icon
التغطية الحية

مساجلة شعرية تحت قبة البرلمان السوري

2022.06.09 | 14:03 دمشق

brlman.jpg
+A
حجم الخط
-A

في عام 1947 جرت الانتخابات التشريعية الخامسة في تاريخ سوريا، والأولى بعد الاستقلال، وخاضتها أحزاب ومستقلون، وشهدت إقبالاً جماهيرياً واسعاً، لتنجلي عن انتخاب 136 نائباً عن الشعب، رئيسهم العلامة فارس الخوري، ومنهم الأديبان الشاعر الكبير محمد سليمان الأحمد (1903- 1981) الشهير بـ"بدوي الجبل" والذي أصبح أمين سر المجلس، والقاص والأديب الكبير الطبيب عبد السلام العجيلي (1918- 2006).

وبعيداً من السياسة ومناوراتها في تلك المرحلة التي تُوصف بالذهبية والديمقراطية، نسرد قصة قصيدة طريفة كُتبت تحت قبة البرلمان في تلك الدورة التشريعية، رواها الأديب الراحل عبد السلام العجيلي، أحد أساطين الأدب في القرن العشرين، في الجزء الأول من كتابه "ذكريات أيام السياسة" الصادر في طبعته الأولى عام ألفين واثنين.

أما أبطال قصتنا، فهم النائب في البرلمان الذي انتخب عام 1947 الشاعر بدوي الجبل، والنائب الشاعر عبد السلام العجيلي، ورئيس البرلمان آنذاك العلامة فارس الخوري.. انظروا من كان نوابنا في ذلك الزمان ومن نوابنا اليوم!

يقول العجيلي: كنت أهمُّ في ظهر يوم ما لحضور "حلقة الزهراء" الأدبية التي كنت مواظباً على حضورها (وحلقة الزهراء هي حلقة أدبية شهيرة أسستها في دمشق منتصف الأربعينيات ثريا الحافظ في بيت زهراء العابد زوجة محمد علي العابد أول رئيس لسوريا)، وقبل الحلقة زرت صديقي الشاعر الكبير بدوي الجبل في فندق أوريان بالاس، حيث كان موجوداً هناك لحضور الجلسة النيابية في ذلك اليوم، وهو أمين سر المجلس.. عرضت على بدوي الجبل مرافقتي إلى الحلقة، فأبى وتعلل بجلسة مجلس النواب، فلما ألححت في طلبي، استجاب، على أن نغادر قبل انعقاد جلسة المجلس..

يصف العجيلي حلقة ذلك اليوم بالقول: حضرت الحلقة في تلك الأمسية، إلى جانب روادها من المثقفين والكتاب، بزمرة رائعة من السيدات والأوانس، تألقت بينهن صبية فاتنة الحسن رقيقة التهذيب، اسمها (سلمى. ع). وبدا لي أن صديقي الشاعر لم يندم على نزوله على اقتراحي، بل إن جو الندوة راق له إلى درجة نسي فيها جلسة البرلمان! واحتجتُ أن أذكره بموعد الجلسة ومكانه الشاغر الذي ينتظره إلى جانب رئيسنا وأستاذنا فارس بك الخوري حتى يطاوعني ويغادر الحلقة.

في الجلسة النيابية، وبينما كان العجيلي في مقعده، جاء إليه أحد السعاة بورقة مطوية من أمين سر المجلس، يقول العجيلي: فضضت الورقة فإذا فيها بيت شعر واحد:

لا تبال والخيرُ في أن تبالي

ألهجرٍ تصدُّ أم لدلالِ؟

ضحكت وأخفيت القصة عن زملائي الذين سألوني عن سر ضحكتي، وتناولت قلمي ورحت أجيبه:

لو تراها وأومضت مقلتاها

تسكب الشوق في ثنايا السؤالِ

أين لا أينَ شاعرٌ بدويٌّ

مُلهَم الروح عبقريُّ الخصالِ

قلت أودى بلُبِّهِ يا سليمى

خافقٌ هام في فنون الجمالِ

كلنا في هواكِ صبٌّ عميدٌ

مثلُ بدوِ السهول بدوُ الجبالِ

وأعدت الورقة مع الساعي إلى المنصة وعيني عليه، وكذلك أعين زملائي، ولحظنا جميعاً كيف قرأ البدوي الورقة ومال بها إلى الرئيس يتلوها عليه، وكيف كان فارس الخوري يهز هامته الضخمة لتلك التلاوة، ولم يلبث الساعي أن عاد إليّ بورقة مطوية أخرى، فضضتها فإذا بها تحمل هذه الأبيات الرائعة:

ما لسلمى بعد المشيب ومالي

بدعةُ الحبِّ صبوتي واكتهالي

إن حبَّ الجمال أصبح عندي

بعد شيبي عبادةً للجمالِ

كلما لاح بارقٌ من سناهُ

جنّ قلبي وضلَّ أيَّ ضلالِ

وأنا الظامئ القنوع كفاني

عن ورود الغدير ومضةُ آلِ

أعشق الحسن نظرةً وحناناً

ورؤى حالمٍ وطيفَ خيالِ

وأحبُّ الجمال يلهمني السحر

وأهواهُ مُشرباً بالدلالِ

يقول العجيلي: قرأت الورقة وطويتها واحتفظت بها لنفسي، غيرَ مشبعٍ فضول رفاقي ولا فضول الصحفيين الذين ظنوا الأوراق الذاهبة والآتية بيني وبين أمين سر المجلس مناورة سياسية، ولم أبح بسر الورقة رغم إلحاح الصحفيين بعد الجلسة، ولم أنشر سر هذه الأبيات التي نظمها نائبان من نواب الأمة قبل اليوم.

ولمن يسأل عن مصير سلمى، كي لا تبقى في القصة غصة، فسلمى تزوجت قريباً لأسرتها من العراق وسافرت إلى بلد بعيد. وبقي لنا القصة عبقرية شاعرين من إرثنا السوري العظيم.