مصطفى التاجر وعمر حميدة يحكمان حلب

2021.01.25 | 00:03 دمشق

mr_hmydt_ymyn_wmstfy_altajr.jpg
+A
حجم الخط
-A

في فناء جامع الروضة يرتفع بناء بسيط وغريب على أعمدة حجرية. حين تصعد درجاته ينفتح بابه على قاعة مستطيلة وحيدة كبرى تروي الحكاية.

فحين بُني الجامع، في حي «السبيل» الراقي هذا، لم يكن بعيداً عن نهضة مسجدية شهدتها حلب بشكل متنام في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، تداخلت فيها البنية التقليدية للتدين المشيخي مع نمو شبابي بطيء ومتزايد لجماعة الإخوان المسلمين. وضمن هذه البيئة الاجتماعية والذهنية رأى القائمون على الجامع أن يضيفوا إلى مهامه التقليدية هذا البناء شبه المنفصل، ليكون مكتبة للقراءة والدراسة والتفاعل، لا سيما مع انتشار حلقات تدريس المناهج الحكومية نفسها في المساجد، كدروس تقوية مجانية مفتوحة، تجري خلالها تنشئة «الجيل المسلم» عبر أنشطة دينية موازية ومكافأة المتفوقين بأقاصيص ملونة هادفة.

في هذا النسيج سبحت، في جامع الروضة أكثر من غيره، خلايا تنظيم «الطليعة المقاتلة» المسلح لتشكل نوى سرية صغيرة وكتيمة في القاع، تعلوها شبكة شبه سرية لجماعة الإخوان، وفوق الجميع عباءة أوسع من التدين الذي كان من سمات بعض شرائح من الطبقة الوسطى العليا التي سكنت الحي اعتماداً على ثروات جُمعت بطرق مشروعة على العموم، كالصناعة والتجارة والحرف والمهن الحرة، لترسم طابعاً من الرفاهية غير المترفة يسود الحي ويغلّف جامعه.

على رأس هذا الجبل الصغير من اللحى المشذبة والمسابح الطويلة والجلابيات بألوانها والقلنسوات البيضاء و«الأيدي المتوضئة» يأتي الشيخ طاهر خير الله، الذي كان يملأ مركزه كأحد أبرز المشايخ التقليديين من الصف الثاني في المدينة، ومن جانب آخر كان والد زوجتَي رجلين لم يجتمعا بالمصادفة؛ حسني عابو أول قائد لتنظيم الطليعة بحلب، وعدنان عقلة قائدها الثاني والأهم والأخير. وبالإضافة إلى الصهرين كان من رواد الجامع عدد من الشبان الذين سيُعرف أنهم أعضاء في التنظيم من قوائم المطلوبين عقب مجزرة «مدرسة المدفعية» وغيرها من العمليات، فضلاً عمن سيلتحقون به من شباب الإخوان أو بشكل مباشر، بعد اندلاع المواجهات والملاحقات خلال الأعوام 1979 - 1982.

سيصبح جامع الروضة بؤرة اشتباه أمني معلنة ومرصودة دورياً، فينطفئ نشاطه ويتراجع روّاده حتى تركزوا في العجائز والكهول

وخلال ذلك سيُعتقل عابو ويُجبر على ظهور نادم في التلفزيون الرسمي، وسيدخل عقلة في مشواره المتعرج لاستجلاب الدعم للتنظيم ثم لإحيائه، حتى يقع بين أيدي المخابرات العسكرية ويصبح مجهول المصير، وسيقود الشيخ طاهر خير الله عشيرة صغيرة من الأبناء والبنات والأحفاد إلى خارج البلاد حيث سيتوفى بعد سنوات. في حين سيصبح جامع الروضة بؤرة اشتباه أمني معلنة ومرصودة دورياً، فينطفئ نشاطه ويتراجع روّاده حتى تركزوا في العجائز والكهول الذين وجدوا في بناء المكتبة السابقة مكاناً مناسباً لإقامة الصلوات اليومية.

ستمر عقود تغير خلالها وجه المدينة، حتى يحط على الجامع شيخ جديد، هو أحمد بدر الدين حسون، الذي سيصبح مفتي الجمهورية في وقت لاحق، لكن ليس قبل أن يظفر بجامع الروضة، بعد صراعات مشيخية، ويتخذ من منبره محلاً لخطبه، ومن بنائه الحائر المستقل هذا «مضافة» يستقبل فيها زواره الكثيرين والمتنوعين، والوفود في طريقه إلى الصعود، وصالة للمناسبات الاجتماعية والمآتم التي كان آخرها عزاء العميد «الحاج» عمر حميدة، أحد أشهر ضباط الأمن في حلب، المتوفى قبل أيام.

في مطلع 1980، حين عاد حميدة إلى بلده رئيساً لفرع المخابرات العامة (أمن الدولة)، مكلَّفاً من رفعت الأسد قائده في «سرايا الدفاع»، ضمن سعي الأخير للسيطرة على هذا الجهاز؛ لم يكن يعرف أنه سيلتقي هناك بشريك قوي عُيِّن في الوقت نفسه رئيساً لفرع المخابرات العسكرية، هو مصطفى التاجر، الضابط الموثوق عند رئيسه علي دوبا، ولدى حافظ الأسد ذاته، بعد أن بدأ حياته الأمنية بوشاية بمجموعة انقلابية من زملائه في إحدى قطعات الجيش.

والحق أن الضابطين شكّلا ثنائياً لافتاً. ففي الوقت الذي كان فيه الجهازان يتنافسان في البلاد، كانا يتعاونان على خنق المدينة التي كانت أكبر من أن يسيطر عليها أحدهما منفرداً، وإن ترك تضخم المخابرات العسكرية أثره في حلب أيضاً، بتراجع أمن الدولة إلى رتبة ثانية في السلطة المحلية والقمع. وفي الوقت الذي كانت فيه أجهزة الحكم وقوات الجيش والأمن تزداد تطييفاً كان الاثنان من منبت سنّي. بل إنهما كانا، بمعنى من المعاني، ابنَي المحافظة التي حكماها. إذ يتحدر حميدة من عشيرة تقطن حي باب النيرب الطرفي في مدينة حلب، في حين تعود أصول التاجر إلى قرية قرب اعزاز في ريفها.

وقد عمل الاثنان، بشراسة منقطعة النظير سجّلت بعضها مذكرات المعتقلين، على تطويع المدينة لسلطة الأسد من ناحية مركزية، وعلى تقوية سيطرة الريف والعشائر عليها في المجريات المحلية، ما جعل من التناحر السكاني على النفوذ، الذي أخذ شكلاً طائفياً في بقع سورية كثيرة كدمشق وحمص والساحل، تنافساً حلبياً «داخلياً» بين المدينة وأريافها أو أحيائها المترفة بتأثير الهجرة الداخلية المستمرة.

وبخلاف أي ضابطين «غريبين» كانا سيكتفيان بضبط الأمن واعتماد عدد محدود من السماسرة؛ فقد أتاحت عائلة حميدة الكبيرة، وقراباتها الأوسع في عشيرة النعيم، «عزوة» لرئيس فرع المخابرات وعدداً لا يكاد يُحصى من «المفاتيح». وكذلك الحال بالنسبة إلى قرابات التاجر وأبناء منطقته الأوسع. ونتيجة لذلك انخرط رئيسا الفرعين في شتى أنواع «الأعمال» المشروعة وغير المشروعة، يبادران إليها في قليل من الأحيان، وتأتيهم على طبق من ذهب في معظم الحالات، عبر صناعي أو تاجر أو مدير مؤسسة أتيحت له فرصة زيارة خاصة لمكتب «سيادة العميد» بصحبة أحد أفراد شبكته الاجتماعية أو الأمنية، المتاحين دوماً إن امتلكتَ ما يفيد.

وقد كان للطابع المديني الأغلب للتمرد الإسلامي المهزوم والممزق والمعتقل أثره في اهتزاز ثقة الطبقة الوسطى بنفسها وبمكانها من الأرض، فعمد كثير من فاعليها الاقتصاديين والاجتماعيين والدينيين إلى بناء علاقة ثقة استباقية مع من يُتاح من ضباط الأمن أو صف ضباطه أو عناصره أو من يلوذ بهم. وذلك على خلاف مدينتين مرّتا بتجربة مشابهة نسبياً؛ دمشق التي سلكت، في العموم، وفق قاعدة «الضرورات تقدّر بقدرِها»، وحماة التي قادها الرعب المفرط إلى نظام «بعّد عن الشر وغني له» متجنبة التعامل مع أي من ممثلي السلطة، سلباً أو إيجاباً، إلا بأضيق الحدود.

كانت ردة الفعل الأولى لمدينة حلب على بدء الاحتجاجات هو الاستدعاء الفوري لذاكرة التأديب والتطويع الوحشيين اللذين تعرضت لهما في الثمانينيات

وإن كانت الثمانينيات عقد العصا الغليظة، فإن الجزرة ستأتي في مطلع التسعينيات، مع الإفراج عن عدة آلاف ممن بقي حياً من المتهمين بالانتماء إلى الإخوان المسلمين، وصدور قوانين الاستثمار التي أعادت ضخ الدم في أوردة القطاع الخاص الذي تقلص بشدة نتيجة الركود. نشطت الورشات الصغيرة في حلب وعمد الصناعيون إلى بناء معامل أكبر ودارت عجلة التصدير. أخذت جراح المدينة تلتئم مع معالم الوفرة المالية المرشحة للنمو. وصلت السيارات «الحديثة» وبيكآبات السكودا وانتشرت محلات الشاورما والوجبات السريعة. دخل الأتاري والسيديات والصحن اللاقط للقنوات الفضائية ثم مقاهي الإنترنت. زاد السفر إلى روسيا وإلى بلاد المنظومة الاشتراكية السابقة لمتابعة الأعمال وخيانة الزوجات. تحسنت العلاقات مع تركيا المجاورة وصارت رحلات التسوق والسياحة العائلية إليها في عطلة نهاية الأسبوع أمراً في متناول الكثيرين... ثم جاءت الثورة!

كانت ردة الفعل الأولى لمدينة حلب على بدء الاحتجاجات هو الاستدعاء الفوري لذاكرة التأديب والتطويع الوحشيين اللذين تعرضت لهما في الثمانينيات على يد فرع الأمن العسكري برئاسة التاجر، وفرع أمن الدولة بقيادة حميدة، مع المؤازرة الممكنة لفرع الأمن السياسي، قبل تأسيس فرع المخابرات الجوية الذي تصرّف كجهاز مختص بالطيران لأعوام طويلة. والمقارنة بعقدين معقولين لاحقين ينطبق عليهما تعبير «كنا عايشين»!

ومن هنا يخطئ من يظن أن حلب مدينة موالية للنظام. فالأدق أن توصف بأنها، في الطابع الأعم، خائفة من الثورة، فأملها في التغيير ضعيف. لا تتضمن سجالاتها الداخلية مدحاً للسلطة أو إيماناً بها بقدر ما تؤكد على فشل أي محاولة لاستبدالها، واعتبار ذلك نوعاً من المغامرة المجرّبة سابقاً بثمن باهظ. وهو ما رسخه ثنائي التاجر– حميدة في أعماق نفوس أبنائها، قبل أن يغادر الأول مترقياً إلى دمشق، ثم يموت بشكل مفاجئ في مزرعته عام 2003، ويتقاعد الثاني ويدخل شيخوخة طويلة. وبينما نفع الولاءُ المضمون أبناء التاجر في الالتحاق بالحاشية الجديدة، فإن ولدَي حميدة لم يحظيا بأكثر من تسهيلات محلية. أما الزواج الذي جمع العائلتين في أمتن سنوات ود الضابطين، باقتران عمر، أكبر أبناء التاجر وأشدهم رهبة وفساداً وقتئذ، بابنة حميدة؛ فقد خلّف أحفاداً يقيمون اليوم في لندن بعد أن خربت حلب.