كما فعل النظامان في مصر واليمن استعان الأسد، لقمع الاحتجاجات، بأصحاب السوابق الذين شملتهم مراسيم عفوه منذ 2011. والتي أدت، في بعض الأحيان، إلى تقليص إجمالي مدهش لمدة الحكم، بتراكم آثار هذه المراسيم، وبالاستفادة من تخفيض «ربع المدة» المعروف لحَسَني السلوك المزعومين.
بل إن النظام عرض على عتاة نزلاء سجن دمشق المركزي (عدرا)، عام 2015، ممن لم يخرجوا رغم كل ما سبق، أن ينضموا مباشرة إلى قواته التي تعاني من نقص مزمن. وبالفعل، نقل من رغب منهم في ذلك إلى جبهات القتال بالمروحيات فوراً، دون تدريب وتأهيل كافيين. وكان أسوأ هؤلاء حظاً من لاقوا حتفهم سريعاً على يد داعش أثناء حصارها مطار دير الزور العسكري.
على الضفة الأخرى، انضم عدد من الجنائيين إلى الثورة، ضمن موجة من الحمية الأهلية والنخوة التي اجتاحتهم ومن في حكمهم من غير الخارجين على القانون في السجلات، بالإضافة إلى نوع من «القبضايات» أو «زكرتية» الحارات. وقد أسهم هؤلاء في حماية المظاهرات حين شعر المحتجون أن الوقت حان ليكفّوا عن تقديم الضحايا دون ردة فعل... ودون فائدة.
أما من لم يأتِ إلى الثورة من الجنائيين من أبناء المناطق المنتفضة فقد جاءته هي، إما بتحرير بلدته دون إسهام منه، مما منحه شعوراً مسكِراً بالتحرر من السلطة التي لن تستطيع الوصول إليه بعد الآن؛ أو بسقوط السجن الذي كان يُحتجز فيه بيد الفصائل المعارضة، كما في إدلب ودرعا والرقة.
في البداية أخذ هؤلاء يلملمون أنفسهم في مجموعات من بضعة أفراد حملت السلاح، بأثر طاقة التمرد لديها وثأرها مع السلطة وشجاعتها النسبية. وبالتوازي مع ذلك أخذت ظاهرة الانشقاق عن الجيش تتسع، ليجتمع الجنود والضباط من رتب دنيا في كتائب مسلحة حكماً. كما أخذت قطاعات متنوعة من المنتفضين تتحول إلى العسكرة تدريجياً. شهد عاما 2012 و2013 ذروة المقاومة الشعبية التي عرفت عموماً بالجيش الحر، وشكّل الجنائيون السابقون أحد روافدها الملحوظة، وإن كانوا وقتها في حال من الذوبان ضمن الشعارات العامة، وربما التفاني من أجلها.
تطورت الكتائب فصارت ألوية، وما كان يمكن تأمينه من هنا وهناك صار أرقاماً كبيرة. وفي حين كان بوسع الفصائل الوطنية أو الإسلامية الحصول على احتياجاتها بطرق أيسر، فإن السمعة السابقة للجنائيين أدت إلى إحجام كثير من المتبرعين المحليين القادرين آنذاك، كما أبعدت الداعمين العرب المدفوعين بالمشاعر الدينية. فلجأ المتمردون المحترفون إلى تمويل ألويتهم بالاستيلاء على الممتلكات العامة التي رأوها هدفاً مشروعاً بشكل بديهي -وهو موقف معظم السوريين في الحقيقة- بدءاً من سيارات المؤسسات الحكومية وصولاً إلى مبانيها. كما مارسوا الخطف للحصول على فدية، ولا سيما لأشخاص من العلويين أو الشيعة (والمسيحيين) في مناطق التداخل الطائفي. وعندما تدفع الحاجة كان يمكن تجاوز ذلك إلى من يُتهم بأنه «شبيح» أو «عوايني» (مخبر) أو مجرد «مؤيد»، بأدلة واهية أو أختام مناطقية لا تخلو من نزوعات طبقية. وعندما خرجت موارد عامة أهم عن سيطرة النظام، كآبار النفط والمعابر الحدودية ومناطق الآثار وصوامع الحبوب، أظهر هؤلاء الشرسون استماتة للتحكم، أو المشاركة، في الدخل الوارد من هذه المصادر، ولا سيما منهم الألوية التي تشكّلت أو توسعت بالاستناد إلى رابطة أهلية إثر تحرير منطقتها، وربما لم تقاتل النظام أساساً.
مع محاولة تنظيم الجيش الحر تحت مظلة الأركان، وإتباع الفصائل لجبهات مقسمة جغرافياً ومجالس عسكرية للمحافظات، كشرط للحصول على الدعم المنظم؛ عانت «ألوية الفوضى» من عدم طواعيتها للضباط ذوي الرتب المتوسطة والعليا الذين كانوا قد انشقوا الآن ويهدفون إلى تشكيل نوع من «جيش وطني». وتحايلت على ذلك، أحياناً، بضم ضابط أو أكثر إلى الفصيل بصورة شكلية تقريباً، بينما ظلت قيادته الفعلية بيد المدنيين السابقين من مؤسسيه المتحكمين.
غير أن نعوة هذه الألوية لن تلوح إلا في النصف الثاني من 2013 وفي العام اللاحق، مع ميل الفصائل إلى الاتحاد في قوى كبرى، وبقاء المجموعات العصية على الاندماج لقمة سائغة لأي تكتل وازن، وهو ما لن تتأخر عن اقتناصه كلٌّ من جبهة النصرة وداعش. فقد بنى التنظيمان جزءاً من شعبيتهما في البداية على دعوى «محاربة المفسدين»، بعد أن ضاق أهالي المناطق المحررة ذرعاً بالسلوكات الفظة والفوضوية للأخيرين وباتساع المسافة التي تفصلهم عما يُفترض أنه أخلاق الثورة، بالتوازي مع أحاديث شائعة عن ثروات كبيرة قيل إن قادة هذه الفصائل راكموها من استخراج النفط وتكريره والتجارة في مشتقاته، وإيرادات المعابر، وتهريب البشر والبضائع، وبيع الآثار.
دافعت هذه المجموعات عن نفسها ضد الجهاديين بشراسة، ولا سيما أنها غير إسلامية تعريفاً، فكل ما فيها شعبي ومنفلش، من الدين إلى الثورة إلى قتال النظام إلى الهيكلية الداخلية. بل إنها اعتُبرت شكلاً من الفصائل «العلمانية» مع سيادة التوجه الإسلامي على المشهد العسكري ومجاراة كثير من القوى المعتدلة له. وصارت مناطق سيطرة «المفسدين» مقصد النشطاء والإعلاميين إذا شعروا بخطر يتهددهم من النصرة أو داعش، حيث كانوا يلقون الأمان والترحاب، ولكن دون أن يجدوا آذاناً صاغية لمواعظهم الثورية التي يخترقها الفصيل يومياً، سواء بالاستيلاء على الأملاك الخاصة (التشويل) أو بإطلاق القذائف العشوائية على المدنيين.
ومع تعقد الوضع، وتأخر الدعم العسكري الغربي حتى أخذت الحال بالتعفن، صرت لا تعدم «خبيراً» أميركياً يوجّه إلى اختيار بعض هذه الفصائل لمجرد وقوفها في وجه داعش! وفي هذه الحال أبدى «المتمردون» قابلية عالية للالتزام بالتوجيهات الغربية، رغم أن الدعم كان يجد طريقه، في معظم الحالات، إلى مخازن داعش أو النصرة، حين تفكك الفصيل وتستولي على سلاحه، ويأخذ قادته طريقهم إلى تركيا يجترّون الأمجاد. وجزئياً، في سياق تحول الثقل العسكري من الجيش الحر، بفصائله غير المنضبطة ضمناً، إلى «المجاهدين»؛ فعل جيش الإسلام في الغوطة ما فعلته داعش والنصرة في الشمال والشرق.
تم استئصال هذه الفصائل. وكلما أمكن عُرضت على عناصرها البيعة، فاستجاب البعض وصار من أمنيي داعش أو مجموعات النصرة، ورفض آخرون مفضّلين إلقاء السلاح تسليماً بانتهاء المغامرة، أو انضموا لاحقاً إلى «قسد» أو «درع الفرات» أو «غصن الزيتون». وفي ظل حاجة كل القوى إلى ذخيرة بشرية، وعدم قدرتها، غالباً، على إنزال العقوبات الداخلية المستحقة «بالمتجاوزين»؛ سمّم الجنائيون الذين لم تطهّرهم الثورة فصائل كثيرة ومتصارعة، وخطّوا نهجاً تبعه كثير من الشبان الذين نشأوا خلال السنوات الماضية في أرض الإفلات من العقاب وعلى حال لم يعرفوا غيرها، كل ما فيها يشجع على الفوضى، ابتداء من حمل السلاح، مروراً بقلّة فرص العمل، وحتى تشوّش البوصلة التي كانت ألهمت جنائيين آخرين مثالاً من السمو لم يعيشوه من قبل، فمنهم من قُتل في سبيله ومنهم من ينتظر.