"مسرحية الكيماوي" المرتقبة

2018.09.01 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عقب البيان الذي أصدرته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في ذكرى مجزرة الغوطة الكيميائية الرهيبة، التي أثبت تحقيقات الأمم المتحدة الجنائية بما لا يدع مجالاً للشك بأن النظام هو مرتكب الجريمة، بدأت الآلة الإعلامية الروسية ومعها إعلام الحلفاء بالحديث عن "مسرحية" تُحضَّر لهجوم كيميائي مزعوم قيل إن هدفه تضليل الرأي العام وتبرير الهجوم الدولي على ميليشيا الأسد، ويتضمن الزعم أن الجهة التي تحضر هذه المسرحية هي هيئة الدفاع المدني أو "الخوذ البيضاء"، وفي موازاة هذه المسرحية المزعومة هنالك زعم أيضاً بأن جبهة النصرة" تحضر لهجوم بالكلورين والغازات السامة وتم تحديد أماكن الهجوم في البداية بأنها "كفرزيتة" في ريف حماة الشمالي، ثم قيل إنها ستكون في "معرة النعمان" .

الحديث عن "مسرحية الكيميائي" المفبركة بدأ في الواقع منذ مجزرة الغوطة المحاصرة في 21 آب/أغسطس 2013، عندما كرر ذلك بشار الأسد نفسه والعجوز الشمطاء بثينة شعبان ووزير إعلامه وقتها عمران الزعبي نكران أن يكون هنالك حادثة وقعت، وأن الهجوم الكيميائي المزعوم هو هجوم مفبرك بالكامل، ولأن الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) لم يكن قد تأسس له فروع  في جنوب سوريا بعد لم يذكرها النظام وإنما اتهم بها المعارضة، وقالت بثينة شعبان وقتها، في واحد من أغرب التصريحات وأغباها، في مقابلة مع سكاي نيوز إن "المسلحين خطفوا الأطفال والرجال من قرى اللاذقية وأحضروهم إلى الغوطة حيث وضعوهم في مكان واحد واستخدموا ضدهم الأسلحة الكيماوية" (4 أيلول/سبتمبر 2013). وهذا الحديث عن مسرحية الكيميائي كان أيضاً رداً إعلامياً على تهديد الولايات المتحدة الأمريكية بضرب قوات النظام رداً على تجاوز خط أوباما الأحمر.

يتكرر الأمر إذاً هنا في محاولة لتضليل الرأي العام، ويدرك النظام سلفاً أن الدول الغربية لا تصدق ما يقوله،

الخوذ البيضاء هي الشاهد الموثوق في العالم؛ لأنها منظمة مدنية تطوعية وليست سياسية، ولا تتبع لأي جهة معارضة، ولأنها الشاهد الحي والمباشر على مجازر النظام وحلفائه وفظائعهم وبشكل خاص الكيميائية منها، فإنها أصبحت هدفاً مشتركاً لهم جميعاً.

وتعرف تماماً أنه ارتكب أكثر من 221 هجوما بالكيميائي العديد منها بالسارين حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وجميع التحقيقات التي أجريت وجهت إصبع الاتهام بشكل حاسم إلى المجرم المعروف، أي إلى نظام الأسد، ولهذا عرقلت روسيا تمديد "الآلية الدولية" للتحقيق في الكيميائي التي صلب مهمتها تحديد المسؤول عن استخدام السلاح الكيميائي؛ لأن محققي الآلية الدولية أثبتوا أن قوات الأسد هي المسؤولة عن ارتكاب المجازر الكيميائية.

الخوذ البيضاء هي الشاهد الموثوق في العالم؛ لأنها منظمة مدنية تطوعية وليست سياسية، ولا تتبع لأي جهة معارضة، ولأنها الشاهد الحي والمباشر على مجازر النظام وحلفائه وفظائعهم وبشكل خاص الكيميائية منها، فإنها أصبحت هدفاً مشتركاً لهم جميعاً. ولكن النظام وجد نفسه أمام سؤال عن السبيل الأمثل للتعاطي مع منظمة مدنية غير مسيسة للطعن في نزاهتها؟ وجد هو والروس وحليفهم الإيراني في مصطلح "الإرهاب" سببيلهم، ولأن المنظمة لا تمارس أي نوع من النشاطات غير السلمية، فقط كان ربطها بمنظمة مصنفة إرهابية مثل جبهة النصرة هو التعبير الدائم الذي سيتكرر كلما تم الحديث عن الخوذ البيضاء. من هنا أيضا نفهم ليس فقط الهجوم والكراهية الكبيرة التي خصصت بها هذه المنظمة الإنسانية بل أيضاً تكرار ربط الخوذ البيضاء بـ "مسرحية الكيميائي"، إنها إذا عملية مزدوجة، ربط المنظمة بالإرهاب على أساس فرضية أنها على صلة بالنصرة أو تتبع لها، ثم اتهامها بممارسة الإرهاب ذاته عبر مسرحية ملفقة والهدف هو تأليب الرأي العام المحلي والعالمي والتمهيد للهجوم على قوات النظام، بحسب الرواية التي يريد أن يسوقها النظام ردا على هجوم عليه محتمل فيما لو استخدم السلاح الكيميائي في معارك إدلب.

ثمة سبب آخر للإصرار على تعبير "مسرحية الكيمياوي" وهو التشكيك بفكرة استخدام النظام نفسه للسلاح الكيميائي، وإظهار أي ادعاء عليه باستخدامه على أنه دعاية مشكوك في صحتها في ظل الاتهامات المتبادلة بين النظام والمعارضة، خصوصاً إذا ما انجرت المعارضة إلى دعاوى غير مؤكدة عن تحريك كميات من السلاح الكيميائي لاستخدامه في المهجوم على إدلب، هكذا إذا دعوى أن النظام يمكن أن يستخدم السلاح الكيماوي ضد السكان أو المعارضة أمر صارت خاضعة للتشكيك قبل حدوث الواقعة أو ربما الوقائع.

لكن هذه الاستراتيجية يمكن أن تكون ذات تأثير على الأوربيين والأمريكيين لولا أن التحقيقات المستقلة أثبت أنه هو فقط من يستخدم هذا السلاح ضد السكان والمعارضة، وإذ يدرك النظام ولا شك ذلك فإننا يمكن أن نجزم بأن أحد أهداف هذا الخطاب المتكرر حول الكيميائي هو الظهور الشكلي بمظهر الضحية، وإيجاد رواية وسردية بديلة تغطي وحشيته وتموه نواياه.

ولكن الأهم ما استنتجه السوريون والأصدقاء الغربيين (خصوصاً الدول الثلاثة) انطلاقا من خبرتهم في تكرار هذا الخطاب وهو نية النظام الحاسمة لاستخدام الكيميائي في الهجوم على إدلب.

بالعادة يستخدم النظام الكيميائي لاستعجال الحسم، وهذا الاستخدام كما هو في دوما وقبلها في حلب، فلإسقاط مدينة حلب استخدام للكيماوي ثماني مرات على الأقل على جبهات المعارضة.

دعونا نتذكر أن الهجوم الروسي مع ميليشيا النظام وحلفائه على الغوطة رافقه دعوى بمسرحية للكيميائي تحضرها الخوذ البيضاء، بل ذهب النظام أبعد من ذلك حينما أنشأ استوديوهات وصور مقاطع فيديو تحاكي المجازر التي يرتكبها النظام وتم تصويرها بإشراف المخرج نجدت أنزور، وفي مفاوضات الروس مع جيش الإسلام للاستسلام هددوهم باستخدام الكيماوي بكل صراحة، ولم تمض 24 ساعة حتى حصل ذلك بالفعل وأدى إلى توقيعهم اتفاق الخروج من دوما وتسليمها. 

بالعادة يستخدم النظام الكيميائي لاستعجال الحسم، وهذا الاستخدام كما هو في دوما وقبلها في حلب، فلإسقاط مدينة حلب استخدام للكيماوي ثماني مرات على الأقل على جبهات المعارضة بين ين 17 نوفمبر/تشرين الأول و13 ديسمبر/كانون الأول 2016، ما أدى إلى انهيارها بشكل سريع، وُثقت هذه الهجمات من قبل منظمة هيومن رايتس ووتش بتقرير مفصل نشرته في 13 شباط/فبراير 2017، وهذا يعني أنه بإعلانه أو دون إعلانه عن "مسرحية الكيماوي" المزعومة هو سوف يستخدمه بإشراف روسي لتحقيق حسم عسكري.

ما يزال يتكرر الحديث بشكل يومي عن "المسرحية الكيماوية" إن لم نقل إنه يتكرر كل ساعة بوتيرة متصاعدة، أمس مثلاً أعلن وزير الخارجية الروسي أنه "ليس هناك أي شك في أنه يجري التحضير لاستفزاز باستخدام الأسلحة الكيميائية بمحافظة إدلب السورية، وقال "لن أتحدث عن خطر استخدام أسلحة كيميائية، بل عن خطر تنفيذ عمل استفزازي، من أجل اتهام الحكومة السورية بذلك، لأنه يجري التحضير لمثل هذا الاستفزاز دون شك". وتابع: "في الأمم المتحدة، وفي لاهاي حيث مقر منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية، قدمنا حقائق محددة حول ذلك حصلنا عليها من مصادر مختلفة". (31 آب/أغسطس 2018) أي أنهم لا يكتفون بالمزاعم وإنما يحاولون تضليل المنظمة الدولية أيضاً عبر تقديم معلومات مفبركة.

لكن لماذا هذا التكرار اليومي؟ ثمة سبب آخر يبدو وراء ذلك، وهو الأثر النفسي على السكان ودفعهم للاستسلام والضغط على التنظيمات العسكرية بالحاضنة الاجتماعية، بمعنى آخر إشاعة الرعب كسلاح عسكري غير مرئي وفعال. على أن كل ذلك ينبغي أن يجعل أن يدفع التنظيمات العسكرية لاتخاذ الاجراءات اللازمة لمواجه مثل هذا التحدي، إبعاد المدنيين عن الجبهات لأعماق آمنة، واتخاذ احتياطات تتعلق بالأماكن ذات الكثافة السكانية، والاستعداد لحرب شرسة.