مستقبل إدلب بعد قمة طهران: احتمالات التسوية والمواجهة

2018.09.11 | 16:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

اختُتمت قمة طهران التي استضافت الاجتماع الثالث لزعماء الدول الضامنة لاتفاق أستانة (روسيا، وتركيا، وإيران)، في 7 أيلول/ سبتمبر 2018، من دون التوصل إلى اتفاق يجنّب منطقة خفض التصعيد الرابعة والأخيرة في محافظة إدلب مصير المناطق الأخرى. وقد شهدت القمة سجالًا علنيًّا بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان. فقد أصرت تركيا على ضرورة احترام الاتفاق الخاص بإدلب، حيث يعيش أكثر من ثلاثة ملايين مدني، أكثرهم نازحون من مناطق سورية أخرى، وجرى تأكيد هذا الأمر خلال القمتين السابقتين: الأولى في سوتشي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، والثانية في أنقرة في نيسان/ أبريل 2018. أما روسيا فقد رفضت أي دعوة إلى وقف إطلاق النار، أو إعطاء مزيد من الوقت للتوصل إلى تسوية سياسية، في إطار سعيها بالتعاون والتعاضد مع طهران لإعادة المنطقة إلى سيطرة النظام السوري، وإنهاء وجود المعارضة العسكرية فيها، قبل البحث في أي حل سياسي للصراع في سورية.

 

مناورة أستانة وخفض التصعيد

نشأ مسار أستانة إثر توافق روسي - تركي، أفضى إلى إنهاء معركة حلب الشرقية في كانون الأول/ ديسمبر 2016، وإجلاء فصائل المعارضة عنها. وقد انضمت إيران إلى هذا التوافق، بعد أن فشلت في إعاقته أول الأمر. وفي ربيع 2017، عندما بدا أن معركة الموصل التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية ضد تنظيم الدولة "داعش" في طريقها إلى الحسم، وأن التركيز الأميركي سوف ينتقل بعدها إلى سورية، بدأ القلق من نجاح الولايات المتحدة في انتزاع أكثر الأراضي التي يسيطر عليها داعش في سورية يساور روسيا؛ إذ بدأت التحضيرات الأميركية بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) للزحف على الرقة، ومناطق أخرى يسيطر عليها داعش شرق نهر الفرات. في هذا السياق، طرحت روسيا، في إطار مسار أستانة، فكرةَ خفض التصعيد التي كان المبعوث الأممي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا أول من اقترحها باسم تجميد الصراع عام 2014.

بناءً عليه، توصلت الدول الثلاث الضامنة لمسار أستانة في أيار/ مايو 2017 إلى اتفاق لخفض التصعيد أو تجميد الصراع في أربع مناطق رئيسة تسيطر عليها المعارضة؛ هي: إدلب ومحيطها في الشمال، ومناطق ريف حمص الشمالي في الوسط، وغوطة دمشق الشرقية في محيط العاصمة، ومنطقة الجنوب الغربي، التي تضم محافظات درعا والقنيطرة وأجزاء من السويداء. سمح هذا الاقتراح لروسيا، وحلفائها الذين كانوا يفتقرون إلى الموارد البشرية اللازمة، بتوجيه القوات المنتشرة على مختلف الجبهات مع المعارضة، بالتركيز على قتال تنظيم الدولة في سياق السباق مع الأميركيين للسيطرة على أراضي التنظيم، ثم للاستفراد بجبهة بعد أخرى مع فصائل المعارضة السورية التي أخذت موضوع خفض التصعيد على محمل الجد.

وما أن انتهت الحرب على تنظيم الدولة واتضحت مناطق السيطرة الروسية والأميركية، والتي مثّل نهر الفرات حاجزَ فصل طبيعيًا بينها، حتى عادت روسيا إلى التركيز على حسم الصراع مع المعارضة في مناطق خفض التصعيد. وكانت البداية في غوطة ريف دمشق، تبعها ريف حمص الشمالي، ثم منطقة التصعيد في الجنوب الغربي، حيث تم حسم الموقف فيها بالتفاهم مع إسرائيل التي وافقت على عودة جيش النظام إلى الحدود مع الجولان المحتل، في مقابل إبعاد الميليشيات الإيرانية عن المنطقة، وعودة العمل باتفاق فك الاشتباك لعام 1974.

في كل هذه المناطق، كانت روسيا تتبع النمط العملياتي نفسه تقريبًا: قصف جوي عنيف يستهدف الحاضنة المدنية للضغط على فصائل المعارضة للاستسلام، يتم على إثره الاتفاق على تسليم الفصائل سلاحها الثقيل، ثم نشر شرطة عسكرية روسية في المنطقة، وترحيل من يرفض اتفاقات المصالحة مع النظام من مدنيين وعسكريين إلى منطقة التصعيد في إدلب، التي حولتها روسيا إلى مكان لتجميع كل المعارضين على الأرض السورية، يثما يأتي دورها في الحسم.

 

ثلاثة سيناريوهات

مثلت إدلب آخر مناطق خفض التصعيد التي جرى التوصل إلى اتفاق تفصيلي بشأنها بين تركيا وروسيا في أيلول/ سبتمبر 2017، وبدأ التركيز عليها أخيرًا بعد أن حسم الروس مصير المناطق الثلاث الأخرى. وفي ضوء فشل قمة طهران في الاتفاق على مستقبل المنطقة، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات ممكنة فيها:

1. السيناريو الأول

أن تنجح تركيا في شراء مزيد من الوقت، لإنضاج جهودها الرامية إلى الفصل بين المعتدلين والمتشددين من الفصائل الموجودة في إدلب، وحل مشكلة المتشددين الذين يضمون عناصر من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) وتنظيم حراس الدين (معظم عناصره غير سوريين) والجيش الإسلامي التركستاني (التنظيم الجهادي الإيغوري). وكانت روسيا أمهلت تركيا شهرًا لحل هذه المشكلة، حاولت خلالها إقناع هيئة تحرير الشام بحل نفسها، ودمج عناصرها من السوريين مع فصائل المعارضة السورية المعتدلة وترحيل "الغرباء" أو الأجانب. لكن هذه الجهود لم تثمر في ضوء رفض الهيئة هذه المطالب؛ وهو ما حدا بتركيا إلى تصنيفها فصيلًا إرهابيًّا، في مؤشر إلى استعداد أنقرة لمواجهتها عسكريًا إذا ظلت مُصرة على موقفها[1].

ورغم أن هذا السيناريو يبدو ضعيفًا في ضوء إصرار روسيا المعلن على عدم منح تركيا أي وقت إضافي للاستمرار في جهود عزل المتشددين وتفكيك تنظيماتهم لتجنيب إدلب مواجهة دموية تدفع بمئات آلاف اللاجئين نحو الحدود التركية، فإن موسكو تبدو مع ذلك حريصة على ألا تفجر عملية أستانة خاصة بعد أن هدد الرئيس أردوغان خلال قمة طهران بأن هجومًا شاملًا على إدلب سوف يؤدي حتمًا إلى انهيار هذا المسار[2]. فروسيا تحتاج إلى دعم تركيا في أي عملية سياسية محتملة؛ نظرًا إلى ما تتمتع به أنقرة من تأثير في فصائل المعارضة السورية، ومن نفوذ كبير على المجتمعات المحلية خاصة في شمال سورية.

2.السيناريو الثاني

أن تشن روسيا وحلفاؤها هجومًا محدودًا في إدلب لتحقيق مجموعة من الأهداف؛ أبرزها دفع تركيا وائتلاف فصائل المعارضة التي أشرفت على توحيدها تحت اسم "الجبهة الوطنية للتحرير" إلى الدخول في مواجهة مسلحة للقضاء على الجماعات المتشددة. وقد تحاول روسيا أيضًا من خلال عملية عسكرية محدودة إبعاد فصائل المعارضة أكثر في اتجاه الشمال؛ بحيث تتمكن من تأمين قاعدة حميميم الجوية التي تتعرض بين الفينة والأخرى لهجمات بطائرات درونز مصدرها مواقع المعارضة السورية في مناطق تقع في جنوب غرب إدلب، قرب الحدود مع محافظة اللاذقية، وهي المناطق التي تركز روسيا القصف عليها في المرحلة الراهنة.

أما النظام، فقد يسعى أيضًا، من خلال عملية عسكرية محدودة ضد أجزاء من محافظة إدلب، للسيطرة على القسم المتبقي من الطريق الدولي بين حلب وإدلب. يعزز هذا الاحتمال حقيقة أن المعارك التي خاضها النظام ضد فصائل المعارضة على مدى العامين الأخيرين كانت تدور على مسار الطريق الدولي الممتد من الحدود الأردنية جنوبًا إلى حلب شمالًا بطول 450 كيلومترًا تقريبًا. وقد تمكن النظام، من خلال السيطرة على درعا مؤخرًا، من تأمين الجزء الواصل نحو الحدود الأردنية، بعد أن أمّن الجزء المتصل بالغوطة الشرقية، ثم الجزء المار بريف حمص الشمالي، ولم يتبق له للسيطرة على كامل الطريق سوى الجزء الواصل بين إدلب وحلب، والذي يمر في مناطق خان شيخون، ومعرة النعمان وسراقب، وهي المناطق التي يتركز قصف النظام عليها حاليًا.

3. السيناريو الثالث

أن تشن روسيا وحلفاؤها هجومًا شاملًا، يستهدف إعادة كامل محافظة إدلب إلى سيطرة النظام، وفرض تسوية على الفصائل الموجودة فيها بقوة النيران، والقضاء على من لا يقبل منها. وقد بدأ النظام بالحشد وإلقاء مناشير يدعو فيها السكان إلى العودة إلى حضن النظام، والمقاتلين إلى إلقاء السلاح بحجة أن الحرب انتهت وأنه لا خيار أمامهم[3]. لكن مثل هذا الهجوم يبدو ضعيف الاحتمال، في هذه المرحلة على الأقل؛ فالنظام لا يملك قدرات بشرية كافية لشن هجوم شامل على منطقة تقترب مساحتها من مساحة لبنان (نحو 10 آلاف كم مربع) وفيها بحسب تقديرات عديدة ما يراوح بين 60 و70 ألف مقاتل من عناصر المعارضة المجهزين بأسلحة ثقيلة[4]، وممن تمرسوا بالقتال لسنوات عديدة، وهم فوق ذلك يعدون من أشرس المقاتلين، وأشدهم عداء للنظام، وليس أمامهم خيار إلا الموت بعد أن غدت إدلب ملاذهم الأخير. لذلك فان معركة كهذه ستكون طويلة وصعبة من الناحية العسكرية من جهة، كما أن شن معركة شاملة بوجود نحو ثلاثة ملايين مدني تعني حمام دم وموجات نزوح بمستويات غير مسبوقة في الحرب السورية من جهة أخرى. سيولّد هذا الأمر ضغوطًا كبيرة على روسيا، ويصيب بمقتل إستراتيجيتها الجديدة التي تقوم على إعادة اللاجئين واستقطاب جهود دولية للقيام بإعادة الإعمار. إن تهجير ثلاثة ملايين لاجئ يعني سقوط الإستراتيجية الروسية الساعية لإعادة الشرعية للنظام المتهالك من بوابة إعادة الإعمار واللاجئين.

كما أن وجود 12 نقطة مراقبة عسكرية تركية، تم إنشاؤها بالاتفاق مع روسيا بموجب اتفاق خفض التصعيد، وقيام تركيا بدفع مزيد من قواتها اتجاه إدلب، يهددان بحصول مواجهات بين القوات التركية والقوات المهاجمة، وقد يؤدي هذا الأمر إلى إعادة العلاقات التركية - الروسية إلى المربع الأول الذي تلا إسقاط تركيا طائرة روسية على حدودها مع سورية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.

في هذه الأثناء، يبدو العمل على موضوع اللجنة الدستورية مع دي مستورا في جنيف إيهامًا للرأي العام بوجود أفق للمسار السياسي مع النظام، في الوقت الذي يتم فيه إعادة ترميم نظام الاستبداد في المناطق التي استعادها، والاستعداد عسكريًا لمعركة إدلب.

 

الموقف الأميركي

يبقى الموقف الأميركي الأشد غموضًا بين مواقف الدول جميعًا، وقد كشف غياب دوره عن مدى استضعاف كل من إيران وروسيا لتركيا، بعد تخلي الحليف الأميركي عنها، وعدم إبداء واشنطن موقفًا واضحًا من تطورات الوضع في إدلب. ورغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، غرد محذرًا من عملية عسكرية "غير مسؤولة" في إدلب وكأنه معلّق سياسي، من دون أن يوضح ما يعنيه بهذا الكلام، فقد اكتفى أركان إدارته من المدنيين والعسكريين بالتحذير من استخدام السلاح الكيماوي في الهجوم على إدلب، وذلك بحسب مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد[5]. أما السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، فقد بدت كأنها لا تعارض شن عملية عسكرية في إدلب، يتم فيها القضاء على التنظيمات المتطرفة، بشرط عدم استخدام السلاح الكيماوي.

 

خاتمة

تمثّل إدلب ومستقبلها اختبارًا جادًّا للعلاقة بين شركاء أستانة الثلاثة؛ فمعركة كبرى في هذه المحافظة سوف تؤدي بلا شك إلى القضاء على عملية أستانة، وإخراج تركيا ربما نهائيًا من ساحة الصراع السوري وإنهاء نفوذها فيه. لكن هذا سيجعل في المقابل الحل السياسي الذي تقوده روسيا غير ممكن أيضًا من دون تركيا. ثمّ إن الإفراط في ممارسة الضغوط على تركيا قد يدفع بها مجددًا إلى أحضان الولايات المتحدة، رغم أن الرئيس بوتين يراهن على أن هذا غير ممكن بسبب عمق الخلافات بين أنقرة وواشنطن. لكن هذا الأمر قد يتغير، إذا قررت واشنطن استغلال الضغط الروسي على تركيا لاستعادتها إلى صفها وإنهاء أي إمكانية لاستمرار التقارب بينها وبين روسيا، ولا سيما أن واشنطن تتجه إلى تغيير رأيها والبقاء في مناطق شرق الفرات بعد أن ألمحت إلى رغبتها في الانسحاب. في كل الأحول، لا يبدو أن الصراع على سورية يقترب من نهايته بفتح معركة إدلب، بقدر ما يوحي بدخوله مرحلة جديدة عنوانها استمرار الصراع، ولكن بأدوات ووسائل أخرى.

 

للاطلاع على المادة من المصدر اضغط هنا