مسلسل معاوية والطائفية السياسية وسياسات الهوية

2023.03.04 | 05:43 دمشق

مسلسل معاوية والطائفية السياسية وسياسات الهوية
+A
حجم الخط
-A

يبين عزمي بشارة في كتابه الضخم "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة" أن الصراعات التي درات بين الصحابة في أثناء نقاشاتهم لاختيار خليفة للرسول الكريم، وكذلك الصراع بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب ومناصريهم، أو ما بات يعرفة بـ "الفتنة"، هي في حقيقتها صراعات سياسية تتعلق بالقرابة والمصالح والطموحات الشخصية للزعماء القبليين آنذاك وليس لها أي علاقة بالعقائد الإسلامية والفقه، لا من قريب ولا من بعيد.

ودليله على ذلك أن المحاججات التي دارت بين الصحابة من أنصار ومهاجرين وأوسيين وخزرج وقرشيين ليس لها علاقة بالإسلام وعقائده، ولم تستند إلى آيات من القرآن الكريم أو أحاديث من السنة النبوية الشريفة، وإنما انطلقت من أحقية كل قبيلة بالزعامة ومكانتها بين القبائل ومدى جدارتها في إدارة الدولة في هذه المرحلة والطموحات الشخصية لعدد من الزعماء القبليين. فقال الأنصار إنهم الأولى بالخلافة لأنهم ساندوا الرسول الكريم سنوات طويلة، وقال القرشيون إنهم أول من آمن برسالة الإسلام. مثلما اقترح بعضهم "مداولة الخلافة" بين الأنصار والمهاجرين، كما رفض عمر بن الخطاب أن تكون الخلافة في الأنصار لأنهم قبائل ضعيفة ولن تدين لها بقية القبائل العربية. وانتهت تلك النقاشات بمبايعة أبي بكر بعد ما بايعه زعيم الخزرج بشير بن سعد لكي لا تؤول الخلافة إلى زعيم الأوس الحباب بن المنذر، في خطوة فُسرّت على أنها "حسد" وغيرة بين أبناء العمومة (الأوس والخزرج). وما يقال على هذا الخلاف يقال أيضا على الخلاف بين معاوية وعلي الذي لعبت فيه حسابات المصالح والسياسة والتحزبات القبلية الدور الأساسي.

الانقسام اليوم بين الشيعة والسنة لم يكن موجودا في القرون الأولى من الإسلام. وإنه انقسام تم "تخيله" في عصور لاحقة

وما يريد أن يقوله بشارة من كل ذلك أمران، الأول أن الصراع على "السلطة" هو الذي يقبع خلف كل تلك الأحداث، وهذا أمر طبيعي فالشعوب تختلف أكثر ما تختلف على السلطة. والثاني أن الانقسام اليوم بين الشيعة والسنة لم يكن موجودا في القرون الأولى من الإسلام. وأنه انقسام تم "تخيله" في عصور لاحقة، حتى إن مصطلح "سنة" لم يذكر أبدا في القرن الأول من تاريخ الإسلام. والمسلمون كانوا على وعي تام بأن خلافاتهم حول الملك والسلطة ليس لها أبعاد دينية أو فقهية.

ولذلك نجد أن بشارة يميز بين الطائفية السياسية (كما هو حال الطائفية اليوم) والطائفية الاجتماعية. الطائفية الاجتماعية كانت موجودة في التاريخ الإسلامي، حيث انتشرت الفرق الدينية والمذاهب الفقهية واختار كل فريق ما يراه مناسبا فقهيا للدين الإسلامي، من دون أن ينظر كل فريق إلى الآخر على أنه غريم سياسي أو عدو وما إلى ذلك. حتى إنك قد تجد في المدينة الواحدة عدة فرق دينية وطوائف من دون أن يطفو ذلك على السطح، ولعل هذا ما يفسر لماذا "شلل" الأصدقاء في جيل السبعينات والثمانينات – مثلا- لا يعرفون حتى مذاهب بعضهم الدينية، ولا يهتمون لذلك أصلا. 

أما الطائفية السياسية اليوم فهي التي تدفع إلى تحويل الفرق والمذاهب الدينية إلى كيانات سياسية بحيث تم تصعيد الاختلافات الدينية إلى مصاف الخلافات سياسية، بدوافع سياسية وليست دوافع دينية. بعكس مراحل الإسلام الأولى التي أبقت على الصراعات السياسية في دائرة السياسة ولم تدفع بها إلى دائرة الدين من جهة، مثلما أبقت على الاختلافات بين الفرق والمذاهب الدينية في حدود الدين والفقه ولم تدفع بها إلى دائرة الصراعات السياسية.

ومشكلة الطائفية السياسية أنها تسيّس أي بحث تاريخي أو مسلسل درامي عن التاريخ الإسلامي لأنها لا تريد أن ترى في ذلك التاريخ إلا تاريخا يعكس صراعات اليوم (بأثر رجعي). أو تبحث عن صراعات اليوم في التاريخ لكي تجعل منها صراعات قديمة تحكم وجود المسلمين منذ ظهور الإسلام. وعلى ذلك يمكن ملاحظة أن كل من يقف - بحماسة - مع أو ضد مسلسل معاوية المزمع عرضه في شهر رمضان هو غارق في نوع من الطائفية السياسية، ولا يرى في التاريخ سوى امتداد للطائفية السياسية (المتخيلة). وهذا كله بتأثير من "سياسات الهوية التي تمارسها معظم أنظمة المشرق العربي وإيران منذ ثمانينات القرن الماضي. والمقصود بسياسات الهوية تلك التي تسعى إلى تحويل الاختلافات المذهبية والطائفية، وهي ظاهرة طبيعية موجودة في كل الأديان ولدى كل الشعوب، إلى صراعات سياسية تجعل من الناس فرق متناحرة مما يسهّل السيطرة عليهم من قبل تلك الأنظمة والفئات التقليدية التي تتبعها". 

يذكر أن المؤرخ هشام جعيط الذي أرخ للفتنة الكبرى في كتابه المعروف "الفتنة" قد نبه إلى أن الخلاف بين علي ومعاوية لا يمكن فهمه، بأي شكل من الأشكال، على أنها خلاف بين فريق سني وفريق شيعي، بدليل أن أبا موسى الأشعري (وكيل علي) رشّح عبد الله بن عمر بن الخطاب للخلافة كحل وسط (معلومة متفق عليها)، وأن عمر بن العاص (وكيل معاوية) رفض ذلك رفضا قاطعا، مما يعني أن الأمر كان خلافا سياسا وقبليا متعلقا بالثأر لمقتل عثمان بالدرجة الأولى والصراع على منصب الخليفة، وليس ذا بعد مذهبي أو طائفي. بل إن جعيط يرفض حتى رواية أن الأشعري خلَعَ علي بن أبي طالب، وأن عمرو بن العاص ثبّت معاوية لأنها رواية ساذجة، على الرغم من أن الأجيال تتناقلها منذ زمن الفتنة. ذلك أن استيلاء معاوية على السلطة كان بسبب الانشقاقات التي حصلت في صفوف أتباع علي بالدرجة الأولى. الأمر الآخر الذي ينبهنا إليه جعيط أن كتب التاريخ التي كتبت عن الفتنة، في زمن قريب منها، لم تعطِ أهمية كبيرة لتلك الفتنة، وأن الحديث عنها كان يمر في تلك الكتب من خلال عبارات محدودة، مما يعني أننا اليوم نعطي أهمية كبيرة للخلاف بين علي ومعاوية أكثر من الأهمية التي أعطاها عصرهم لذلك الخلاف.

أما بالنسبة إلى طه حسين فإنه لم ينجح في مساعدة المسامين على التحرر من الصراع مع بعضهم من خلال التاريخ، وبقي كتابه "الفتنة الكبرى" يدور في فلك استعراض الروايات والرويات المعارضة.

وما نريد أن نقوله في نهاية المقال ثلاث نقاط:

الأولى، أن التوتر بين من يؤيد ويعارض مسلسل معاوية المرتقب عرضة في شهر رمضان يعود إلى ازدهار الطائفية السياسية اليوم في المشرق العربي وإيران ولا يعود إلى الظروف والأحداث التي مرت في تلك الفترة. ذلك أن الصراعات السياسية على الحكم أمر طبيعي في تاريخ الشعوب وهناك الآلاف من تلك الصراعات التي ذهبت اليوم أدراج الرياح، ولم تعد تهم سوى فئات محدودة من المؤرخين والمهتمين بالتاريخ.

المتعصب لا تهمه الحقيقة، بقدر ما يهمه استغلال تلك الرموز للصراع مع الآخرين

الثاني، أن احترام الرموز الدينية شيء مختلف كليا عن التعصب لتلك الشخصيات. فالتعصب لمعاوية أو علي، أو التعصب ضد أحدهما، لا يعني أكثر من الانتصار الأعمى للرأي. وفي الغالب فإن المتعصب لا تهمه الحقيقة، بقدر ما يهمه استغلال تلك الرموز للصراع مع الآخرين. ولذلك نجد أن غالبية المتعصبين لأحد الرجلين كثيرا ما ينزلقون باتجاه تزوير الحقائق والأحداث التاريخية، والتكتم عن المواقف الحساسة.

الثالثة، أن إغراق الناس في خلافات طائفية متخيلة أمر لا يخدم قضية الديمقراطية والعدالة التي يسعى إليها سكان المنطقة العربية منذ عام 2011 بوتيرة عالية، بل يخدم الثورات المضادة التي تريد أن تلهي الناس عن مطالبها في الحرية والكرامة. وما حديث "الفرقة الناجية"، وهو حديث ضعيف بحسب المختصين بعلم الحديث، سوى محاولة من قبل الحكام، عبر استخدام فقهاء البلاط، من أجل تحويل الاختلافات بين المذاهب والفرق الدينية من اختلافات طبيعية إلى اختلافات تستوجب التناحر والصراع، وجعل الحقيقية واحدة مطلقة، ولا سيما أن هذا الحديث يتنافى مع معاني آيات من القرآن الكريم تثمن قيم الاختلاف بين البشر وتحترمها.