مستقبل الانفتاح على «هيئة تحرير الشام»

2021.02.15 | 00:02 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

على الأرجح، ستكون الصورة التي جمعت أبو محمد الجولاني بالصحفي الأميركي مارتن سميث، والانطباع الذي أحدثته، هي أقصى ما سيحصل عليه قائد هيئة تحرير الشام من صانع الوثائقيات المخضرم ذي السبعين عاماً. هذا، على الأقل، ما تقوله خبرة نظام بشار الأسد مع سميث، الذي قضى مدة في مناطق سيطرة «الحكومة السورية» في تموز 2015، وصاحبه في تنقلاته بين دمشق وحمص والساحل عقيد في المخابرات الجوية أمّنه المخرج الموالي المعروف نجدت أنزور.

ورغم ذلك لم يستطع النظام عرض الفيلم الذي أنجزه سميث، بعد عدة أشهر، بعنوان Inside Assad's Syria (داخل سوريا الأسد). فبإضافة مقاطع صغيرة ولمسات حساسة، هنا وهناك، على المادة الدعائية التي حرص ممثلو النظام المتنوعون على إسماعه إياها بأشكال مختلفة، استطاع سميث تصوير الحقيقة عن الاحتجاجات التي بدأت سلمية، والرد العسكري غير المتناسب عليها، وحرص المسؤولين الحكوميين على ستر الواقع، والعمق الطائفي للصراع، ومحاولة تصوير فصائل المعارضة على أنها داعش أو درجات منها، واستهداف السكان المدنيين بذريعة أنهم حاضنة للإرهاب... إلخ

بانتظار الأشهر التي ستنقضي قبل نشر فيلم سميث عن إدلب ربما سنقرأ أكثر من ورقة على غرار التي أعدّها نوح بونزي ودارين خليفة، الباحثان في مجموعة الأزمات الدولية، بعنوان «في إدلب السورية، فرصة واشنطن لإعادة تصوّر مكافحة الإرهاب»، وتلك التي كتبها السويسريان جيروم دريفون وباتريك هايني وترجمت إلى العربية بعنوان «كيف أضحى الجهاد العالمي محلياً مرة أخرى؟ وإلى أين يقود ذلك؟...».

يعرض الجولاني على العالم، سوى الملابس الغربية التي ظهر بها إلى جانب سميث، تعهداً نهائياً بألا تُستَخدم الأراضي التي يسيطر عليها للإعداد لأعمال إرهابية خارجية

هذه الجهود هي حصيلة تلاقي مسارين اشتغلا خلال العام الماضي؛ الأول هو رغبة الجولاني، وجزء محدود من فريقه، في الانفتاح على الغرب والتطبيع معه، بهدف البقاء أولاً، واستجرار الدعم الإنساني لإدلب ثانياً، ومحاولة تغيير تصنيف الهيئة كمنظمة إرهابية ثالثاً وعلى المدى الطويل. والمسار الثاني هو رغبة عدد، محدود هو الآخر، من الباحثين الدوليين في «التغريد خارج السرب» كما يقال، آخذين في الاعتبار وجود الهيئة كقوة أمراً واقعاً مستمراً على المدى المنظور، تحكم أكثر من ثلاثة ملايين من السكان المنهكين، واستعصاء الحل السياسي الشامل في البلاد، وإجراءات متزايدة تتخذها الهيئة للخروج من صورة التنظيم الجهادي العابر للحدود إلى أن تصير حركة «ثورية إسلامية» محلية تهدف إلى حماية مناطقها في الحد الأدنى، وإسقاط نظام دمشق على مدى أبعد غير واضح المعالم.

يعرض الجولاني على العالم، سوى الملابس الغربية التي ظهر بها إلى جانب سميث، تعهداً نهائياً بألا تُستَخدم الأراضي التي يسيطر عليها للإعداد لأعمال إرهابية خارجية كما كانت أفغانستان ذات يوم؛ سواء من طرف الهيئة التي يقودها أو من قبل مجموعات جهادية صغيرة على يمينها، أبرزها جماعة «حراس الدين» الفرع السوري الرسمي لتنظيم القاعدة.

في ما يخص الأولى، يقول أبو محمد: إن الهيئة لا تهدف إلى إقامة إمارة إسلامية، بدليل تخليها عن السلطة لإدارة مدنية هي حكومة الإنقاذ التي انبثقت عن مؤتمر شعبي ويجري تداول حقائبها بطريقة تشبه الديمقراطيات. مع احتفاظ الهيئة بالملفين العسكري والأمني بسبب حساسيتهما، وتراجعها عن أدوار «الحسبة» التي تراقب تطبيق الشريعة بين الناس، وابتعادها عن التعليم الموجّه، وضبطها الفتاوى لتتصالح مع الإسلام المحلي. أما بشأن الثانية، المجموعات الجهادية، فهو يقول إنه خير من يعرفها في المنطقة، والأقدر على ضبط إيقاعها في السياق العام، بالاستيعاب أو بعمل عسكري محدود أو بسجن قادتها وتجفيف تمويلها، فلا تشكّل خطراً يؤبه له عالمياً. وقل مثل ذلك عن خلايا داعش المتسربة من أراضي دولتها المنهارة إلى الشمال السوري.

يحاجج زوارُ الجولاني الغربيون بأن هذا أفضل الموجود بالمقارنة مع انهيار الهدنة الهشة القائمة، وربما سيطرة النظام وحليفه الروسي على إدلب، بما يعنيه ذلك من كارثة إنسانية ضخمة وموجات نزوح ولجوء، بالإضافة إلى خروج الجهاديين من القمقم، سواء أكانوا من بقايا الهيئة أو من جوارها. هذه النتائج التي لن تختلف كثيراً في حال كانت العملية العسكرية المفترضة تركية، بمشاركة فصائل الجيش الوطني، كما يطالب الروس شركاءهم في أستانة.

يصلح مثالان تاريخيان لوصف مناورة الجولاني الراهنة. الأول من التراث الإسلامي الذي عرّف «الطائفة الممتنعة» وأضاف إليها أحياناً كلمة «بشوكة»، أي بقوة عسكرية. في سياق مختلف عن المنبت الفقهي يقدّم الجولاني نفسه كزعيم طائفة ممتنعة، بشوكة وبشعب وبحكومة. يجلس على فوهة البركان مجبراً الآخرين على التفاوض معه. أما المثال الثاني فمن تاريخ الكولونيالية، عندما كان الفاتحون يقايضون رجال القبائل البدائية على الذهب مقابل خرز بللوري ملون جلبه المستعمرون البيض. لكن التاجر المحلي المحتال هو من يزيّن لضيوفه شراء الخرز المبهرج هذه المرّة.

يعرض الجولاني ما يريد أن يتخلص منه أصلاً من تنظيمه ومن الحالة الإسلامية المحيطة. فحتى في السنوات التي ارتبط فيها بالقاعدة، تحت اسم «جبهة النصرة» بين عامَي 2013 و2016، لم يُبد الفرع السوري ميلاً جهادياً خارج الحدود. وما قيل عن «الخراسانيين» وقتها بقي كلاماً دون دليل، فضلاً عن أنهم أفراد من خارج «النصرة». أما الجرعة السلفية الجهادية العالية للتنظيم حينها فكانت مما اضطر إليه للحفاظ على تماسك جماعته المتقلصة وبقية مهاجريها في وجه الخطر الداعشي الداهم ودعايته الآيديولوجية الشرسة. وحالما «وقعت داعش في شر أعمالها» وأصبحت هدفاً دولياً ملحاً، سارع الجولاني إلى التخلص من الحمولة الزائدة من شرعيين وقادة متشددين وجدوا طريقهم إلى الانشقاق تباعاً وتشكيل المجموعات التي يقايض الآن لضبطها.

كعب آخيل الجولاني ليس الآيديولوجيا، وبيته ليس «القاعدة» التي دخلها ليحتمي مؤقتاً من مطر داعش الأسود. بيته هو المملكة الهجينة التي يمتنع بها اليوم في إدلب

ما ينبغي أن يطرحه الجولاني على طاولة التفاوض، التي يجب أن تكون سورية قبل أن تكون غربية، هو مقوّماته الثمينة؛ قوة الأمنيين التي يوجهها كيف يشاء ضد خصومه على اختلافهم؛ السجون المروعة التي يديرها محققوه وجلادوه وقضاته في التهم «السياسية»، تاركين القضايا الجنائية لهيكل وزارة العدل؛ الهيمنة التي يحتفظ بها رجاله النافذون في الظل على مفاصل الحكومة؛ الموارد التي تدخل خزينته من المعابر والجباية والشركات الكبيرة التي يديرها معتمدوه الفاسدون؛ الإمكانات العسكرية التي استولى عليها بتفكيك فصائل عديدة؛ النسب المالية والحصص العينية المفروضة من الباطن على المنظمات العاملة في إدلب... إلخ

كعب آخيل الجولاني ليس الآيديولوجيا، وبيته ليس «القاعدة» التي دخلها ليحتمي مؤقتاً من مطر داعش الأسود. بيته هو المملكة الهجينة التي يمتنع بها اليوم في إدلب، آملاً في الحفاظ عليها وتوسيعها واستصدار «إخراج قيد» لها من أي جهة تسجيل «واقعات». وهو يريد أن يعترف به العالم كأمر واقع دون أن يقدّم منها شيئاً معتبراً، لا السلطة الفعلية، والعسكرية والأمنية، ولا الاقتصاد.

            لكن العالم ليس ساذجاً، ولا يقوده بضعة باحثين «يفكرون خارج الصندوق»!