مسرحية الحل الدستوري

2018.06.24 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

منذ مؤتمر "الحوار الوطني" الذي عقد في سوتشي في أواخر يناير/ كانون الثاني من هذا العام، بدا واضحاً أن مفهوم الحل السياسي للمسألة السورية كما تراه موسكو يتلخص في كتابة دستور جديد لسوريا، وقد عقدت موسكو المؤتمر المذكور بمن حضر من السوريين، فقد رفضت الكثير من القوى السياسية المعارضة حضور المؤتمر، في إطار حملة واسعة، شملت تخوين أي طرف سوري معارض يوافق على الدعوة الروسية لحضور المؤتمر، لكن موسكو، ووفقاً لما وضعته من تصوّرات، ونتيجة لفهمها لميزان القوى الإقليمي والدولي، اعتبرت أن مجرد عقد المؤتمر هو نجاح لها، إذ أنه سيستكمل مسار محادثات أستانة من جهة، وسيدعم، من جهة ثانية، رؤيتها النهائية لترتيبات المسألة السورية.

كانت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما تنتج خطّاً جديداً لاستراتيجية واشنطن في العالم، يقوم على التوجه شرقاً من أجل احتواء تصاعد مكانة الصين، والتخلّي عن حلفائها التقليديين في دول الخليج.

ومنذ بداية الانتفاضة السورية في منتصف مارس/ آذار 2011، والتي أعقبت الربيع العربي، كان الموقف الروسي واضحاً تجاه ما يجري في سوريا وفي المنطقة، ويقوم على رفض التحولات التي ستنتج عن الربيع العربي، خصوصاً في مجال المصالح والعلاقات الدولية، والذي سيفقد موسكو موقعها في منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي كانت فيه إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما تنتج خطّاً جديداً لاستراتيجية واشنطن في العالم، يقوم على التوجه شرقاً من أجل احتواء تصاعد مكانة الصين، والتخلّي عن حلفائها التقليديين في دول الخليج، وتحديداً السعودية، لمصلحة تقارب أكبر بين واشنطن وطهران، وهو الأمر الذي سيتكشّف في الملف النووي لإيران.

ترى موسكو، وفقاً لتجربة طويلة خاضتها مع أمريكا والغرب خلال الحرب الباردة، بأن كل الدعوات الأمريكية لنشر الديمقراطية في العالم هي مجرد دعوات براغماتية، خالية من أي مسعى جدي، فالصراع الدولي لا يقوم على نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنما على احتكار منابع الطاقة، والتنافس في سوق العمل الدولي، وتأمين أوسع تحالفات، من أجل تحقيق المصالح الاقتصادية العميقة، وأن دخول أمريكا إلى العراق في عام 2003، أتى في بيئة دولية لم تكن فيها موسكو قادرة على الممانعة، خصوصاً بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، والتي سمحت لأمريكا بحصد تعاطف عالمي مع سياساتها.

وبناءً عليه، فإن موسكو سعت إلى وضع القانون الدولي، بما يخص سيادة الدول، والذي قامت عليه الأمم المتحدة، في حالة تعارض مع تغيير الأنظمة، وتمكنت عبر صوتها الحاسم في مجلس الأمن من استخدام الفيتو، المرّة تلو المرّة، لمصلحة النظام السوري، كما شرعنت تدخلها من خلال طلب النظام لها بالدخول إلى سوريا، ورفعت، كما رفع التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، شعار مكافحة الجماعات المتطرفة، واضعة بذلك جميع القوى المسلحة المعارضة في سلّة واحدة، لتتمكن فعلياً من إضعاف جميع تلك القوى، وفي موازاة ذلك، أنتجت توافقاً إقليمياً يدعم توجهاتها، وهو ما عرف لاحقاً بالدول الثلاث الضامنة (روسيا، إيران، تركيا).

تدرك موسكو بأن أي حل سياسي في سوريا سيكون نتيجة طبيعية لمخرجات القوة في مسرح العمليات العسكري، مع تغيير مواقف اللاعبين الإقليميين، والاستفادة من التناقضات بين مواقف الدول المعنية بالمسألة السورية، وفي هذا الوعي السياسي الروسي لا يمتلك النظام السوري، ولا المعارضة السياسية السورية، أي وزن حقيقي، فالمسألة السورية خرجت كلياً منذ بيان جنيف1 بتاريخ 30 يونيو/ حزيران 2012، من يد السوريين، وأصبحت مسألة إقليمية ودولية.

إن الأصوات الإقليمية والدولية الداعمة سابقاً لفكرة الانتقال السياسي، وإنشاء هيئة حكم انتقالية، تراجعت كثيراً، لكن تمسك المعارضة السياسية بهذه الفكرة يبدو نوعاً من المكابرة، ولا يستند إلى أي موازين قوة.

النقطة المفصلية والخلافية بين موسكو الداعمة للنظام السوري وبين القوى الإقليمية والدولية الداعمة للمعارضة السياسة، هي أن الحل السياسي يجب ألا يمر عبر هيئة حكم انتقالي، لأن فكرة الحكم الانتقالي يجب أن تستند إلى توازن في القوة بين النظام وداعميه وبين المعارضة وداعميها، وقد عملت موسكو فعلياً على تغيير مسرح العمليات، وتمكنت منذ دخولها في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، من تغيير موازين القوى، والذي حوّلها إلى اللاعب الأول في الملف السوري، في الوقت الذي تراجعت فيه الكثير من الدول الداعمة للمعارضة عن الاستمرار في الدعم المالي أو السياسي، ما أسهم في إضعاف مواقفها، ودفعها إلى حالة من انعدام الفعل.

إن الأصوات الإقليمية والدولية الداعمة سابقاً لفكرة الانتقال السياسي، وإنشاء هيئة حكم انتقالية، تراجعت كثيراً، لكن تمسك المعارضة السياسية بهذه الفكرة يبدو نوعاً من المكابرة، ولا يستند إلى أي موازين قوة، فالأوضاع العسكرية والإقليمية التي جعلت من هذه الفكرة واقعية بين 2012 و2015 لم تعد قائمة الآن، كما أن دول الخليج التي ساندت فكرة إنشاء هيئة حكم انتقالي تجد نفسها اليوم منحازة إلى موسكو، فما يهمها هو تحجيم إيران في سوريا، وليس حدوث تحول سياسي ديمقراطي، وبالتالي فإنها لم تعد معنية بدعم المعارضة السورية، بقدر ما هي معنية بأن تقوم موسكو بتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا.

ووفقاً لكل التحولات الكارثية التي أصابت مواقف المعارضة السياسية، والذي تتحمّل فيه الكثير من المسؤولية، نتيجة قراءاتها الخاطئة في العلاقات الدولية، والممارسات الفعلية للسياسة، فإن أقصى ما يمكن أن تفعله اليوم هو البقاء في موقع المعارضة، بينما تقوم موسكو بإخراج مسرحية الدستور، كحل للمسألة السورية، من أجل إسدال الستار على الصراع الوطني والسياسي، وإجراء انتخابات تصب في مصلحة موسكو، تؤمن لها بقاءً طويلاً في المسرح السوري، يضمن لها مصالحها الاستراتيجية في الملفات الحيوية، وخصوصاً في ملف الطاقة.

 لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن أن تنتج مثل هذه المسرحية حلاً يؤمن الاستقرار لسوريا، أم أنها مقدمة لمسلسل لن ينتهي من الفوضى؟

كل التجارب المماثلة للوضع السوري، كما في أفغانستان والعراق وليبيا، تقول بأن انهيار الدولة، وتحولها إلى دولة فاشلة، وتحكم الخارج بالقوى المحلية، لا يمكن أن يؤمن الاستقرار، بل من شأنه أن يخلق أشكالاً جديدة من الفوضى، يمكن لها أن تستمر لعقود طويلة.