِعة والمتراجِعة، هذا الفضاء المتاح للمقايسة والتماهي مع الشخصيات المطلقة في كمالها المتصوَر. والتي لا يُحتمل أن تخطئ أو تتراجع، أو ينتابها جزئية من العَوَر أو القصور الذاتي.